ووضعت صاحبة المكان أمامهما كأسين من الجعة بابتسامة.
“استمتعا بطعامكما.”
“شكراً.”
كان عطر الطعام شهياً لدرجة أن كلير أدركت مدى جوعها.
قطع تيوبالت لها الأسياخ والنقانق إلى قطع صغيرة لتأكل بسهولة.
“تيو، لا أستطيع أكل كل هذا!”
“أنتِ نحيفة جداً.”
“لكن المحافظة على وزن زوجة ولي العهد إحدى أهم قواعد آداب القصر—”
“فلتذهب تلك القواعد السخيفة إلى الجحيم.”
سكتت كلير لا إرادياً من قوة كلماته.
“والآن بعد أن أصبحتِ وليّة العهد رسمياً، فلن تجرؤ الإمبراطورة الأم على معاملتكِ بتلك الطريقة. فلا تقلقي وكلي.”
كان يتحدث وكأنه يعرف تماماً ما يدور في ذهنها.
كانت كلماته لطيفة لدرجة تجعل القلب يوجع.
وكانت عيناه الذهبيتان تلمعان ببهاء لا يمكن تجاهله.
ترددت كلير قليلاً، ثم قضمت من سيخ الدجاج المشوي بحذر.
في الماضي، عندما كانت ترتدي الحجاب، لم تكن تستطيع تناول الطعام في الخارج، فكانت تتضور جوعاً. أما الآن فالقناع الذي يغطي نصف وجهها جعل الأمر أسهل بكثير.
“لذيذ!”
تلألأت عيناها.
كان الدجاج المشوي مليئاً بالعصارة، والصلصة الحلوة ذات النكهة الغنية كانت تفتح الشهية.
بعد سنوات من تناول الشوفان أو الفاكهة فقط، كان هذا الطعم القوي يوقظ حواسها من جديد.
“عيناك تقولان كل شيء.”
ضحك تيوبالت بعدما رأى كيف تستمتع بالطعام، ثم بدأ هو بالأكل أخيراً.
كان يأكل أسرع منها بكثير، لكن أناقته لم تتزحزح.
النبلاء يبقون نبلاء، فيما يبدو.
وجدت نفسها تنظر إليه كثيراً دون قصد.
كان تناول الطعام معه ممتعاً للغاية.
وصاحبة المكان كانت تتحدث معهما بين حين وآخر حتى لا يملّا.
ولأول مرة في حياتها، تحدثت كلير كثيراً مع شخص غريب، فشعرت بشيء جديد وغريب في الوقت ذاته.
وبينما تشرب نبيذ الفاكهة الذي قُدّم لهما كخدمة، احمرّ وجهها، فوضعت يدها على خدها لتبريده.
“هل نخرج قليلاً؟ الهواء سيفيدك.”
“نعم… أشعر بالحر قليلاً.”
ابتسم تيوبالت وهو يمد يده لها.
كانت حرارة يده العارية شيئاً لم تعتد عليه بعد.
اتجه الاثنان بعد ذلك إلى حديقة صغيرة بعيداً عن الشارع الرئيسي.
كانت كلير تحمل بيدها كوباً من شاي الأعشاب الدافئ الذي اشتراه لها تيوبالت.
“من يمشي وهو يحمل كوب شاي هكذا؟”
تمتمت كلير، ترى أن الأمر غير لائق، لكنه ابتسم بخفة وقال:
“ولمَ لا؟ لقد دفعنا ثمن الكوب، فلا مشكلة.”
“ولكن…!”
“ألا تظنين أن احتساء الشاي بينما نشاهد الألعاب النارية سيكون أمراً جميلاً؟”
استسلمت كلير في النهاية للرائحة الهادئة المتصاعدة من كوب الشاي، فأغلقت فمها دون اعتراض.
وبينما كانت تحتفظ بالشاي الدافئ في فمها، ألقت نظرة على ما حولها. كان وقت بدء الألعاب النارية قد اقترب، ولذلك بدا المكان هادئاً على نحو يثير الدهشة.
وسط هذا السكون، تسللت إلى قلب كلير مشاعر سلام خفيف.
كانت نسمات الليل تداعب خصلات شعرها البلاتيني، فتحركت بلطف مع الريح.
وامتدّ أمامها ليل صافٍ كما لو أنه قابل للمسّ.
رفعت كلير يدها وجمعت خصلات شعرها المبعثرة خلف أذنها. كان الدفء الذي صعد إلى رأسها بفعل الكحول يمنحها شعوراً لطيفاً، وجعل طرفي شفتيها يرتفعان بشكل لا إرادي.
‘ابتداءً من الغد… لن أستطيع الابتسام هكذا، أليس كذلك؟’
كانت لحظة سلام خاطفة.
فلا أحد يعرف ما الخطة التالية التي قد تُعدّها ليليانا أو إيفلين أو الإمبراطورة الأرملة غريسيلا لمحاصرتها وخنق أنفاسها من جديد.
أغمضت كلير عينيها ببطء، وقضمت شفتها بصمت.
حينها، ربت تيوبالت على ظاهر يدها مرتين بلطف، ثم أمسك بها بحرص.
رفعت كلير رأسها تنظر إليه بوجه متسائل، فقال تيوبالت بصوت جاد:
“ألم تكوني تعلمين أن القوة الإلهية تستطيع تنقية الكحول؟”
“…نعم؟”
حدقت فيه كلير بذهول كامل من هرطقته المفاجئة.
كان كلامه محض عبث، لكنها لم تسحب يدها من يده.
كانت القوة الإلهية الذهبية التي تسللت إليها تشعرها بدفء ناعم، كأنها تضمّ غيمة.
شعرت أن هذه العاطفة اللطيفة غريبة… لكنها غير منفّرة.
وربما… هذه هي الفرصة.
‘لقد وضعت القفازات في جيبي… ربما عليّ أن أجرّب الأمر على تيو الآن.’
المكان خالٍ إلا منهما… والألعاب النارية لن تبدأ بجدية قبل ساعة.
أطلقت كلير العنان لسلطتها الإلهية، مستعدة لخسارة جزء من عمرها إن اضطرّت.
لكن كالعادة… لم يحدث شيء.
لا رؤى عن ماضيه.
ولا لمحة عن أفكاره.
ولا حتى ألم، ولا نقصان في العمر.
لماذا…؟
كان الأمر يثير العطش في حلقها بشكل غريب.
كانت خائفة من سلطتها، لكنها في الوقت نفسه بدأت تشعر بالقلق لعدم قدرتها على قراءة ذاكرة تيوبالت وحده.
توالت الأسئلة في رأسها، وتذكرت الشخص الوحيد الذي يمكنه حل هذا اللغز.
‘القديسة مارغريت.’
ستراها في حفل الزفاف… وربما تعرف سبب عدم تمكنها من رؤية ذكريات تيوبالت.
إن كان هذا أمراً يحدث عادة، يمكن تجاهله… لكن إن لم يكن كذلك، فقد يؤثر على كل خططها.
‘لا بأس بمعرفة الحقيقة.’
نظرت كلير إلى يدها الممسوكة بيده، وغرقت في التفكير بصمت.
وفي تلك اللحظة، ومع صوت خافت، انطلقت أول شرارة مضيئة تشق الظلام.
تفتحت الألعاب النارية في السماء، تتلألأ ثم تتلاشى مثل بتلات مضيئة تهوي.
وانفلت من شفتيها إعجابٌ صادق:
“…يا لها من روعة.”
وبينما كانت تحدق بالمشهد الجميل مسلوبة الإرادة، شعرت بثقل نظرة تستقر عليها.
أدارت رأسها ببطء…
ورأت تيوبالت ينظر إليها بتركيز شديد، كأن بين شفتيه كلاماً لم يستطع إخراجه بعد.
بدا جاداً إلى أقصى حد حين نطق أخيراً:
“متى ظهرت قوتك لأول مرة؟”
في لحظة، تبخرت نشوة الكحول، ودوّى في أذنيها طنين حاد.
كانت الألعاب النارية التي أعلنت بداية الاحتفال… أشبه بجنازة تبشر بنهاية كلير.
“ماذا… تقصد؟”
“سلطتك. ما نوع قدرتك؟”
كان تيوبالت يعرف.
اهتزت عيناها البنفسجيتان خلف نصف القناع بشدة، كأن الأرض اهتزت تحت قدميها.
التعليقات لهذا الفصل " 21"