-الماعز والكلب-
حين بدأ الحديث عن الإمبراطورة الأرملة، خبت حدة لِيليانا بعض الشيء.
كانت الإمبراطورة الأرملة غريسيلا الشخص الذي تخشاه لِيليانا أكثر من أي أحد آخر.
“بسبب ظهور ذلك اللعين مجددًا، أصبح القصر الإمبراطوري كما مجلس النبلاء في فوضى. جلالته يحقق فيمن يقف وراء سرقة الأثر المقدس.”
“لكن… لا توجد أدلة بعد، أليس كذلك؟”
“والدتي العظيمة وضعتَه في منصب ولي العهد فقط لتهدئة غضبهم.”
حاول إيموس أن يغلف عجزه بستار من التبرير.
لكن ملامحه المتقنة ولسانه الماكر خدعا لِيليانا، فعضّت على أسنانها غيظًا.
“بغض النظر عن رغبة جلالتها… الاتفاق بيني وبينك انتهى الآن.”
نهض إيموس ببطء من مقعده، ومد يده ليمسح خصلات شعرها بنعومة.
ثم همس في أذنها بصوت خطرٍ وعذب في آنٍ واحد.
“إذا كنتِ حقًا ترغبين به، فالأولى أن تتحدي معي.”
“……”
“لا أحد في هذه الإمبراطورية قادر على مجاراة والدتي. حتى الإمبراطور عمي ليس سوى ظلٍ باهت. في النهاية، سيموت تيوبالت، وسأكون أنا الإمبراطور.”
اختفى ما كان في وجهه من ابتسامة، وارتجفت عينا لِيليانا الحمراوان.
“إن كنتِ تريدين تيوبالت، فسأقدّمه لكِ… لكن بعد أن يفقد عينيه وذراعه وساقه. إن كانت تلك هي رغبتك، فسيكون لكِ.”
ترددت لِيليانا لحظة.
لم تكن ترغب بامتلاك تيوبالت الملوّث بلمسة كلير، لكنها أيضًا لم تكن تطيق فكرة أن تمنح جسدها لإيموس.
(أنا حقًا أحب تيوبالت… لكن لماذا…)
كانت تدرك أنها لا تستطيع، ولا تريد، التخلي عن السلطة المذهلة التي قد تنالها من الإمبراطورة الأرملة وإيموس.
فكلما نظرت إلى إيموس، اجتاحها إحساس حارق بالانجذاب، إحساس يقول إن مكانها الطبيعي إلى جواره.
“وماذا تريد مني بالضبط؟”
“أنتِ. أدقّ من ذلك، جسدكِ الجميل. ألم أخبركِ بهذا من قبل؟”
أغمضت لِيليانا عينيها ببطء ثم فتحتهما.
“……لديّ شرط آخر.”
“يا لكِ من قديسة طمّاعة.”
“كلير. أريدك أن تضمن لي أن أتمكن من التخلص منها أيضًا، يوماً ما.”
ابتسم إيموس ابتسامة رشيقة وأومأ برأسه.
فالمخلوقات القبيحة كهؤلاء لا مكان لها في العالم الذي سيسيطر عليه.
جذب رأس لِيليانا نحوه وطبع قبلة على شفتيها.
(يا لِضحالة هذا الحب أمام جشع الرغبة.)
ضحك في سرّه، وبدأ يلتهم بجوع جسد المرأة الشهية أمامه.
✦✦✦
غابت الشمس وغطّى ستار الليل السماء.
حين نزلت كلير من العربة بصحبة تيوبالت الذي رافقها، رفعت بصرها نحو السماء الهادئة.
كان الأفق البعيد مزيجًا ساحرًا من البرتقالي والأزرق، أشبه بلوحةٍ من فرشاة خالقٍ مبدع.
متى كانت آخر مرة شهدت فيها مهرجانًا كهذا؟
قبل وفاة والديها… أي قبل نحو عشر سنوات.
زفرت كلير تنهيدة طويلة وهي تستسلم لذكرياتها الحنينة.
في تلك اللحظة، أمسك تيوبالت بيدها.
كما كان يفعل حين كانا طفلين.
كانت تعرف أن قوتها الإلهية لن تنفلت حتى دون قفاز، لكن لمسات الآخرين ما زالت تُربكها.
“تعالي، من هذا الاتجاه.”
كان قد خلع سترته الرسمية وربطة عنقه في العربة، فلم يبقَ عليه سوى قميصٍ رقيق وسروالٍ أنيق التفصيل.
رغم أن تيوبالت بدا مهيبًا بزيّه العسكري، إلا أن مظهره المتحرر هذا بدا أكثر ملاءمة له.
(كم هو مفرح أن يعود إلى مكانه الحقيقي أخيرًا.)
شعرت كلير أن عبئًا خفيفًا سقط عن قلبها.
كانت نظرات الناس تلاحقها بخفة فضول، فتباطأت خطواتها.
سواء كانوا نبلاء أم عامة، كان الفضول واحدًا أمام امرأةٍ محجّبة ببرقعٍ غامض.
(إذًا أنا حقًا جئتُ إلى المهرجان.)
قادها تيوبالت حتى وصلا إلى متجرٍ صغير يبيع الأقنعة الملوّنة.
نظرت حولها، فرأت الناس يحتفلون بفرحٍ طفولي، يشربون ويرقصون وكلٌّ منهم يرتدي قناعًا مختلفًا.
لم تكن الأقنعة بسيطة ورخيصة فحسب، بل بدت خشنة الصنع، لكنها كانت رمزًا لهذا المهرجان، والجميع ارتداها ببهجةٍ حقيقية.
“أي حيوان يعجبكِ أكثر؟”
وقف تيوبالت محتارًا بين قناعٍ على شكل أرنب وآخر على هيئة طائرٍ صغير.
(هل يحتاج الأمر إلى تفكيرٍ كهذا؟)
تساءلت كلير في سرها، ثم مدت يدها واختارت أحد الأقنعة.
“سآخذ هذا.”
كان فستانها الداكن يجعل الأقنعة اللطيفة كالأرانب والغزلان غير مناسبة لها.
رفع تيوبالت حاجبه بصوتٍ تغشاه نبرة فضول.
“اختيارٌ مثير للاهتمام… ماعز، بل ماعز أسود.”
رفعت كلير القناع فوق برقعها وابتسمت بخفة.
“ألا ترى أنه يليق بلوني وفستاني؟”
“لا أدري… عادة ما تختار النساء شيئًا ألطف من هذا.”
“لكنني أحب هذا القناع.”
الماعز العنيد المتوحش الذي لا يطيع صاحبه.
إن كانت نهاية الحياة المطيعة هي الموت في النهاية، فقد رأت أن الماعز السيئ يناسبها أكثر.
تيوبالت لمس قناع الماعز الذي كانت كلير تمسك به بخفة وهو يبتسم.
“لم تنسي أني فارس مقدس، أليس كذلك؟”
“ولماذا؟ لأن الماعز رمز للهرطقة؟”
“أراك تعرفين جيدًا.”
“تلك مجرد قصة اختلقها الوثنيون الذين يعبدون الشياطين، الماعز مجرد حيوان عاشب.”
“حسنًا، أفهم أن ذوقك غريب بعض الشيء.”
“لحظة فقط.”
استأذنها تيوبالت للحظة، وتحدث مع صاحب المتجر ببضع كلمات، ثم عاد إلى مكانه.
“هناك مرآة وغرفة تبديل صغيرة للنساء في ذلك الجانب، اذهبي وجربيها.”
مرة أخرى، تهادى في صدر كلير شعور بالخفقان من رقة تصرفه.
يبدو أن المكان مخصص أيضًا للممثلين المسرحيين لتبديل أزيائهم.
لحسن الحظ، لم يكن هناك أحد بالداخل.
رفعت كلير ببطء القماش الأسود الذي كان يغطي وجهها وارتدت القناع النصفي.
فجأة، أصبحت رؤيتها واضحة.
ورغم شعورها بالغرابة والارتباك، إلا أن ارتداء القناع كان شجاعتها الصغيرة.
حين خرجت بتردد من غرفة التبديل، كان تيوبالت قد ارتدى قناعه بالفعل وكان ينتظرها.
اتسعت عيناها عندما رأته.
كلب أسود.
في الإمبراطورية، يرمز الكلب الأسود إلى فألٍ أشد شؤمًا من الماعز.
ولا شك أنه يعرف هذا المعنى جيدًا.
“إن كنتِ ستصبحين شيطانة، فلا بد أن يكون هناك شيطان يليق بمرافقتك.”
“تيوبالت، لكن…”
“قلتِ بنفسك إنه مجرد قناع، أليس كذلك؟”
هيئة الكلب المشؤومة لا تليق بفارس مقدس.
نعم، إنه مجرد قناع لا أكثر.
أومأت كلير برأسها.
ألقى تيوبالت نظرة مطمئنة نحوها، ثم اقترب خطوة وهمس بصوت دافئ.
حين لامست أنفاسه الدافئة بشرتها، شعرت بحرارة تسري في وجهها.
كانت عيناه الذهبيتان كأنهما تخترقان أعماقها.
“الآن أستطيع أن أرى وجهك بوضوح.”
“…!”
“ما زلتِ كما كنتِ في طفولتك، ما زلتِ قبيحة.”
“أنا أعرف ذلك!”
“هل يمكنني أن أتوقع ما الذي ستُريني إياه المرة القادمة؟”
كلماته الماكرة جعلت كلير تدور بجسدها غاضبة.
لم يكن هذا أول من يخبرها بأنها قبيحة، ومع ذلك…
كان الأمر مختلفًا معه، إذ تداخلت صورته الآن مع ذكريات فتى شقي من الماضي، فارتفع ضغطها بلا سبب.
(لماذا أفقد هدوئي كلما التقيت بتيوبالت؟)
لوّحت كلير بيدها لتخفف حرارة وجهها، ثم بدأت تمشي أولاً.
تمتم تيوبالت بشيء بصوت خافت، لكنها لم تسمعه.
بعد أن أنهيا اختيار الأقنعة الغريبة، اجتازا معًا الشارع المزدحم ببطء.
كانت المحال تصطف مزينة بالزهور والزخارف، وأصوات الكؤوس والضحكات تملأ الحانات.
ومن مكان ما، تسللت أنغام موسيقية عذبة جعلت كلير تتوقف للحظة.
استمعت إليها بتمعن، مستغرقة في أجواء المهرجان الساحرة.
كان غريبًا أن تمشي وسط هذا الحشد وكأنها إنسانة عادية.
وبينما كانت تسير بجانب تيوبالت، قالت بصوت خافت:
“شكرًا لك.”
“على ماذا؟”
“لم أظن أن تتقرر تنصيبك وليًا للعهد بهذه السرعة. ظننت أن جلالة الإمبراطور سيضع أمامك اختبارًا صعبًا، حتى لو تجاوزت المعبد ومجلس النبلاء.”
“الوعود يجب أن تُوفى. ثم إن المهمة التي كلفني بها والدي كانت من إنجازك أنت في الحقيقة.”
“أنا؟”
فكرت كلير قليلاً ثم تنهدت بخفة:
“أهي المشكلة المتعلقة بالعقاقير المحظورة التي انتشرت مؤخرًا بين أحياء الفقراء وبعض الشباب النبلاء؟”
أومأ تيوبالت ببطء.
كما توقعت.
قبل عودتها بالزمن، كان الإمبراطور ماركوس قد كلف الأمير إيموس بحل تلك القضية بعد أن أصبح وليًا للعهد.
لكن القضية انتهت حينها باعتقال بعض المتشردين الأبرياء دون أي نتيجة حقيقية.
(إذًا الإمبراطورة الأرملة غريسيلا وإيموس تلقيا مهمة لم يكن بمقدورهما حلها أبدًا.)
زعيم توزيع تلك العقاقير المحظورة كان راينر، خال ليليانا.
أما مصدر العقاقير نفسه فكان بقايا من “إيتيريون” التي استخدمتها ليليانا.
الإيتيريون حجر سحري مضاعِف للطاقة.
حتى شظية صغيرة منه، إذا خُلِطت بعقار ذي تأثير إدماني، تضاعف مفعوله إلى حد هائل.
“تذكّري، أنتِ من حذّرني مسبقًا. أثناء ملاحقة الهراطقة، عثرت على كهنة فاسدين بوجوه مألوفة. ومن خلالهم، وصلت إلى الرأس المدبر.”
“آه، لهذا إذًا! بفضلك سارت الأمور بسهولة.”
سارت الأمور بسلاسة أكثر مما توقعت، ولحسن الحظ.
“هل تم القبض على الرأس المدبر أيضًا؟”
“نعم. إنه محتجز الآن في سجن سري لا يعرفه سوى رجالي.”
على ما يبدو، كانت مغادرة إيفلين المتكررة للقصر في الأيام الأخيرة مرتبطة بهذا الأمر.
الأحداث بدأت تتخذ منحى مثيرًا.
لكن تيوبالت توقف فجأة، وقد ارتسم على وجهه انزعاج واضح.
“هل كنتِ تظنين أني لن أصبح وليًا للعهد؟”
الانستغرام: zh_hima14
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 20"