-أداة مفيدة-
اتسعت عينا يوليا وابتلعت ريقها بخوفٍ ظاهر على وجهها.
“هذا مستحيل! كيف لي أن أجرؤ… على استعمال مستحضرات تجميل الآنسة!”
فابتسمت كلير بهدوء وقالت بنبرة متزنة:
“حين أنتهي من المهمة الوطنية التي أمر بها جلالة الإمبراطور، سأدخل القصر كوليّة للعهد.”
كان من المعتاد أن تتلقى الخطيبة الإمبراطورية دروسًا مكثفة لسنوات في البلاط الملكي حتى يُسمح بزواجها رسميًا من ولي العهد.
لكن كلير كانت قد أنهت جميع الدروس المقررة بإتقان، ومهما كان من سيُتوَّج وليًا للعهد، تيوبالت أو إيموس، فإن مكانتها لن تتغير.
فهي لم تعد مجرد ابنة كونت “لوبيوس”، بل باتت في حكم أميرة تحمل اسم العائلة الإمبراطورية.
“لقد قابلتُ جلالة الإمبراطور وصاحبة الجلالة الإمبراطورة الأرملة، لذا لا فرق الآن بيني وبين وليّة العهد. لهذا عليّ أن أكون أكثر حرصًا على مظهري وسلوكي.”
قبل عودتها بالزمن، كانت كلير قد تأثرت بعمق عندما منحتها ليليانا خادمتها الخاصة يوليا، فوثقت بها ثقةً عمياء.
دون أن تدري أن تلك الثقة كانت طريقها إلى الموت.
حينها، تظاهرت يوليا بأنها تساعدها على الزينة والتجمّل، وهمست لها بكلماتٍ عذبةٍ، مدّعية أنها تريد أن تُظهرها بأبهى صورة.
لكن ما منحته لها لم يكن سوى مستحضرات تجميل مسمومة بزهرة الهيلناميليا.
_ “كنتُ في حيرة لعدم وجود خادمة خاصة بي مؤخرًا، لكن يبدو أنني محظوظة بفضلكِ يا ليلي.”
عضّت يوليا على شفتيها دون أن تُظهر توترها.
“سيدتي… أرجوكِ اسحبي أمركِ هذا. لا يمكنني استخدام مستحضرات تحتوي على الطاقة المقدسة الثمينة لليدي ليليانا. هذه المستحضرات… ثمينة للغاية.”
قالت كلير ببرود:
“غريب… ولماذا لا يمكنك استخدامها؟”
بدت ملامح الارتباك واضحة على وجه يوليا، فازداد صوت كلير حدةً وبرودًا.
“لا تقولي لي أنكِ عبثتِ بمستحضرات ليليانا؟”
“مستحيل! الليدي ليليانا لم تفكر إلا في إسعادكِ، وكان هذا هدية من قلبها!”
“إذًا لا يوجد ما يمنعك من استخدامها. هيا، ضعيها.”
عند لهجة الأمر القاطعة، اضطربت نظرات يوليا وارتجف جسدها خوفًا.
“سـ… ستحزن الليدي ليليانا إن علمت بهذا.”
“يمكننا إبقاء الأمر سرًا. لا أريد أن أخيّب أمل ليلي أيضًا، لكن يجب علينا احترام القواعد، أليس كذلك؟”
بدأ الخوف يتسلل إلى أعماق يوليا.
لم تستطع أن تمد يدها نحو مستحضرات تعرف أنها سامة ولا تملك ترياقًا.
كانت صور جثث النساء البائسات من أحياء الفقراء اللواتي ماتن بسبب هذا السم تلوح في ذهنها مرارًا.
“ما بالكِ تترددين؟ إن واصلتِ المماطلة، فلن أجد بدًّا من إرسال هذه المستحضرات إلى القصر الإمبراطوري ليختبروها هناك.”
ارتجفت عينا يوليا بعنف.
فسمّ الهيلناميليا نوعٌ جديد من السموم لا يمكن اكتشافه حتى بأدق الأدوات السحرية.
لكن لو وصل خبر ذلك إلى مسامع ليليانا، فسيكون مصيرها ومصير والدها سيرك — وتجارته بأكملها — الهلاك المحتوم.
وسيضيع معها حلمها الأبدي في نيل لقب النبالة.
“لا، لا داعي لذلك… سأستخدمها بنفسي.”
أغمضت يوليا عينيها بشدة وبدأت تدهن يديها ووجهها بالماء التجميلي والكريم.
كانت يداها ترتجفان، كل لمسة من الكريم تشبه لمسة موت بارد.
(لا بأس… يمكنني إيجاد علاج. القليل لن يقتلني. سأتحمل… سيكون الأمر بخير مؤقتًا.)
لكن حتى الآن، لم يتمكّن أحد في مختبرات والدها سيرك من إيجاد ترياقٍ لهذا السم.
إلا أن هناك أملًا…
الليدي آنا من عائلة “تينوا” النبيلة.
ربما كانت تعرف الترياق.
فقد أصيبت أختها بانعكاس المانا، وإن اقتربت منها بذريعة العلاج فقد تحصل على الطريقة منها.
راقبت كلير خادمتها وهي تدهن المستحضرات، فابتسمت براحة وقالت:
“شكرًا لالتزامك بالتعليمات. كما توقعت، خادمة أرسلتها ليليانا يمكن الوثوق بها حقًا.”
وفي تلك اللحظة، بدأت بقع حمراء صغيرة تنتشر على يد ووجه يوليا، وتجمدت ملامحها من الألم.
قالت بصوتٍ مرتجف، محاولةً التظاهر بالثقة:
“فـ… في البداية، قد تظهر بعض البقع أو الحبوب لأن المستحضر يُطهّر السموم من البشرة. خلال أسبوعين ستتلاشى السموم وتصبح البشرة ناعمة ومضيئة.”
“حقًا؟ يا له من مفعول عجيب. بلّغي شكري الحار لليلي على هديتها.”
عضّت يوليا على أسنانها وقالت بصوتٍ مبحوح:
“أرغب فقط برؤية الآنسة وهي تضع المستحضرات، ثم أستأذن.”
“هذا غير ممكن. يجب أن أراقب حالتك بنفسي.”
“……!”
استعمال مستحضرات بلا ترياق بصفةٍ يومية… كان ذلك حكمًا بالموت.
شعرت يوليا باليأس يطبق على صدرها.
“لا تقلقي. سأخبر ليلي بكل شيء بنفسي.”
“حـ… حسنًا، مفهوم.”
“كنت أنوي إرسال جميع الهدايا التي وصلتني إلى القصر ليقوموا بفحصها، لكن لا حاجة لذلك مع هدية ليلي.
لأنكِ هنا.”
حبست يوليا أنفاسها عند سماع تلك الكلمات.
“من اليوم فصاعدًا، صباحًا ومساءً، ستقومين بتجربة المستحضرات أمامي. وبعدها تدرسين آداب البلاط الإمبراطوري. وسأتحقق كل ليلة من مدى تقدمك.”
“آداب البلاط الإمبراطوري؟”
“نعم. لا نريدك أن تتصرفي بجهلٍ فتُسيئي إلى اسم ليليانا، أليس كذلك؟”
“مفهوم… سيدتي.”
“حسنًا، ابدئي اليوم بحفظ هذا الكتاب عن آداب البلاط.”
انحنت يوليا وهي ترتجف بشدة.
وبعد ساعة من ذلك، قالت كلير بنبرةٍ لطيفة:
“لقد أحسنتِ. يمكنكِ الانصراف الآن.”
وما إن خرجت من الغرفة حتى ركضت يوليا مسرعة إلى الحمّام.
فركت يديها ووجهها بعنف محاولة إزالة المستحضرات، لكن الوقت كان قد فات، فقد امتصتها بشرتها بالكامل.
ورغم أنّ كلير كانت تبدو سعيدة بهدية ليليانا، انتاب يوليا شعورٌ غريبٌ بالقشعريرة.
(مجرد وهم… لا أكثر.)
كلير الغبية.
كلير الشبح الأسود.
هكذا كان الجميع في قصر الكونت ينادونها.
لقد أمضت يوليا سنواتٍ عدة تراقب كلير عن قرب كخادمةٍ خاصة لليدي ليليانا.
(إن كانت تلك الغبية تتحدث عن آداب البلاط بتلك الرهبة، فلا بد أنها شديدة التعقيد حقًا…)
قررت أن تطلب من والدها أن يعثر بسرعة على آنا، وغسلت وجهها بالماء البارد مرة أخرى.
✦✦✦
بعد مغادرة يوليا، انتقلت كلير بهدوء إلى مكتبها.
على مكتبها وُضعت مصباح صغير يهتزّ ضوؤه، وصندوق بسكويت بالزبدة من تيوبالت.
فتحت الغطاء الحديدي برفق، لتكشف عن صفوفٍ مرتبة من البسكويت الذهبي المخبوز بإتقان.
ثم رفعت الطبقة العلوية بحذر، لتكشف أسفلها عن غطاءٍ رقيقٍ آخر أخفته بعناية.
تحت ذلك الغطاء، وُجدت رسالةٌ من آنا ومستحضرات تجميل من صنعها.
أخرجت كلير الرسالة وقرأت كلماتها مجددًا:
[إلى الليدي كلير. رغبتُ في أن أطلعك على أخباري لأنني ظننت أنكِ تتساءلين عن حالي.
لقد انتقلتُ أنا وبيبيان إلى مكانٍ آمن وفّرَه لنا سمو الأمير.
تحسّنت حالة بيبي إلى درجةٍ لا تُصدق بفضل علاج السيد فريتز.
أشكركِ من أعماق قلبي.
لولا لطفكِ وكرمكِ، لبقيتُ غارقة في الحزن لفقدان والدي، أكره نفسي وأبكي على عجز قوتي.
لقد تحدثتُ كثيرًا مع بيبي مؤخرًا.
أختي ترغب أن أمضي قدمًا بدلًا من أن أظل حبيسة الماضي… كلماتها كانت كخلاصٍ لي.
أتذكرين حين قلتِ لي أن أصنع مستحضراتي الخاصة من زهرة الهيلناميليا؟ كانت تلك الجملة الشرارة التي أنارت طريقي.
والآن، بدأتُ فعلًا بصنع منتجٍ جديد. فقط أرجوكِ انتظري قليلًا.
أريد أن أبدأ حياتي الجديدة بجانبكِ يا ليدي كلير، وسأبذل جهدي لأكون الشخص الذي يمكنكِ الاعتماد عليه.]
ابتسمت كلير بابتسامةٍ خفيفةٍ باهتة.
كانت الرسالة تحمل أخبارًا مطمئنة عن سير عملية إنتاج مستحضرات الهيلناميليا الجديدة، بالإضافة إلى وجود ترياقٍ قيد التطوير.
(لقد كسبت بعض الوقت مؤقتًا بحجة تجربة المستحضرات… لكن، لخداع ليليانا لا بد أن أستخدمها فعلًا.)
لم يكن ما أُرسل مع الرسالة ترياقًا كما تمنّت.
لكن آنا أرفقت شرحًا تقول فيه إنه كريم حماية يمنع امتصاص السموم عبر الجلد عند استعمال المستحضرات السامة.
[لن أنسى أبدًا الفضل العظيم الذي أوليتِني إياه يا ليدي كلير.
عائلة تينوا لا تنسى أبدًا الجميل، وتردّه أضعافًا.
أنا، آنا تينوا، أعدك بأن أكون سندكِ وقوّتك.
سنلتقي قريبًا في القصر الإمبراطوري، وحتى ذلك الحين، أرجو أن تكوني بخير وسلام.]
تأملت كلير السطر الأخير بعينيها الهادئتين، ثم أعادت الرسالة إلى داخل علبة البسكويت وأغلقت الغطاء.
(حقًا… لقد سارت الأمور على خير ما يُرام.)
بدا وكأن الحاكم نفسه لا يريد لها أن تستسلم لمصيرها المفروض عليها.
غير أن ملامح كلير ما لبثت أن عادت تتلبّد بالحزن.
سقط بصرها المثقل على القلادة الموضوعة برفقٍ فوق المكتب — القلادة التي أهداها لها تيوبالت.
“جلالتكم، كيف يمكن أن تقولوا شيئًا كهذا! هذا جنون! هل تعني أن إصابة كلير لا تهمك إطلاقًا؟!”
“آه، بالطبع لا تهمني. هل سمعتِ يومًا عن إنسانٍ يقلق على سلامة أداته؟”
تردّد صدى صوته البارد في ذاكرتها كطعنةٍ في صدرها.
تلك كانت ليلة الأمس.
كانت كلير على وشك دخول القصر حين توقفت خطواتها فجأة.
وعلى عنقها، كان يتدلّى قلادة تيوبالت.
(تبدو ثمينةً حتى من النظرة الأولى… ربما كانت شيئًا عزيزًا عليه.)
وحين خطر ذلك ببالها، همّت بالعودة سريعًا إلى الداخل.
لكنها، وقبل أن تصل إلى الباب، سمعت صوت ليليانا يتحدث، فاختبأت دون قصد.
وهكذا، استمعت — من غير قصدٍ — إلى حديثٍ لم يكن يُفترض أن تسمعه.
قال تيوبالت بصوتٍ خالٍ من أي دفء:
“سيكون الأمر أكثر متعة إن جعلتها إمبراطورة ثم عذّبتها طوال حياتها. تخيّلي كم سيكون مريعًا؟
أن تُسحق بيد الشخص الذي كانت تظن نفسها قد سحقتْه.”
صوتٌ باردٌ كحدّ السيف، تسلّل إلى أعماق ذهنها كالجليد.
لم تستطع كلير تحمّل سماع المزيد، فتراجعت إلى الوراء مسرعة، تهرب من ذلك المشهد المريع.
لم تصدّق يومًا أن لطفه العابر كان صادقًا حقًا.
ولهذا السبب…
(لا يجب أن أحزن.)
لم يكن هناك ما يدعو للأمل، ولا ما يستحق البكاء.
لقد وعدت نفسها أن تتحمّل كل شيء حتى النهاية.
فما زالت بحاجة إلى قوة تيوبالت لتفلت من هذا الجحيم المقيّد بنبوءةٍ بغيضة.
ولأجل ذلك، كان عليها أن تصبح أداته الأكثر نفعًا.
أما المشاعر الزائدة، فليست سوى ترفٍ لا يحقّ لها امتلاكه.
ضغطت كلير على قلبها لتكبح ما تبقّى من ضعفٍ فيه.
وسرعان ما غمر وجهها برودٌ قاسٍ لا يحمل أثرًا للحياة.
✦✦✦
مرّ أسبوعان منذ بدء الاحتفالات بمهرجان تأسيس المملكة.
وفي ذلك اليوم، وصلت رسالةٌ واحدة إلى قصر آل لوبيوس.
كانت رسالةً كافية لتقلب أرجاء القصر رأسًا على عقب.
الانستغرام: zh_hima14
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"