-بسكويت بالزبدة-
استمرّت الحفلة الصاخبة دون توقف.
بعد أن استعاد تيوبالت منصبه كأمير، بدأ النبلاء في التحرك بسرعة لوضع خططٍ جديدة.
فقد كان الأمر قد أُعلن رسميًّا من قِبل الإمبراطور ماركوس، لذلك انشغل الجميع كلامًا وحركةً في محاولةٍ للتكيّف مع الوضع الجديد.
أدارت كلير جسدها بهدوء تتفقد المكان بعينيها.
ليليانا وإيفلين وديتريش اختفوا جميعًا ولم يُروا في أي مكان.
تنهدت كلير بتعبٍ وهي تنهض ببطء من مقعدها.
لقد أنهت دورها بسلام وحققت الهدف الذي جاءت لأجله، فلم يعد هناك سببٌ لبقائها في هذا المكان.
“هل تفكرين في العودة إلى القصر؟”
“نعم، أعتقد أن الوقت حان لأستريح أخيرًا.”
“جيد إذن، بما أننا في الطريق نفسه، أوصليّني معك.”
حدّقت كلير فيه بعدم تصديق.
“…بعربتي أنا؟”
“استعدت لقبي كأمير، لكني لا أنوي العودة إلى القصر فورًا. عندما يستدعيني والدي الإمبراطور خلال الأيام القادمة، سأذهب عندها.”
“لكن…”
“فكّري بالأمر كأنني حارس شخصي فقط.”
ابتسم تيوبالت بخفة، ثم مدّ يده ليلفّ أصابعها بلطف بين كفيه.
‘هاه؟’
‘هاه؟’
عندها فقط لاحظت كلير الدم الأحمر المتسرب من قفازه.
“سيدي، اسمح لي أن أرى يدك قليلًا.”
مدّ يده طائعًا، وحين نزعت القفاز، ظهرت جرحٌ واضح من نصل خنجر قطع راحة كفه.
‘يا إلهي… كم كان الجرح عميقًا ليترك أثرًا كهذا؟’
نظرت كلير إلى يده بقلق، ثم أخرجت منديلًا وربطت جرحه بإحكام.
“هذا مجرد إجراءٍ مؤقت، لكن انتهيت. لاحقًا، تأكد من أن مساعدك يعالجك بقوة الشفاء المقدّسة.”
“نحن لسنا في ساحة المعركة. لا أحتاج إلى علاجٍ من أجل جرحٍ كهذا. الأهم من ذلك، هل أنتِ بخير؟”
تنهدت كلير بتعبٍ مألوف وهي تنظر إلى تيوبالت الذي لطالما تجاهل ألمه منذ صغره.
“لقد عالجني سموّك بنفسك، أليس كذلك؟”
ضحك تيوبالت بخفة، ثم أمسك بيدها مجددًا وسار بها ببطء.
شعرت كلير بوخزٍ خفيف في أطراف أصابعها حيث تلامست أيديهم، إحساسٌ غريب لم تعهده.
نظرت إليه من جانبها بخفةٍ، تتأمل ملامحه الصامتة بإحساسٍ يصعب وصفه.
✦✦✦
بفضل مهرجان تأسيس المملكة، كانت الطرق خالية تقريبًا من العربات.
ومن الشوارع المزدحمة، كانت تصل إلى مسامعهم ضحكات الناس العالية المفعمة بالبهجة.
حدّقت كلير بصمتٍ في المدينة التي غمرتها أضواء الليل الزاهية.
“هل تحبين المهرجانات؟”
“وهل هناك من يكرهها؟”
“سؤال غبي، صدقتِ. هل تريدين أن نتوقف قليلًا لتشاهديها؟”
“لا بأس. الجميع يبدو سعيدًا هكذا، ووجودي هناك سيُربكهم فقط.”
لم يسألها تيوبالت عن سبب هذا التفكير.
كانت كلير تنظر من خلف حجابها الأسود عبر نافذة العربة، مغطاةً به كدرعٍ ثقيل، وقد بدت على وجهها مسحة من الوحدة.
بدت كفتاةٍ صغيرة تتظاهر باللامبالاة بينما كانت في داخلها تشتاق بشدة للانضمام إلى الاحتفال.
“المهرجان طويل. عندما نجد وقتًا، سنذهب معًا.”
“…حسنًا.”
أجابت كلير بصوتٍ خافتٍ مرهق، وكأنها لم تصدق وعده العابر.
“تيـو، المهام السياسية التي سيتولاها جلالته الإمبراطور لن تكون سهلة أبدًا.”
“هذا مؤكد.”
فلا المعبد ولا مجلس النبلاء ولا حتى الإمبراطور نفسه سيستسلم بسهولة لمشيئتهم.
“عندما تحتاج إلى مساعدتي، أرسل إليّ في الوقت المناسب.”
على نبرة صوتها الهادئة والباردة، نظر إليها تيوبالت للحظة ثم حوّل نظره إلى النافذة.
لم يجبها بكلمة، وغرق داخل العربة في صمتٍ ثقيل.
عيناه الذهبيتان اللتان تأملتا الخارج كانتا غامضتين، تخفيان أفكارًا لا يعلمها أحد.
✦✦✦
حين وصلوا إلى القصر، كانت الأنوار تلقي بوهجها الدافئ على المكان.
نزل تيوبالت أولًا ومدّ يده نحوها بلباقةٍ لا غبار عليها.
ترددت كلير قليلًا، ثم وضعت يدها في يده ونزلت من العربة.
وفي تلك اللحظة، اخترقت أصوات حوافر الخيل سكون الليل وهي تقترب بسرعة.
التفتت كلير لترى ثلاثة من فرسان الحرس الملكي يقودون جواد تيوبالت خلف العربة.
نزل أحدهم من حصانه واقترب من الأمير، وقدّم له شيئًا باحترامٍ شديد.
أخذ تيوبالت الشيء ثم ناوله إلى كلير.
“ما هذا؟”
“جوابٌ على حديثنا السابق… وهدية أيضًا.”
نظرت كلير إليه باستغراب وهي تتأمل العلبة الثمانية الأضلاع التي أمسكَتها بيديها.
كان شيئًا مألوفًا ومليئًا بالذكريات.
كانت علبة بسكويت الزبدة من متجر “مايبل”، الذي كانت تزوره معه عندما كانت صغيرة.
تلك البسكويتات كانت تُعجن يدويًا، وكان تيوبالت دائمًا يشتكي من أشكالها الغريبة.
“غريبة الشكل، لكنها تشبهك تمامًا.”
“لكنها لذيذة على أي حال.”
ضحكت كلير قليلًا، فذكريات الماضي اجتاحت صدرها دفعةً واحدة، فضمت العلبة إلى قلبها.
ثم انحنت قليلًا بأدبٍ وقالت:
“تيـو، عد بأمان. صحيح أنها عربتي، لكني ممتنة لأنك أوصلتني… ولأجل البسكويت أيضًا.”
“سنلتقي قريبًا مرة أخرى.”
أومأت كلير برأسها بسرعة وسارت بخطواتٍ متعجلة نحو القصر.
لم تكن معتادة على هذا النوع من المراسم أو التوديع المهذب أمام الباب.
ولذلك لم تلتفت إلى الوراء حتى اختفت داخل القصر.
“ما الذي يُعجلكِ هكذا؟”
ابتسم تيوبالت بسخريةٍ خفيفة وهو يدير ظهره.
اقترب منه مساعده فريتز وقدّم له لجام الحصان، بينما كانت ملامح تيوبالت تعود إلى برودها المعتاد.
اختفى الدفء الذي خيّم عليه للحظات، ليحلّ مكانه صقيعٌ هادئ.
لقد كانت تصرفاتها المربكة لمجرد لطفٍ بسيط مثيرةً للسخرية في نظره.
هل كانت تتظاهر بالضعف والرقة؟ أم أنها حقًا هكذا؟
امرأة لا يمكن الحكم عليها بسهولة.
مثل الحجاب الذي يغطي وجهها، كان من المستحيل معرفة ما الذي تخفيه في داخلها.
لا يمكن الوثوق بها بسهولة، ولا الاستهانة بها أيضًا.
لكن لم يهمّه ذلك.
بمجرد أن جاءت نحوه من تلقاء نفسها، لم يكن ينوي تركها أبدًا.
فمجرد تخيله أنها قد تقع بين يدي الإمبراطورة الأم أو إيموس كان كافيًا لإثارته غضبًا.
لذا قرر أن يُمسك هو بالخيوط ويقودها بنفسه.
“سيدي القائد، هل أصبتَ بجروح؟”
نظر تيوبالت بصمت إلى المنديل الملفوف حول يده، ثم تذكّر رائحة الدم المعدنية التي فاحت من كلير، فتصلب وجهه على الفور.
قبل ثماني سنوات، ما الذي جعل تلك الخائنة التي تركته تغيّر موقفها فجأة؟
مهما فكر، لم يستطع إيجاد الجواب، لكن الآن حصل أخيرًا على خيط صغير من الحقيقة.
‘كلير لوبيوس هي صاحبة النبوءة.’
خلال معاركه في الجبهات، جمع تيوبالت كل المعلومات التي استطاع الوصول إليها. كانت معظمها سرية، لكن بصفته قائدًا لفيلق الفرسان المقدسين ومُعترفًا بإنجازاته، لم يكن أحد يجرؤ على منعه.
غالبًا ما كان أصحاب النبوءة أشخاصًا استثنائيين، يمتلكون قوة سحرية خارقة أو قدرات خاصة، وأحيانًا سلطة تقترب من سلطة الحكام. وكان كثير منهم يخفون تلك القوة خوفًا من بطش الآخرين.
أما “القدرة الإلهية”، فهي استخدام قوة الحاكم في جسد بشري، وهو أمر لا بد أن يرافقه ثمن. وكان من الطبيعي أن يتضرر الجسد عند استخدامها المفرط.
‘إذًا لهذا كانت تتقيأ دمًا.’
كان من الواضح أن قدرة كلير الإلهية قد استيقظت متأخرة.
‘المفتاح الآن هو معرفة ماهية تلك القدرة بالضبط.’
القدرة التي مكنت كلير من كشف المعلومات المضللة والفخ المزدوج الذي نسجته الإمبراطورة الأم غريسيلا في وقتٍ قصير جدًا، لا يمكن تفسيرها إلا بأنها تعرف المستقبل.
لو لم تكن نصيحتها، لكان تيوبالت نبش تابوت والدته بنفسه، ولما تمكن من النجاة من غضب الإمبراطور.
وبقوة كهذه، لم يكن ليفكر أبدًا في تركها تذهب.
‘قالت إنها تعطيني “فرصة”.’
لكنه فسّر كلماتها على نحو آخر؛ بدت له كأنها صرخة شخص يسعى للانتقام أو محاولة يائسة لتغيير مصيرٍ مؤلم.
حقًا، إن القدر لا يمكن التنبؤ به.
‘قدرة إلهية ونور مقدس،’
ابتسم بخفة، فالعلاقة بينهما كانت متكاملة إلى حدٍ مدهش.
إن كانت كلير ترى المستقبل، فبإمكانه أن يكون من يشفي جراحها.
وفي النهاية، توصّل إلى نتيجة واحدة: عليه أن يجعلها ملكه بالكامل ليكشف حقيقة ما جرى قبل ثماني سنوات.
في تلك اللحظة، التفت تيوبالت والفرسان من حوله نحو مصدر خطواتٍ قادمة.
“……القائد.”
‘ذهب السواد وجاء الأحمر.’
تمتم ساخرًا وهو يرمق بنظرة باردة القديسة ليليانا التي وقفت أمامه.
خلفها توقفت عربة تحمل شعار أسرة لوبيوس، وكان الحرس الشخصيون والخادمات يصطفون خلفها كصفٍ طويل.
بالمقارنة مع كلير، التي كانت تسير وحيدة تراقب المهرجان بصمتٍ وحزن، أثار هذا المنظر في نفسه نفورًا شديدًا.
‘من الصعب أن أصدق أن كلير هي ابنة اللورد الحقيقي، وليست هذه المتعجرفة.’
أدار تيوبالت رأسه ببرود، فعضّت ليليانا شفتيها وهي تنظر إليه.
كان مثل جدارٍ لا يمكن اختراقه، رجلًا لا يُطال مهما حاولت.
ارتجف جسدها وكادت دموعها تنهمر.
“سيدي القائد… حقًا، هل تنوون إتمام هذا الزواج الذي لا ترغبون به؟”
بدت عيناها الحمراء تحت خصلات شعرها الفضي كأنها تستجديه بشفقة.
حتى الفرسان الواقفون خلف تيوبالت شعروا بالأسى وهم يرون القديسة الجميلة تُقابل بتلك البرودة، وكأنها مجرد حجرٍ أو قطعة خشب.
أما تيوبالت فبقي ثابتًا كتمثال، دون أن يلين قلبه قيد أنملة.
كانت ليليانا مضطربة؛ فقد كان تيوبالت رجلاً يخطف الأنفاس بجماله الفاتن. مكانته الرفيعة كأمير شرعي، وطبعه الصارم الذي لا يلتفت لأي امرأة، جعلاه أكثر سحرًا في عينيها.
كم حلمت أن يركع هذا الرجل الهادئ عند قدميها، أن يضمها بشغفٍ ويبوح بحبه…
لكن لماذا، رغم كل شيء، لا يظهر مشاعره إلا تجاه كلير؟
حتى وإن كانت تلك المشاعر كرهًا، فقد كانت تحترق غيرةً وغضبًا.
عضّت شفتيها مرة أخرى وقالت بصوتٍ مرتجف:
“ألن تجيبني؟”
“ليس ثمة سبب لأجيب.”
“سيدي القائد… لا، صاحب السمو الأمير، أنت قاسٍ للغاية. لماذا لا تقبل مشاعري؟”
ردّ تيوبالت بابتسامة باردة:
“القديسة ما زالت تعيش في وهمٍ طريف. ألم تظني يومًا أن الأمر كان دائمًا من طرفٍ واحد؟”
“……”
“لم أبادلكِ المشاعر قط، بل رفضتُكِ منذ البداية.”
قبضت ليليانا على طرف فستانها الأحمر بشدة.
كان دائمًا هكذا، لا يمنحها حتى بصيص أمل. لم تفهم أبدًا، لماذا يكرهها إلى هذا الحد؟
“إن كنتَ تريد العرش، فاخترني. إن أمسكتَ بيدي، يمكننا أن نُقيم إرادة الحاكم فوق الإمبراطورية نفسها. أما كلير، فستكون مجرد أميرةٍ لا حول لها ولا قوة.”
قال تيوبالت ببرود:
“قبل أن تتحدثي هكذا، على الأقل أظهري شيئًا من الاحترام.”
لكنها تجاهلت صوته الجليدي وأكملت بعناد:
“دعني أساعدك لتصبح إمبراطورًا! سمعتي، ومكانتي، وبلاغتي، ومعرفتي… كلها تفوق ما تملكه كلير!”
كانت كلماتها يائسة، كأنها تتشبث بآخر خيط. لم تستطع السماح بزواج تيوبالت من كلير.
“أنا… سأُنجب لك وريثًا، واحدًا أو اثنين أو حتى أربعة! سأكرّس نفسي تمامًا لك.”
ضحك تيوبالت ضحكة قصيرة، لكن عينيه الذهبيتين بقيتا باردتين كالثلج.
“هل أسمي هذا حبًا للذات أم جنونًا؟ أتريدين مني أن أكون فحلًا لإنجاب الورثة فحسب؟”
“رجاءً يا سموّك! فكّر بالأمر بجدية ولو مرة واحدة!”
“ولِمَ عليّ أن أختار الطريق الأصعب وأترك الأسهل؟”
“الأسهل؟ ماذا تعني؟”
“أنتِ لستِ صاحبة النبوءة.”
“……!”
“أما العرش، فليكن… لكن ما أريده حقًا شيء آخر.”
ارتعشت عينا ليليانا بعنف تحت وقع كلماته الباردة التي اخترقت قلبها.
كانت معانيه واضحة تمامًا—ما يريده هو كلير.
“هل… هل تحب كلير؟”
“لا أرى سببًا يجعلني أجيب على هذا أيضًا.”
“هل نسيتَ أن كلير هي من جعلتك هكذا؟! لقد خانتك! تحالفت مع الإمبراطورة الأم، وتسببت بفقدانك الأداة المقدسة، وبموت الإمبراطورة السابقة وجنينها أيضًا—!”
“كفى.”
جمد صوت تيوبالت الفضاء من حوله، فتجمدت الكلمات على لسان ليليانا.
في عينيه الذهبيتين، التي كانت قبل لحظة ساكنة وهادئة، اشتعل غضب حادّ كالنار.
“غريب… قضية أمي يدركها كثيرون في البلاط، لكن كيف عرفتِ أن كلير تحالفت مع الإمبراطورة الأم؟”
“أ… أنا!”
“تبدين وكأنك كنتِ هناك تشاهدين كل شيء بنفسك، أليس كذلك؟”
الانستغرام: zh_hima14
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"