-المحنة غير المتوقعة-
وضعت كلير يد الإمبراطورة الأرملة بلطف، ثم أدّت التحية مرة أخرى.
“إنه لشرف عظيم أن أتشرف برؤية جلالتكم، يا صاحبة السمو الإمبراطورة الأرملة.”
“همم…”
راحت الإمبراطورة الأرملة غريسيلا تنقر بخفة على ذراع مقعدها وهي تنظر إلى كلير الجاثية عند قدميها.
«يبدو أنها تختلف عمّا وصفها به معلمو الآداب.»
خلافًا لما ورد في الرسائل، انحنت كلير أمامها حتى التصقت بالأرض، وأنهت قسم الطاعة بكل خضوع.
أن تمسك بيد أحد أفراد العائلة الإمبراطورية وهي ترتدي القفاز كان يُعدّ إهانة لسلطة الإمبراطورة الأرملة ذاتها.
«حتى لو كانت لا تخلع الحجاب، فهل شائعة عدم خلعها القفاز أيضًا كانت كذبًا؟»
كان ارتداء القفازات في المناسبات الرسمية تقليدًا إمبراطوريًا عريقًا.
إلا أن الموضة بدأت تتغير تدريجيًا بفضل القديسة وبعض الشابات من طبقة النبلاء.
فقد استبدلت سيدات النخبة تلك القفازات الطويلة الثقيلة التي تتجاوز المرفقين، بالمجوهرات الثمينة وأظافر مصقولة مزدانة بالألوان، استعراضًا لأيديهنّ الناعمة التي لا تعرف العمل.
وكانت من سمحت بتلك الموضة في المقام الأول هي غريسيلا الإمبراطورة الأرملة، سيدة الطبقة الرفيعة في البلاط.
ومهما كانت مكانة كلير بصفتها صاحبة الوحي الإلهي، فإن حضورها حفل القصر وهي تغطي وجهها بحجاب أسود يناسب ثوب الحداد كان أمرًا لا يُغتفر.
حتى لو وافق الإمبراطور على ذلك، فلن تتحمل غريسيلا تلك الوقاحة.
وإن كانت كلير قد تجاهلت سلطتها ومدّت يدها وهي مرتدية القفاز أثناء قسم الولاء، لكانت أهانتها علنًا أمام الجميع بلا تردد.
كانت تنوي إذلالها وكسر كبريائها، لكنها لم تجد فيها أي ثغرة تُؤخذ عليها، باستثناء الحجاب الأسود.
كل شيء آخر كان كاملًا على نحوٍ مزعج، بل مبهرًا.
قالت غريسيلا بنبرة متكلفة اللطف:
“أرحب بانضمامك إلى القصر الإمبراطوري ومجتمع النبلاء، يا آنسة كلير لوبيوس.”
“إنه لشرف عظيم، يا صاحبة السمو الإمبراطورة الأرملة.”
“لكن…”
غير أن صوتها الجاف دوّى في قاعة الحفل.
“ألستِ صاحبة الوحي الإلهي، ومن سيُصبح يومًا ما إمبراطورة هذه الأمة؟ إن كانت من ستصير إمبراطورة تخفي وجهها، فكيف سينظر الناس إلى الإمبراطورية وقصرها؟”
ابتسمت غريسيلا ابتسامة باردة وأضافت:
“في المرة القادمة، أود أن نتحدث ونحن نتبادل النظرات. وإن لم تفعلي… فسأكون أنا من ينزع ذلك الحجاب بيدي.”
“سأضع كلام جلالتكم نصب عيني.”
كان أمرها متغطرسًا قاسيًا.
ومع ذلك، لم يكن في كلماتها خطأ لمن أرادت النجاة في هذا القصر، لذا انحنت كلير بخضوع.
وأخيرًا انتهى ذلك اللقاء المرهق.
عضّت كلير شفتيها حتى سال منها الدم من شدّة الألم.
تجمد عقلها وشعرت كأن زجاجًا حادًا انغرس في صدرها.
الألم المبرّح الذي عانته كان ثمناً لقدرتها الإلهية، وكان فوق ما يُحتمل.
وجهها شاحب، تتنفس بصعوبة وهي تبتلع أنينها المكبوت وتخطو ببطء.
كانت حياتها الجديدة مختلفة كليًا عن سابق عهدها.
في الماضي، كانت تخشى أن تلمس الإمبراطورة الأرملة وتقرأ ذاكرتها بلا قصد إن استخدمت قدرتها، لذلك صافحتها وهي ترتدي القفاز.
لكن العاقبة كانت وخيمة.
فقد أمطرتها الإمبراطورة الأرملة بوابل من التوبيخ، واتهمتها بإهانة العائلة الإمبراطورية.
اضطرت كلير حينها إلى الركوع أرضًا والتوسل طلبًا للعفو.
وأصبحت تلك الحادثة مادة للسخرية بين النبلاء حتى قبل أن تصبح خطيبة ولي العهد.
«إن فقدت تركيزي الآن، فسينهار كل شيء…»
مدة بقاء قدرتها ساعة واحدة فقط.
اشتد بها القلق وهي تفكر بالعودة إلى الطاولة لارتداء قفاز جديد.
أخفت ألمها قدر ما استطاعت وسارت بخطوات بطيئة متزنة.
غير أن غريسيلا الإمبراطورة الأرملة لم تُبعد نظرها عنها وهي تغادر.
«فتاة تشبه الظل كهذه، سيكون من السهل السيطرة عليها.»
لم يخطر ببالها أن ابنها إيموس، الغارق في الملذات والنساء، قد يقع يومًا في حب امرأة كهذه.
فالوحي لم يكن سوى رسمي شكلية.
وحين يعتلي إيموس العرش، كانت تخطط للتخلص منها بهدوء وزواجه من ابنة أحد النبلاء المناسبين.
وفوق ذلك، إذا وضعت إيرل لوبيوس –الذي حافظ على حياده دائمًا– تحت نفوذها، فلن تخسر شيئًا.
ابتسمت الإمبراطورة الأرملة بهدوء، بنظرة أكثر سماحة من قبل، وقالت للإمبراطور ماركوس:
“جلالتكم، ما رأيكم أن يُفتتح الحفل برقصةٍ أولى بين الأمير إيموس والآنسة لوبيوس؟”
أجاب الإمبراطور بعد لحظة صمت قصيرة:
“كما تشائين.”
انطلقت الموافقة من فم الإمبراطور ماركوس.
حدّق إيموس في كلير بنظرة اشمئزاز، كأنه يلوك حشرة مقززة.
في حفلات القصر الإمبراطوري، كان من التقاليد أن يبدأ أحد أفراد العائلة الإمبراطورية الرقصة الأولى.
ولو كانت شريكته كأي امرأة جميلة تليق بمعاييره المعتادة، لما اكترث بالأمر كثيرًا.
لكنه اليوم كان ينتظر بفارغ الصبر أن يرقص مع زهرة المجتمع وسيدة النقاء، القديسة ليليانا.
أما الآن، فمع هذه القبيحة؟
«إنه الأسوأ على الإطلاق.»
كيف يمكن لامرأة تشبه الشبح أن تكون رفيقته أو حتى زوجته في المستقبل؟
كان العمى في هذه اللحظة أهون عليه من النظر إليها.
لكن نظرات والدته الحادة لم تسمح له برفض الأمر.
فتقدّم إيموس نحو كلير بخطوات ثقيلة، كثور يُساق إلى المسلخ.
وما إن اقترب منها، حتى ضحك ساخرًا حين لم تُبدِ أي ردّ فعل لاقترابه، وكأنها لم تره أصلًا.
مدّ يده ببرود، فقط ليؤدي واجبه الشكلي ويقضي الوقت.
لم يكن يرتدي القفازات –تعمد ذلك ليبدو أكثر جاذبية في نظر ليليانا– لكن الفكرة باتت تُثير اشمئزازه الآن.
وضعت كلير يدها بصمت على يده، وسارا معًا إلى وسط القاعة.
وسرعان ما بدأ العازفون عزفهم، فملأت نغمة الكمان السريعة والمرحة أرجاء القاعة.
وانسابت خطوات الاثنين بانسجام مع الإيقاع.
قال إيموس بسخرية خفيفة:
“كما قالت والدتي، متى تنوين نزع هذا القماش المزعج عن وجهك؟”
“أعتذر، سمو الأمير.”
“هاه، لا تقولين إنك لن تخلعيه إذًا. عجبًا… لماذا لم تكن ليليانا هي ابنة عائلة لوبيوس بدلًا منك؟”
“…….”
“حقًا، ما أتعس حالي أن أُجبر على خطوبة امرأة لا أعرف حتى ملامح وجهها. أما ترين كم أنا مسكين؟”
انهمرت كلماته المليئة بالشكوى والاستهزاء بطريقته المعهودة، بينما ظلت كلير ترقص في صمتٍ تام دون أن ترد.
زاد ذلك من ضيقه، إذ بدا له تجاهلها استفزازًا بحد ذاته.
لكن الغريب أن الرقص معها لم يكن سيئًا كما ظن.
كانت أناملها دقيقة الحركة، ورائحة الصابون الخفيفة التي تفوح منها –بدل العطور الثقيلة– بدت له منعشة على غير العادة.
تسلل إليه فضول غريب وهو ينظر إلى الحجاب الذي يخفي وجهها.
«هل أزيله متظاهرًا بالخطأ؟»
لكنّه ما لبث أن هز رأسه.
«إن كانت قد وضعت الحجاب بعد الحادثة، فلا بد أن السبب ندبة أو تشوه… وإلا فما الداعي له؟»
كم يبدو سخيفًا أن تخفي وجهها كل هذا الوقت بسبب صدمة نفسية!
بل والأسوأ أنها ستُغمى عليها لو أُزيل الحجاب أمام الناس! يا للشفقة.
انعكست في عينيه الرماديتين لمحة من الكراهية.
حتى ارتجاف يديها الخفيف أزعجه بشدة.
شعر وكأنها تنظر إليه بازدراء، وكأنه رجل سوقي لا يليق بأن يلمسها، فاشتعل غضبه أكثر.
هناك نساء كُثر يتمنين لمسة منه، فكيف تتجمد تلك أمامه بهذا الشكل؟
نقر بلسانه بضيق.
ثم حوّل نظره بعيدًا، نحو ليليانا التي كانت ترقص مع ديتريش، غارقة في الأضواء.
كل الرجال في القاعة بدوا مسحورين بجمالها الإلهي.
أما هو، ابن الإمبراطور وولي العهد، فمجبَر على أن يتخذ هذه المملة الكئيبة زوجة له؟
بمجرد أن راوده هذا الفكر، نزع يده بعنف من يد كلير قبل أن تنتهي الموسيقى.
ولحسن الحظ، كان كثير من الأزواج يرقصون على الأرضية في تلك اللحظة، فلم يعلّق الإمبراطور أو الإمبراطورة الأرملة على تصرّفه.
استدار إيموس بسرعة وابتعد متبرمًا، بينما ظلت كلير تحافظ على أدبها حتى النهاية، وأدّت التحية كما تقتضي الأعراف.
غمر القاعة جو من البهجة والمرح، تمايل فيه النبلاء على أنغام الموسيقى.
وفي تلك اللحظة، تسللت كلير بخفة بين الجموع وغادرت القاعة بهدوء دون أن يلحظها أحد.
✦✦✦
كمّمت كلير فمها بيدها وهي تسرع إلى الخارج.
عبرت الممر الطويل وصالة الأروقة، حتى وصلت إلى حديقة صغيرة نائية، لا يعرفها حتى النبلاء أنفسهم.
“هَهْ…!”
خرج منها أنينٌ مختنق وهي تسقط على مقعدٍ حجري، لم تعد قادرة على تحمّل الألم.
امتلأ فمها بطعمٍ معدنيٍّ مرّ، وجسدها بات ثقيلاً كالرصاص.
الدموع سالت من عينيها رغماً عنها، تحت وطأة العذاب القاسي الذي ينهش جسدها.
كانت قد توقعت أن ترى ذكريات الإمبراطورة الأرملة عندما صافحتها لتؤدي قسم الطاعة.
لكنها لم تتخيل أن ذكريات إيموس المقيتة ستهجم عليها فجأة، كطوفانٍ من القذارة والظلام.
كل مشهدٍ من ماضيه جعلها تشعر كأن آلاف الحشرات تزحف على جسدها.
ضغطت كلير على أطراف أصابعها حتى ازرقت وهي تكبح شهقة الألم.
إيموس تيسين فيرهايم.
في حياتها السابقة، كان زوجها.
رجل ذو شعرٍ ذهبيٍّ لامع وعيون رمادية راقية، جميل إلى حدٍ مؤلم.
ورغم أنها لم تحبه، فقد احترمته كزوجٍ، وسعت لتصديقه والإيمان به.
كانت تدرك أنها لن تنال حبّه، لكنها أرادت على الأقل أن تنال اعترافه، فكرّست حياتها لتكون إمبراطورة مثالية.
غير أن ما عاد إليها لم يكن سوى كلمات قاسية وضربٍ مهين.
كان إيموس مهووسًا بالجمال، يرى العالم بعين فنانٍ مريض، لا بعين إنسان.
يقدّس الجمال إلى حد العبادة، ويزدري كل ما هو ناقص أو مشوّه.
وإن لم تتطابق الأشياء مع ذوقه الجمالي، تخلّص منها بلا رحمة.
وبالنسبة له، كانت كلير –التي شوهت الحروق وجهها– مجرد مخلوقة أدنى من الحيوان.
تقلص جسدها، وتكوّرت كطفلة ترتجف من الرعب.
ذلك الصوت نفسه، الذي احتقرها به قبل موتها في حياتها السابقة، كان لا يزال يرنّ في أذنها كما هو، حادًا، لاذعًا، ممزقًا.
كان الألم في صدرها كالخنجر، يغرس نفسه في قلبها بلا رحمة.
“آه…”
لهاثٌ متقطع خرج من شفتيها.
كان ثمن استخدام قدرتها الإلهية باهظًا وقاسيًا.
قوة الآلهة عظيمة، لكنها دائمًا تُذكّر مستخدمها بوحشية الثمن.
«مؤلم… مؤلم جدًا.»
تساقطت الدموع البائسة على وجنتيها واحدة تلو الأخرى.
وفي تلك اللحظة، اجتذبتها قوة قوية فجأة نحو صدرٍ دافئ، يضمها بعنف.
الانستغرام: zh_hima14
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"