في أحد الأيام، سقطت العائلة في الهاوية.
قد يقول البعض إن هذا كلامٌ غير مترابط، لكنه كان حقيقة واضحة.
سقطت سلالة فيلريني بين ليلة وضحاها. بسبب تهمة ليست سوى افتراء.
“وصل الأمر إلى هذا الحد، يا أنيتا.”
بدت ملامح الرجل في منتصف العمر، فلاد، قاتمة وهو يبلّغها الخبر.
كان فلاد شريكًا قديمًا لوالدها في العمل، رجل تعرفه أنيتا منذ كانت تخطو خطواتها الأولى.
كان فلاد يزورهم مرة واحدة كل موسم، حاملاً ملفات سميكة داخل سيارة بخارية.
وكانت زيارته دائمًا محبَّبة.
فهو يقدّم لها كل مرة حلوى معدنية مستوردة، دمى أجنبية، أو دبابيس شعر مستوردة… هدايا نادرة يصعب الحصول عليها.
ولكن هدية اليوم…
مؤلمة.
مؤلمة، مؤلمة، مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.
“يا عمّاه… إذن والدي هو….”
“لم نعثر عليه بعد. لم نجده، لذلك لا تسألي عن التفاصيل، ولا تحاولي معرفة شيء. العيش متجاهلةً لهذا الأمر… هو نصيحتي لك. آسف.”
اختفى والدها أثناء رحلة عمل.
ويُطلب منها أن تعيش وكأنها لا تعلم؟
أن تتجاهل عائلتها الوحيدة؟
قبل أربع سنوات أصبحت راشدة، وكان من المقرر أن تخوض حفل ظهور أول متأخر الشهر القادم. وكان والدها سيكون شريكها في الرقصة الأولى.
[لا تنخدعي بأولئك الذين يملكون لسانًا منمّقًا يا أنيتا. هؤلاء لا يرون في فتاة صغيرة مثلك إلا وسيلة للّهو. ابحثي عن شخص قليل الكلام، جادّ، وإن لم يكن لطيفًا، فعلى الأقل صادق.]
كان يكرر ذلك دائمًا منذ اقتراب موعد الحفل.
كان… يفعل ذلك.
مدّ فلاد يده داخل جيب سترته الداخلي، وسحب بطاقة اسم نظيفة وسلّمها لها.
“هذه جهة اتصال أحد معارفي. يمكنه إيجاد عمل مناسب لك. وأقولها احتياطًا… إيّاكِ والاقتراب من الأماكن المشبوهة كالبيوت الحمراء. هذا يفسد الروح.”
وبينما كانت تحدّق فيه دون أي رد، أطلق فلاد تنهيدة طويلة.
“تماسكي يا أنيتا. على الأقل يجب أن تعيشي أنتِ. ومهما كان الأمر ظالمًا… فالحياة هكذا.”
أمسك بيدها ووضع البطاقة فيها بالقوة، ثم غادر دون أن يلتفت.
نظرت أنيتا حول المنزل بعينين فارغتين.
رجالٌ أقوياء تدفّقوا إلى الداخل، وبدأوا بإزالة آثارٍ امتدت عقودًا طويلة مع سلالة فيلريني.
لوحة مائية عريضة اشتراها والدها من مزاد.
منصة من خشب الكرز تعرض أواني الطعام.
قطعة خزف بيضاء موضوعة فوق خزانة الأدراج.
“أيتها الآنسة، ابتعدي. أنتِ تعيقيننا.”
دفع أحدهم كتفها وهو يمر. ترنّحت طويلاً ثم سقطت جالسةً مستندة إلى الحائط.
كلّ ما تراه أمامها… وكل ما تشعر به الآن… بدا ضبابيًا كالحلم.
لا تدري كم مرّ من الوقت.
بدأت حمرة الغروب تتسلل إلى السماء التي كانت زرقاء قبل قليل خلف النافذة.
وقفت أنيتا ببطء داخل القصر الذي لم يبقَ فيه دفء.
ورغم كل شيء… شعرت بالجوع. توجهت إلى المطبخ، لكنها وجدته فوضى وكأن إعصارًا ضربه.
وبعد بحث طويل، عثرت داخل خزانة على قطع خبز يابسة. طعامٌ قديم كانت الخادمات يجهّزنه للطيور.
يابس.
أكثر من شرائح اللحم المقدد التي تذوّقتها بدافع الفضول منذ زمن. ملأت بطنها وهي تشعر كأنها تمضغ ورقًا، ثم أغمضت عينيها وغرقت في التفكير.
الانهيار.
كان هناك كثيرون يتمنّون سقوط فيلريني.
افتراء.
فمن الذي لفّق التهمة؟ ابن عم؟ شريك؟ عدو؟
والدها.
أباها.
وما إن خطر وجهه حاد الملامح حتى انفجرت دموعها المكبوتة.
‘مربيتي… أفتقدها.’
دفنت وجهها بين ركبتيها وبكت طويلاً حتى انقطع صوتها. النطق بما يوجع… أكثر ألمًا من احتماله.
كانت غاضبة على والدها الذي تركها، وخائفة عليه في الوقت نفسه.
إن لم يستطع العودة… فلتكن حياته في مكان ما على الأقل. ومع ذلك، كانت ترجوه أن يعود الآن، ليواجه معها المحنة.
ماذا أفعل الآن؟
القصر تم حجزه.
حتى لو قضت الليلة نائمة على الجدار، فغدًا ستكون بلا مأوى. فمع شروق اليوم التالي… لن يسمح لها بالبقاء.
ولم تكن بلا أقارب.
الأخت مالينا. عمتي ألكساندرا….
لكن لا أحد منهما سيُساعد.
كان والدها يحتقر الأقارب الذين كانوا يلتصقون به طمعًا في خيره. وهؤلاء الذين أدار لهم ظهره، لن يُشفِقوا عليها.
إذن، إلى أين تذهب؟
…البطاقة.
فتحت أنيتا البطاقة التي تركها فلاد. كانت مجعدة كقطعة منديل.
<مطلوب عمال / ذوو الخبرة مرحب بهم>
بطاقة مكتب توظيف للخدم.
هل يمكن أن يكون الذين غادروا قصر فيلريني واحدًا تلو الآخر قد لجؤوا لهذا المكان أيضًا؟
حتى لو ذهبت صباحًا… لن أجد مكانًا أنام فيه الليلة.
تبقّعت قطرات صغيرة على زجاج النافذة.
كانت زخة مطر في ظهيرة صيفية.
وأصبحت أنيتا فجأة… وحيدة.
***
كانت سلالة فيلريني عائلة ملاّك وتجار بلا لقب نبيل.
ومع ذلك، لم تكن بمنأى عن طبقة النبلاء.
فالجد الأكبر لأنيتا كان ربًّا لأسرة إيرل بارتريت العريقة ومالكًا إقطاعيًا، وابن خال أمها كان أيضًا بارون ليفونيا. لذا كانت سلالة فيلريني تُعدُّ أسرة راقية دون لقب.
لكنهم كانوا أثرياء بما يكفي لتعويض ذلك.
وبما أن أنيتا الابنة الوحيدة، فقد كانت الوريثة الطبيعية لثروة الأسرة، والمرشحة لاستقبال زوج يعيش معهم في بيت العائلة.
ولذلك، كان هناك نبلاء فقراء يدفعون أبناءهم للتقرّب منها، فكان بين أصدقائها بالاسم فقط بعض أبناء الطبقة الراقية.
أصدقاء سيغادرون دون التفات بمجرد ضياع ثروتها.
“آه… هذا أيضًا غير مناسب.”
تمزّق. صفحة جديدة من دفترها المليء بخط أسود متشابك اقتُلعت دون تردد.
ولا تدري كم صفحة مزّقتها.
في إحدى زوايا غرفتها السابقة، تراكمت كرات ورق مجعدة.
كلها رسائل غير مكتملة.
تنهدت مرة أخرى، وأسندت جسدها إلى الأرض. مسحت عينيها المتعبتين، وحدّقت في الغرفة.
لم يبقَ من ممتلكاتها سوى بضع حقائب وساعة مكتب صغيرة.
“لم أفعل سوى إضاعة الدفتر.”
كانت الرسائل التي سهرت لأجلها طوال الليل موجهة لطلب المساعدة من صديقاتها.
لكنها لم تكمل حتى رسالة واحدة.
لأنها كانت تعلم… أن لا أحد سيستجيب.
لا… هذا تفكير متسرّع.
لن يتجاهلها الجميع.
فثمة شخص واحد… ليس بينهم.
رانسلو.
كانت تشتاق إلى رانسلو.
منذ رحيل كلوديا قبل ثلاث سنوات، لم يبقَ لأنيتا أحد تعتمد عليه.
وعشرة أعوام قضتها مع رانسلو إيدنبايهر لن تضيع هباءً. وهي تعرف ذلك أكثر من أي شخص.
لكنّها مع ذلك… لا تقدر على….
“…حسنًا. سأذهب أولاً إلى مكتب التوظيف. على الأقل إن عرفوا وجهي، قد أحصل على فرصة عمل.”
لتجرب ما تستطيع. فالاستسلام لا يحل شيئًا، والوقت لا ينتظرها.
***
أول ما فعلته أنيتا عند وصولها إلى مكتب التوظيف هو تبديل ملابسها.
فقد لاحظت متأخرًا أن ثيابها فاخرة جدًا بين النساء الباحثات عن عمل.
وليس من مصلحتها جذب الأنظار لوضعها الحالي. تفقدت أنيتا المكان بعناية، ثم دخلت مخزنًا صغيرًا وارتدت أبسط ما لديها.
مم الجيد أنني جلبت حقائبي، خوفًا من السرقة.
قميص أبيض مع تنورة زرقاء داكنة.
بهذا، لن تبدو غريبة وسط النساء.
بعد أن أصلحت ثيابها، جلست في غرفة انتظار المقابلات تنتظر دورها. سلّمتها سيدة مسنّة ذات ملامح صارمة رقمًا وهي تمر قائلة:
“يا فتاة، لديك حظ. في هذه الأيام، تحتاجين إلى الانتظار أسبوع كامل لتحصلي على مقابلة هنا. هل إيجاد عمل صعب لهذه الدرجة؟”
أسبوع كامل؟ فوجئت رغم أنها لم تُظهر ذلك.
لولا العم فلاد… لكنت صرت مشرّدة.
حين تحصل على عمل، سترسل له رسالة شكر.
ثم جاء دورها.
“الآنسة أنيتا فيلريني؟ تفضّلي.”
أخذت نفسًا هادئًا وخطت داخل مكتب المدير.
ومن خلف دخان السجائر الكثيف، ظهر لها المكتب الواسع. رأس ياك محنّط، سجادة تبدو من القارة الشرقية، قطع معدنية غريبة الشكل….
وهمس حدسها بأن المقابلة لن تكون سهلة.
“هل أمسكتِ الممسحة من قبل؟”
وكما توقعت… بدأ الهجوم منذ السؤال الأول.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"