كم من الوقت مرّ يا تُرى؟
بعد أن غطّت أنيتا كتف رانسلو النائم بالبطانية، خرجت بهدوء من غرفة النوم.
“هاه….”
بلغ بها التوتر حدّ أن جبينها وراحتي يديها ابتلّا عرقًا باردًا. التوت بجسدها بخطوات منهكة.
كان يبدو أنّ مرض رانسلو يشتد يومًا بعد يوم. فكمية المسكنات التي يتناولها كانت تزداد تدريجيًا، ومع ذلك بدا كأنها لا تعطي أيّ نتيجة تُذكر.
قالت كلوديا إنّ أطباء القارّة كافة قد فحصوا رانسلو ولم يستطيعوا تحديد اسم مرضه. لم تستطع أنيتا تقبّل كلامها.
أيّ مرض هذا الذي يعجز الأطباء عن تشخيصه في هذا العالم؟
إذًا رانسلو…؟
هل سيتألّم هكذا طوال حياته؟ كأنه يحتضر؟ هذا… مؤلم للغاية.
ليتني أستطيع أن أشاركه بعضًا من ألمه. ولو قليلاً فقط… يمكنني تحمّله.
لكن… ما كانت تلك العين؟
الضوء الذي كان يتلألأ في عيني رانسلو. ذلك البريق الذهبي… لم يكن بريقًا بشريًا.
مجرد استعادة الذكرى جعل قشعريرة تجتاح ظهرها. لو لم يكن رانسلو، لكانت بالتأكيد قد هربت.
مع ذلك….
كان مم حسن الحظ أنه نام.
حقًا… كان حظًا حسنًا.
***
بدا أنّ رانسلو قد نسي تمامًا ما حدث في الليلة الماضية.
استعاد حيويّته المشرقة لدرجة يصعب التعرّف عليها، وصار يتجول خارج غرفة النوم كأنّ شيئًا لم يكن.
“لماذا تنظرين؟ التفتِ إلى شؤونك.”
كانت تلك أول مرة تشعر فيها أنّ حدّته المعتادة… مرحّب بها.
لم تخبر أنيتا كلوديا ولا رانسلو بالجروح التي أصابتها ذلك اليوم. فقد رأت أنّ نسيان تلك الذكرى المؤلمة مدى الحياة أفضل.
وبدلًا من ذلك، أخبرت دوق إيدنبايهر بما جرى تلك الليلة.
لم يتعامل الدوق مع كلام أنيتا باستخفاف. بل على العكس، لم يسبق أن أصغى إليها بعينين بهذه الجديّة.
“كنتِ بجانب رانسلو في ذلك الوقت؟”
“نعم.”
كان في عيني دوق إيدنبايهر شيء بالغ التعقيد.
أما الشفاه المطابقة لشفتي رانسلو، فقد كانت تنفتح وتُغلق مرات عدة كأنّها تهمّ بالكلام ثم تتراجع.
لكنّه ظلّ صامتًا حتى النهاية، وربّت بهدوء على رأس أنيتا.
“شكرًا لكِ، أنيتا.”
هل لأنها لم تتوقّع أن يمدحها؟ خفقت خجلاً فانخفض رأسها بقوة.
“لا تخبري أحدًا بما حدث اليوم. لا تخبري السيدة الكبيرة تحديدًا… أبدًا.”
“هي لا ترغب حتى بالكلام معي. لذا حتى لو أردت، لا يمكنني إخبارها.”
ركع دوق إيدنبايهر ببطء أمامها بعد أن لزم الصمت قليلاً.
ثم قابل بعينيه نظرتها المنخفضة كثيرًا مقارنة به، وسألها:
“أنيتا. هل تعلمين هذا؟”
كانت عيناه أكثر دفئًا ولطفًا بما لا يقاس من عيني رانسلو.
“عندما يبدأ الشتاء… يعمّ الصخب في مقرّ الدوق. الجميع يفكرون بسعادة في أيّ كعكة سيصنعون لك، وأيّ أغطية سيعدّونها لك.”
“كعكة؟”
“ألا تُقدّم لك كل يوم كعكة حلوة؟ لكن في إيدنبايهر… لا أحد يحب الحلويات. مشهد لا ترينه إلا في الشتاء. إنه يُعدّ فقط… لأجلك.”
“أنا….”
لـ… لم أكن أعلم.
هل سمع همستها الخافتة؟ إذ ارتسمت ابتسامة لطيفة على وجه الدوق.
“هناك أشخاص أكثر مما تتخيلين… يحبونك حقًا.”
لذا… لا تهدري لطفك على من هم غير مؤدبين.
كانت تلك أول مرة تسمع فيها عزاءً من شخص بالغ.
لم تكن كلمات عظيمة. ومع ذلك فقد منحتها كلمات الدوق سحرًا رائعًا.
لم تعد نظرات السيدة الكبيرة المقيتة تلسع، ولم تعد الكلمات والعبارات التي كانت تجلدها تؤلمها.
لن أُهدر لطفي على غير المؤدبين. لا… رانسلو مستثنى. فهو فقط… أكثر حساسية من الآخرين، لا أكثر.
كلام جلالته صحيح.
إن كان وقتي بالكاد يكفي لمكافأة من يحبّونني، فكيف أضيّعه في الحزن؟
سأقضي ذلك الوقت باللعب مع كلوديا أكثر… ثم… بما أنني عرفت الآن أنّ رانسلو يعاني أكثر مما ظننت…
عرفت أنه يتعذّب من مجرد الأصوات والروائح.
عليّ أن أحاول أكثر.
“صباح الخير، رانسلو.”
بجهد أكبر.
“رانسلو. م… ما الكتاب الذي تقرأه؟”
بجهد أكبر.
“رانسلو! انظر إلى توت العليق الذي وجدته كلوديا. إنه أحمر جدًّا!”
“أنتِ مزعجة. اخرجي.”
“سأنصرف بعد أن تراه.”
وحتى عند توبيخه لها… بذلت مزيدًا من الجهد.
“سررت برؤيتك، رانسلو. أُ… أُوكل إليك أمر هذا الشتاء أيضًا.”
أكثر… وأكثر.
“صباح الخير، رانسلو. هل رأيت الثلج الذي هطل طوال الفجر؟”
بجدٍّ…
“رأيته.”
هل… أخطأت السمع؟
فقد بدأت برودة طباعه—المتجمدة كجليد منتصف الشتاء—تذوب رويدًا، رويدًا .
“مرحبًا، رانسلو. مضى وقت طويل! كيف حالك؟ لقد ازددت طولاً.”
إنه اللقاء المعتاد في أواخر الشتاء.
ومن ارتفاع نظرٍ يزداد يومًا بعد يوم، هبط صوت رانسلو الجاف على أذن أنيتا مثل زهرة ربيعية تتمايل.
“أنتِ لم تطولي.”
في ذلك اليوم… هبط قلبها حتى أسفل قدميها من شدّة الفرح.
لقد ردّ تحيتي!
كلوديا! لقد ردّ رانسلو! لقد استجاب لتحيّة تافهة!
وعندما احتضنتها مغمضة العينين من الفرح، ضحكت كلوديا وهي تربّت على ظهرها.
“مضحك جدًّا. يبدو أنه صار إنسانًا.”
أصبح الحديث معه أطول.
وأصبح العبوس الذي يشدّ حاجبيه عند كل كلمة… يقلّ بشكل ملحوظ. وصار يحاول الإجابة—ولو بإيجاز—عن أي سؤال دون عصبية.
وكان تعليق كلوديا على هذا التغيّر المذهل بسيطًا:
“لأنك طيبة.”
همست بابتسامة مازحة، وهي صديقة وأخت كبرى وصغرى في آن واحد:
“لأنك طيبة جدًّا… حتى شيطان مثل رانسلو لم يعد يملك طاقة ليكون سيئًا معك.”
ذلك الإحساس حين تنظر إلى رانسلو.
ذلك الإحساس حين تلتقي عينيه وتسمع صوته… بدأ يختلف عن الإحساس الذي تشعر به تجاه كلوديا… في تلك الفترة بالذات.
ومرّت عدة فصول بعد ذلك.
“أنيتاا! ماذا أفعل! سأسافر للدراسة في دورولان!”
كانت كلوديا تستعد للدراسة في مملكة وراء البحر.
“تقول جدتي إنه مهما كنتُ جميلة… فحتى الجمال لا ينفع إذا كنت جاهلة لدرجة ألا أفهم الكلام!”
“إذا كانت جدتك تقول ذلك… فهذا يعني أنك لست من البشر أصلاً.”
“اصمت، رانسلو! … لكن، ماهو دورولان؟ هل هو اسم دولة أم مدرسة؟”
كان وداعًا لثلاث سنوات.
بعد أن عانقت أنيتا باكية لدرجة انسداد أنفها وتورّم عينيها، غادرت إلى مملكة دورولان.
في ذلك العام، ظنت أنيتا أنها لن تستطيع زيارة إيدنبايهر بعد الآن.
فبعد رحيل كلوديا، لم يعد لديها سبب لزيارة ذلك المكان… أليس كذلك؟
لكن رانسلو…
“أراكِ العام القادم.”
لأول مرة… ربت على رأسها، ووعدها بلقاء شتاء العام القادم.
فانسابت دموعها بغتة.
لأنه شكرها بوعد اللقاء.
لأن يده الخشنة التي أمسكت يدها للحظة… كانت محبّبة جدًّا، جدًّا، جدًّا.
آه… حقًا.
أنا أحبّه.
أحبت أنيتا رانسلو. أحبّته للغاية. حرارة خدها التي تتصاعد كلما رأته، ودقات قلبها التي تهتز بلا توقف.
كل إحساس وارتجاف وقّع عليه وجود رانسلو… كان ثمينًا للغاية.
ومرّت السنوات الثلاث بعدها كالبرق.
وكان كل شيء… هادئًا.
على الرغم من أنها أدركت أنّ رانسلو لا يحمل لها أيّ مشاعر. وأن ذلك جعلها تشعر بقليل من البؤس…
إلا أنها اعتقدت أنّ حياتها… مثالية كفيلم جميل.
وذلك… قبل أن يختفي والدها، وقبل أن ينهار بيتها وعائلتها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"