“كح، كح.”
ظنّت أنّ السعال سيتوقّف سريعًا، لكنّه ما إن بدأ حتى لم يهدأ. وما إن تَحوَّل إلى ضيق تنفّس وتقيّؤ جاف، حتى نهضت أنيتا مذعورة وهرعت نحو السرير.
سقطت البطانية التي كانت تغطي كتفيها على الأرض دون حياة.
على السرير، كان رانسلو، الذي لم تعلم متى عاد، متكوّرًا على نفسه وهو يقاوم الألم.
“رانسلو؟”
مسحت جبينه بلطف، وقد تبلّل تمامًا بعرق بارد. كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، فتلاشت عنها بقايا النعاس كليًّا لرؤية معاناته تلك.
“را- رانسلو، هل أنت بخير؟”
ارتكزت نظراته المرهقة والمضببة على وجهها.
حدّق فيها بصمت، وجفناه يطرفان ببطء كأنه سيغفو، ثم حرّك شفتيه اليابستين بصعوبة.
“…سيّئ.”
كان صوته مبحوحًا جدًا.
“هاه؟”
“ما صنعته أنتِ.”
تجمّدت أنيتا لحظة، قبل أن يخطر ببالها حساء الزنجبيل الذي كانت قد قدمته له قبل أيام.
“هل أكلتَه؟ لكنّك طلبت من الخادمة أن تتخلّص منه…”
بدأ رانسلو يسعل مجددًا بعنف حتى كاد يتقيأ، ثم تابع ببطء كلماته.
“أنا… لا أطيق الروائح القوية. تجعلني أتقيأ. أكره الضوضاء أيضًا. رأسي يطنّ ويؤلمني… كأن مسمارًا ينغرز في جمجمتي.”
تفاجأت. كانت تظنّه حساسًا فحسب، لكنها لم تتخيّل أنه يعاني إلى هذا الحدّ.
‘كنتُ أجهل ذلك تمامًا… وتحدثتُ مع كلوديا بفرح في الغرفة نفسها دون أن أراعيه.’
شعرت بالذنب ولم تستطع الكلام.
واصل رانسلو الحديث بصوت مبحوح يُسمع بالكاد وهو يحدّق بعينيها.
“أنا فقط… لا أحتمل الأشياء الصاخبة والمزعجة.”
وبينما كانت عيناه تتلاشى ببطء خلف جفونه، أضاف بصوت متعب:
“إذا كنتِ تنوين الاستمرار في زيارة إيدنبايهر، فاحفظي هذا في بالك.”
بدت أنفاسه أكثر انتظامًا. مدت أنيتا يدها وسحبت البطانية لتغطي كتفيه برفق.
تنهدت براحة وخرجت من الغرفة.
طَقّ.
لكن كلماته تلك ظلت ترنّ في ذهنها طوال طريق عودتها إلى غرفتها، تغرقها في أفكار لا حصر لها.
رغم ثقلها جميعًا، خلصت إلى نتيجة واحدة:
مهما قال الناس… كانت محقّة بالمجيء إلى إيدنبايهر.
***
في ظهيرة يومٍ هدأ فيه الثلج بعد عاصفة استمرت يومين.
“أنيتااا، لا تكوني هكذا! هيا بنا للخارج، أرجوكِ! وصل أمس سيرك إلى المدينة! يقولون أن هناك رجلٌ طويلٌ جدًا وامرأة تنفث النار!”
كان هذا توسّل كلوديا العاشر.
تعلّقت بذراع أنيتا بوجه متوسّل، تكرر الطلب نفسه عشر دقائق كاملة.
“هاه؟ هاه؟ هيا، فلنذهب!”
في العادة كانت أنيتا تلبّي رغباتها بسهولة، لكنّها اليوم لم تفعل.
رمقت الباب المغلق بنظرة قلقة.
خلف ذلك الباب يرقد رانسلو نائمًا. تدهورت حالته منذ الليلة الماضية، ولا يفارقها القلق عليه.
لن يعود دوق إيدنبايهر قبل المساء، أما الدوقة الكبرى فهي لا تجرؤ حتى على دخول الغرفة، إذ يعلم الجميع كم يكرهها رانسلو.
مربيته العجوز تلازمه كل يوم، لكن التعب بدا واضحًا عليها.
أنيتا أرادت أن تساعدها.
“الجو بارد اليوم… لنؤجل الأمر للغد يا كلوديا. فرقة السيرك تبقى أسبوعًا في كل مدينة، سنراهم غدًا.”
“لكنني أريد رؤيتهم اليوم! اليوم، وليس غدًا!”
زمّت كلوديا شفتيها بامتعاض، ثم بعد لحظات طويلة أومأت.
“حسنًا، فقط هذه المرة. لأنكِ دائمًا تلبين طلبي، سأتغاضى هذه المرة.”
“شكرًا لكِ.”
“أمي تقول إن من يأخذ يجب أن يُعطي أيضًا. لكن غدًا يجب أن نلهو في الخارج طوال اليوم، وعد؟”
“وعد.”
وهكذا قضت أنيتا بقية النهار والمساء في القراءة وحلّ الألغاز بجوار رانسلو، مسرورة لأنه لم يُبدِ أعراضًا شديدة كما في الليلة السابقة.
حين انتبهت للوقت، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة.
“أنيتا.”
نادتها كلوديا بصوت مفعم بالقلق، مرتدية رداء النوم.
“متى ستنامين؟ لقد بقيتِ بجانب رانسلو طوال اليوم. ألا تشعرين بالتعب؟”
لم يكن هناك ما يرهقها، فقد كانت تراقبه من حينٍ لآخر وهي تقرأ أو تلعب بالألغاز.
“أنا قلقة عليه فقط. الجو بارد أيضًا.”
“لكن رانسلو دائم المرض… لا تبقي معه طويلاً، وإلا ستُصابين أنتِ أيضًا، وسأبقى بلا من يلاعبني.”
“لا تقلقي. ليلة سعيدة يا كلوديا.”
بعد أن غادرت كلوديا، ساد الصمت في الغرفة. لا تدري متى غفت أنيتا نصف غفوة، لكنّها أفاقت على صوت حركة خافتة.
“…آه.”
رمشت بعينين شاردتين، ثم جلست فجأة حين سمعت أنينًا مكتومًا.
“آه…”
مرة أخرى؟
“رانسلو؟”
هل بدأ الألم مجددًا؟
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا.
سقط رانسلو من السرير وبدأ جسده ينتفض بعنف كأنه في نوبة.
ماذا أفعل؟!
أسرعت إليه لتتحقق من حاله.
“رانسلو، هل أنت بخير؟”
لكن وضعه كان خطيرًا.
امتدت عروق زرقاء باهتة من صدره حتى أسفل ذقنه كجذور شجرة جافة، وشفاهه المتشققة تنزف دمًا من كثرة عضّه لها. جسده كله يرتجف كالمحموم.
لهث وقال بألم متقطع:
“اللعنة… صدري… يحترق.”
ص… صدره؟ لماذا؟ أهو مرض في القلب؟
“انتظر قليلًا، سأنادي أحدًا… آه!”
وقبل أن تنهض، جذبها ذراعٌ قويّ لم تشعر بمثله من قبل، فسقطت للخلف.
كانت يده المشدودة بعروق بارزة تطبق على ذراعها بقوة، وأظافره الحادة البيضاء تغوص في جلدها، حتى تساقطت قطرات دمٍ حمراء على الأرض.
“آه، يؤلمني يا رانسلو!”
“كخ…”
وفجأة، ومضة غريبة لمعَت في عينيه.
تجمدت أنيتا في مكانها.
‘آه.’
شعور غريب كأن قلبها يُقبض، فشهقت دون وعي.
ما هذا؟
‘كأن شرارة اشتعلت داخل صدري.’
رفعت نظرها بدهشة نحوه.
كانت عيناه غريبتين — بؤبؤان عموديان كعيون الزواحف، وفيهما لون ذهبي لامع.
‘عينان… ذهبيتان؟’
هل كانت عيناه بهذا اللمعان الذهبي من قبل؟ كانت تذكرها خضراء داكنة بعض الشيء…
“اللعنة!”
صرخ فجأة، فارتعدت أنيتا واحتضنته بقوة.
خرج من بين شفتيه المزرقتين أنينٌ موجع.
شعرت بالخوف. لم تصدق أن رانسلو، القويّ دومًا، يصرخ باكيًا من شدّة الألم.
أمسك بيديها ووضعها على عنقه هامسًا:
“اقتليني…”
ماذا؟ ماذا عليّ أن أفعل؟
‘أنا خائفة.’
ماذا لو حدث له شيء؟ وإن خرجتُ لأطلب المساعدة، قد يؤذي نفسه…
لم تخنقه كما طلب، بل احتضنته بقوة أكبر.
اختفى ألم ذراعها تحت وطأة الخوف.
همس بصوت مبحوح مرتجف:
“إنه… مؤلم حدّ اللعنة. اقتليني يا أنيتا، أرجوك.”
“ستكون بخير يا رانسلو، تحمّل قليلاً فقط… كما في كل مرة، ستهدأ.”
لو استطاعت، لكانت شاطرته ألمه تلك الليلة.
“سأبقى هنا، لن أتركك. سأحرسك طوال الليل. كل شيء سيكون بخير، رانسلو.”
لكن التشنجات لم تتوقف. مدّت يدها المرتجفة لتضمّ جسده البارد وتمنحه دفأها.
“أتعلم؟ وصلت فرقة السيرك اليوم. قالت لي كلوديا ذلك ظهرًا. دعتني للذهاب، لكني رفضت…”
لم تكن تعرف ما تقول، لكنها واصلت الحديث، كأن الكلمات ستمنعه من الانهيار.
وبينما احتضنته بذراع، مسحت بيدها الأخرى على ظهره العظمي الضعيف.
“يقولون إنها فرقة رائعة جدًا… مشهورة لدرجة أن الناس يأتون من المدن المجاورة لرؤيتها. هناك رجلٌ طويلٌ جدًا وامرأة تنفث النار…”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"