توقفت السيدة الكبرى أمام الطاولة، وخلعت قفازيها الجلديين الشتويين، ثم ابتسمت ابتسامة ودودة.
“تعالي إلى هنا يا كلوديا. مضى وقت طويل منذ أن جلسنا سويًا لنحتسي شايًا دافئًا ونتحدث…”
“ما الأمر يا جدتي! لماذا تتجاهلين أنيتا؟!”
وقفت كلوديا أمام أنيتا التي تجمّدت في مكانها كأن قدميها التصقتا بالأرض.
ثم رفعت صوتها بعروق مشدودة في عنقها وهي تصرخ:
“لماذا تتجاهلينها؟!”
غشيت عيني السيدة الكبرى نظرة صارمة.
“اخفضي صوتك. نساء أسرة إيدنبايهر لا يرفعن أصواتهن عبثًا يا كلوديا. يبدو أنكِ بحاجة إلى تعلم الأدب مجددًا.”
“لكن يا جدتي…”
“ناديني بالسيدة الكبرى. وأعيدُ تذكيرك بما يبدو أنكِ نسيته.”
أصدرت صوتًا خفيفًا وهي تسحب أطباق الحلويات الملونة، وتنقل قطع الكعك والخبز إلى الصحون، ثم قالت بنبرة هادئة تحمل تحذيرًا:
“لا تلتقطي من الشوارع من تسمّينهم أصدقاء. تذكّري دائمًا أننا من نسل الإمبراطورية العظمى أتلانتي.”
أغمضت أنيتا عينيها بقوة ثم فتحتهما مجددًا.
وكان أول ما خطر ببالها هو أنها لم تعد تشعر بتلك الحرقة الممزقة في صدرها كما كانت تفعل في السابق.
عجيب… لماذا؟
“آه!”
صرخت كلوديا التي لم تستطع كبح غضبها، فاندفعت إلى الأمام.
وبصوت خفيف يصحبه خفق ناعم، ارتفع قماش أزرق داكن نبيل إلى سقف الغرفة — كان ذيل ثوب السيدة الكبرى.
بدى المشهد كسماء ليلية تفيض بالعتمة بعد أن عجزت عن احتواء نجومها. فتحت أنيتا فمها بدهشة دون أن تدري.
“كلوديا!”
تجاهلت كلوديا الصرخة الغاضبة وأمسكت بيد أنيتا وهربتا مسرعتين.
صرخت السيدة الكبرى بصوت غاضب وهي تُصلح ثوبها على عجل:
“توقّفي هناك!”
لماذا هربتُ مع كلوديا؟
لا أعلم. لكن بينما كنت أركض بكل قوتي، شعرتُ وكأن الضيق الذي يطبق على صدري بدأ يتفكك قليلاً. وربما، في لحظة ما، ضحكتُ مع كلوديا ضحكة خفيفة.
دوّى صوت إغلاق الباب بقوة.
اختبأتا خلف السرير.
ولم يكن أمامهما سوى مكان واحد يمكن الهروب إليه داخل هذا القصر الشاسع.
غرفة رانسلو.
كانت كلوديا تلهث بشدة، ثم التفتت نحو الباب وقالت وهي تراقبه:
“لا تأخذي الأمر على محمل الجد. جدّتي هكذا دائمًا. متصلّبة، مملة، وتصرخ طول الوقت: حافظي على هيبة أسرة إيدنبايهر!… أليس كذلك، رانسلو؟”
كان رانسلو جالسًا على السرير، يقلب صفحات كتابه بهدوء، وكأن ما يحدث لا يعنيه.
“هل تعلم؟ جاءت السيدة الكبرى بنفسها، لكنها تجاهلت تحية أنيتا تمامًا!”
ظهر على وجه رانسلو تعبير واضح من الضيق.
“قولي لهم إنني مريض. مريض لدرجة أنني لن أستطيع رؤيتهم لمدة شهر على الأقل.”
“أرأيتِ؟ حتى رانسلو المغرور لا يحتملها. هذا يعني أنه يعرف كم هي سيئة. لذا تجاهليها أنتِ أيضًا يا أنيتا.”
هزّت أنيتا رأسها من دون تفكير، لكن صوت ضحكة ساخرة من رانسلو قطع الموقف.
“أن تقدّمي مثل هذا الكلام كنصيحة؟ وتعرفين جيدًا أنها ليست في نفس موقفك؟ كفى ثرثرة واخرجي من هنا.”
موقف مختلف.
كان محقًّا. لكن للمرة الأولى أرادت أنيتا أن تصدّق أن كلوديا هي المحقة.
لو لم تكن هناك… لكانت أنيتا ترتجف وحيدة مرة أخرى في غرفة مظلمة.
من دون تفكير، عانقت أنيتا كلوديا بقوة.
“شكرًا لكِ حقًا. أنا محظوظة لأنكِ هنا.”
“هاه؟ أ-أوه…”
تقلّصت كتفا كلوديا خجلاً، لكنها سرعان ما فتحت ذراعيها واحتضنتها بالمثل.
كانت تلك أول مرة تشعر فيها أنيتا بدفء ناعم صادر من شخص ليس والدها.
***
في ذلك اليوم، هبّت عاصفة ثلجية عنيفة بعد أيام من الهدوء.
توقفت خطوات أنيتا ببطء وهي تمشي عبر الممر الطويل.
كان أمامها جدار تتدلّى عليه لوحة جدارية ضخمة.
“هل كانت هذه اللوحة هنا من قبل؟”
لوحة مذهلة لا يمكن احتوائها بنظرة واحدة إلا إذا ابتعدت قليلاً. ورغم المسافة، كانت تفاصيل ضربات الفرشاة الدقيقة واضحة للعين.
“جميلة.”
في اللوحة، كان تنين ضخم يزأر، بينما يجثو أمامه الحكماء والعجائز والأطفال والعاجزون رافعين دعاءهم إليه.
عرفت أنيتا ذلك التنين.
التنين الذهبي “نوازا” — سيد أسطورة نوازا، ومؤسس الإمبراطورية العظمى أتلانتي التي اندثرت.
“قرأتُ عن هذه الصورة في كتاب وأنا صغيرة… إذن كانت ملكًا لأسرة إيدنبايهر.”
للمرة الأولى، شعرت أنيتا فعليًا ببعد المسافة بين مكانتها ومكانة كلوديا ورانسلو.
فأسرة إيدنبايهر هم أحفاد العائلة الإمبراطورية لأتلانتي. ولو كانت الإمبراطورية لا تزال قائمة، لكانوا ورثوا العرش.
“ولن أكون قد التقيت بـ كلوديا ورانسلو أبدًا حتى الموت.”
يجب أن أدرس بجد أكثر… حتى لا أكون صديقة مخزية لهم.
كانت على وشك الابتعاد حين سمعت صوتًا راقيًا يعلو خلفها.
“أسرة إيدنبايهر أحد الأسر الثلاث الأسطورية التي تنحدر من نوازا.”
كان صوت السيدة الكبرى.
التفتت أنيتا بسرعة. لم يسبق أن اقتربت السيدة الكبرى منها بمبادرة منها من قبل.
“لا يزال دم نوازا يجري في عروقنا، وبعض أفرادنا يولدون بقدرة على <التجلّي>. ولهذا ظل الناس ينظرون إلى إيدنبايهر بوصفهم حماة شافالون منذ زمن بعيد.”
“<التجلّي>؟”
كانت السيدة الكبرى تتأمل اللوحة بعينين مبهورتين، ثم تابعت بنبرة تفخر بنفسها
“رانسلو هو الوريث الوحيد في جيله الذي يُتوقع أن يُظهر <التجلّي>. هو إيدنبايهر مجسّد، الابن الذي ربّيناه أنا والدوق بحب عظيم.”
كانت هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها السيدة الكبرى معها بلطف، فلم تستطع أنيتا منع الأمل من التسرب إلى قلبها.
هل اعترفت بي كصديقة لـ كلوديا ورانسلو؟
قالت بشجاعة مترددة:
“رائع… رانسلو يحظى بحب الدوق والسيدة الكبرى…”
“رانسلو؟!”
جاء الصوت حادًا كالسيف يخترق طبلة أذنها. نظرة مشتعلة بالاشمئزاز صوّبت نحوها.
“يا وقحة! قولي السيد رانسلو!”
“…”
“إن كنتِ من أصلٍ وضيع، فعلى الأقل كوني ذكية أو فطِنة. لكنك تتجرئين على الترفع فوق قدرك؟”
لم تكن مجرد نظرة احتقار. كانت نظرة كراهية صافية، تُعامِلها كما لو كانت جثة فأر طافية في مجرى قذر.
شعرت أنيتا بأن النظر إليها بحد ذاته صار ذنبًا، فانحنت برأسها دون وعي.
توهّج حلقها بحرارة مألوفة من الغضب والمهانة.
“لم أكن أعلم أن ذلك الحقير مخادع إلى هذا الحد… يستغل ابنتي ليطمع في دماء إيدنبايهر! كيف يجرؤ على محاولة تطهير نسله الملوث عبر رانسلو؟!”
دمٌ ملوث.
كلماتها غرست خناجرها في كبريائها. خفق قلبها بعنف وارتجفت يداها، لكنها قالت:
“أ… أبي ليس… ليس مخادعًا!”
قالتها أخيرًا. رغم أنها لم تجرؤ على النظر، فإن صوتها لم يكن يرتعش كثيرًا هذه المرة.
لكن السيدة الكبرى ما زالت تحدق فيها وكأنها تنظر إلى شيء نجس.
“ما مقدار مكرك لتؤدي دور الفتاة المتلعثمة؟”
نقرت بلسانها وقالت:
“كفى. من المضحك أن أغضب على طفلة. اذهبي وأخبري أباكِ هذا: لا تجرؤوا على تقديم ابنة وضيع متلعثمة كخطيبة لرانسلو…”
لكن كلماتها انقطعت فجأة، إذ اتسعت عيناها دهشة وهي تنظر خلف أنيتا.
“يا إلهي… رانسلو!”
رانسلو؟
التفتت أنيتا، فرأت رانسلو يتقدم نحوهما بخطى بطيئة وصامتة، ووجهه شاحب كأنه على وشك الإغماء.
“يا صغيري، كيف تخرج في هذا الطقس البارد؟ ستسوء حالتك أكثر!”
كان وجهه، باردًا متجمدًا.
وكلما اقترب، وصل إلى أنف أنيتا عبيرٌ خفيف يحمل معه برودة قاسية.
شفاهه المغلقة بإحكام كشفت بوضوح عن عدائه.
لكن السيدة الكبرى لم تلحظ شيئًا من ذلك.
“يجب أن تكون مطيعًا يا حبيبي. الأطفال الصالحون فقط يمكنهم أن يصبحوا سادة عظماء لأسرة إيدنبايهر.”
اقترب منها، تنبعث منه رائحة دافئة تشبه شمس تجفف الأغطية النظيفة.
“مهما يكن، أباك هو السبب! لا تشبهه أبدًا يا رانسلو. صحيح أنه ابني الذي أنجبته بآلامي، لكن حقًا…”
“اذهبي.”
كانت همسة بالكاد تُسمع، لا يمكن أن تلتقطها سوى أنيتا.
في اللحظة نفسها، شعرت بيد تدفع كتفها إلى الخلف بلطف.
تقدّم رانسلو ووقف أمام السيدة الكبرى، حائلا بينهما.
حدّقت أنيتا في ظهره النحيل بذهول.
كان هزيلا للغاية، حتى بالمقارنة بها.
يا لفرط بياض عنقه الذي لم تمسّه الشمس يومًا، ويا لرقّة معصميه وأصابعه التي تبدو كأنها ستنكسر… كأنها تخص فتاة لا فتى.
أليس هو من يجب أن يُحمى، لا هي؟
“هيا، تعال إلى هنا يا رانسلو. لنذهب سويًا أنا وأنت…”
لكن رانسلو لم يتحرك من أمام أنيتا.
فتراجعت هي ببطء، ثم ركضت مبتعدة عن المكان.
هل كان يحاول مساعدتها؟
لا تعلم.
سارت بخطوات غريزية نحو المكان الوحيد الذي منحها الأمان — غرفة رانسلو، ملاذهم الصغير.
كانت الغرفة هادئة.
ودافئة.
غرفة رانسلو دائمًا دافئة. لهذا أحبتها.
صاحب الغرفة نفسه بارد وجامد، صعب المراس، وأحيانًا مخيف…
‘لكنّه لم يقل أبدًا إنه يكرهني.
ولم يقل أبدًا ألا أتحدث إليه.’
أغلقت الباب بهدوء، وجلست في صمت حتى أخذها النعاس دون أن تشعر.
“كحّ، كحّ.”
استفاقت فجأة على صوت سعال خافت.
عرفت فورًا أنه رانسلو. لكن إن لم تكن تتوهّم، فقد بدا سعاله هذه المرة أقوى وأثقل من المعتاد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"