4
في البداية، كانت أنيتا تنوي إعادة الكتاب الذي استعارته من الصبي عن طريق أحد الخدم.
فهي لا تعرف إن كانت ستراه مجددًا أم لا، وفوق ذلك، كان لقاءه مرة أخرى فكرة تُخيفها.
وبما أن منزلها يبعد عن قصر دوق إيدنبايهر حوالي أربع ساعات بالعربة، فلن يكون هناك خطر على الكتاب إن أرسلته مع أحد الخدم مباشرة.
ولهذا، أمضت اليوم الذي يسبق موعد إعادة الكتاب في التجول بين شوارع المدينة تفكر مليًا.
‘ما الهدية المناسبة كردّ للجميل؟’
فما الذي يمكن أن يُعتبر هدية تليق بابن أسرة دوقية عظيمة؟
وبعد طول تفكير، وقع اختيارها على كعكات زبدة صغيرة كانت مربيتها قد خبزتها بنفسها.
فما من هدية يمكن تقدير قيمتها كما تُقدّر الكعكات، ولا شيء يفوق مهارة مربيتها في الخَبز.
وهكذا، وبعد أن اجتهدت في تغليفها بعناية، بدا صندوق كعكات الزبدة جميلاً ومهندمًا جيدًا.
كل شيء كان مثاليًا، باستثناء أمرٍ واحد: أنيتا هي من ستسلّم الهدية بنفسها.
“ستمضين هناك ليلة واحدة فقط، لذا جهزي كل ما تحتاجه الصغيرة.”
“نعم، سيدي.”
وهكذا، زارت أنيتا ووالدها قصر دوق إيدنبايهر مجددًا.
لم تكن تعرف تفاصيل ما يشغل الكبار، لكنها أدركت أن والدها قد بذل جهدًا كبيرًا من أجل هذا اليوم.
‘لا بد أن الأمر مهم.’
لكن فكرة لقاء أولئك الأطفال مجددًا جعلت رأسها يؤلمها وأطلقت تنهيدة طويلة.
لن أخرج من الغرفة هذه المرة.
لاحظ والدها الكتاب الذي كانت تخفيه في حقيبتها وسألها:
“ما هذا الكتاب؟”
“استعرته من مكتبة أسرة إيدنبايهر في المرة الماضية.”
“ماذا؟!”
تفحّص والدها الكتاب بتأمل ثم نظر إليها بصرامة وقال:
“أنيتا، لا يجوز استعارة أشياء كهذه دون إذن. هل فهمتِ؟ لا تكرري هذا أبدًا.”
لكني حصلت على إذن…
ومع ذلك، كانت تخشى أن يذهب والدها ويسأل عن الأمر بنفسه إن ذكرت اسم الصبي.
لذا قررت أن تُخفي كل ما يتعلق برانسلو.
“نعم، أنا آسفة.”
واصلت العربة سيرها أربع ساعات أخرى.
وبما أنهما غادرا مع شروق الشمس، وصلا قصر إيدنبايهر قبل الظهر بقليل.
“قدّمي التحية، أنيتا. هذا هو دوق إيدنبايهر.”
انحنى رجل طويل القامة، فخم الهيئة، حتى صار على مستوى نظرها.
عينان زرقاوتان كعيني رانسلو، وشعر أشقر مثله تمامًا.
تذكرت أنيتا كلمات مربيتها التي أوصتها بها قبل مغادرتها المنزل:
[دوق إيدنبايهر هو ابن شقيق الملك الراحل شوفلِك الثاني، وابن عم الملك الحالي. إنه رجل ذو مكانة عالية، فاحرصي على الالتزام بالآداب.]
ابن عم الملك…
توترت أنيتا أمام تلك المكانة المهيبة، وألقت التحية بصوت مرتجف:
“مرحبًا، سيدي الدوق. أنا أنيتا فيلريني.”
مدّ يده الكبيرة وأمسك بيدها الصغيرة.
كانت يده دافئة كيد والدها، مما جعلها ترفع رأسها إليه بعينين متسائلتين.
فقد ظنت أن والد رانسلو سيكون باردًا كابنه.
“عيناك تشبهان عيني والدك تمامًا، يا أنيتا. سررتُ بلقائك. أتمنى أن تستمتعي بوقتك في قصر إيدنبايهر.”
بعد التحية، تجولت في الطابق الأول من القصر وهي تحمل بين ذراعيها الكتاب الثقيل وصندوق الكعك.
لكنها أحست بشيء غريب… كان القصر صامتًا على نحوٍ مريب.
“أبي، أين أصدقائي؟”
أجابها والدها وهو يصعد خلف الدوق على الدرج:
“لن يكون هنا اليوم أحد من عمرك سوى اللورد الصغير رانسلو. أنا مشغول اليوم، فاذهبي وتفقدي الحديقة أو ما تشائين.”
الأطفال الآخرون غير موجودين؟!
“حسنًا!”
أجابته بوجهٍ مشرق، ثم انطلقت تبحث عن رانسلو في كل أرجاء القصر.
وما إن عثرت عليه أخيرًا جالسًا على كرسيه منهمكًا في القراءة، حتى لاحظت وجود فتاة شقراء غريبة تجلس معه.
‘من تكون؟’
تجمّدت أنيتا للحظة وهي تحدّق بهما، فاجتاحت ذهنها ذكرى اليوم المشؤوم السابق كوميضٍ خاطف.
‘هل يمكن أن تكون واحدة من أولئك الأطفال؟’
شحب وجهها في الحال.
ومن دون أن تجرؤ على النظر إلى الفتاة، هرعت إلى الطاولة ووضعت فوقها الكتاب وصندوق الكعك.
كانت تنوي أن تُعيد كل شيء وتغادر بسرعة.
“هـ، هذا هو الكتاب الذي استعرته في المرة السابقة…”
“من تكونين؟”
لكن صوت الفتاة المجهولة، التي رفعت رأسها فجأة، أوقفها.
شَعرٌ أشقر أنصع من شَعر رانسلو، عينان خضراوتان فيهما بريق المشاكسة، وجه مستدير كدمية قماشية وملامح صغيرة متناغمة.
لم تكن جميلة مثل رانسلو، لكنها كانت قريبة منه في الجمال.
“أنتِ جميلة جدًا!”
لم يكن ذلك من أنيتا، بل من الفتاة نفسها التي تابعت باندهاش صادق:
“حقًا جميلة! أنتِ أجمل فتاة رأيتها في حياتي!”
“…أنا؟”
“نعم، أنتِ. ما اسمكِ؟”
أنا…
لم تستطع الإجابة.
صارت أنيتا منذ مدة تخشى الإفصاح عن اسمها، تحديدًا منذ الحادثة التي وقعت قبل أسبوع.
ماذا لو انتشر أنها ليست من النبلاء وأنها لا يحق لها الاختلاط بهم؟
ماذا لو نعتتني هذه الفتاة بالهجينة أيضًا؟
ماذا لو تجمد لساني من الخوف كما حدث حينها؟
“أسرعي!”
“أه… أنيتا فيلريني.”
نطقت باسمها أخيرًا تحت وطأة إلحاح الفتاة.
ابتسمت الأخيرة بفخر وهي ترفع صدرها وتقول بثقة:
“أهلاً بك! أنا كلودينيا هاوس. ابنة شقيقة الدوق إيدنبايهر.”
“ابنة شقيقة الدوق…؟”
ماذا يعني هذا؟
“يعني أنها ابنة خالتي.”
كان رانسلو هو من أجاب.
نقر بلسانه باستياء وقال ببرود دون أن يرفع جسده عن الكرسي:
“لا تتحدثي مع تلك الحمقاء. أنتِ غبية أصلاً، وستزدادين غباءً بصحبتِها.”
من الحمقاء؟ أنا؟
تلقت أنيتا الصدمة في صمت.
لم يُسبق لأحد أن وصفها بالغباء من قبل.
هل كان مدح المربية — حين كانت تقول إنها تتعلم شيئَين عندما تُعلَّم واحدًا — مجرد مجاملة فارغة؟
أفاقت من شرودها وتنفست بعمق.
“مرحبًا، رانسلو إيدنبايهر.”
رفع الصبي نظره إليها للحظة ثم عاد إلى كتابه.
“الكتاب.”
“أحضرتُه معي. وأيضًا هذا…”
زفرت ببطء لتخفف من توترها وقدّمت له الصندوق.
“شكرًا لأنك أعرتني الكتاب.”
“اتركيه هناك.”
ألن تتذوقه؟
طبعًا لم يكن عليها أن تتوقع أن يأكل منه فورًا، لكنها وضعت الصندوق على الطاولة بحزن خفيف.
“إذن هو يعرف الكلام؟ ظننتُه أبكم!”
قالت كلودينيا بصوتٍ عال كأنها لا تبالي بوجوده، مما جعل أنيتا تتجمد حائرة.
ضحكت كلودينيا وربّتت على كتفها مطمئنة:
“أنا أمزح فقط! أقصد أنه لا يتحدث أبدًا. تجاهل تسعة أعشار ما أقوله له. أليس هذا مزعجًا؟”
“لا تتكلمي في غرفتي. اخرجي من هنا.”
جاء صوته ببرودٍ معتاد، فرفعت أنيتا رأسها لتتفقد المكان.
إذن هذه غرفته.
كانت الغرفة دافئة ومريحة مثل غرفتها، ولا شيء فيها يوحي بأنها تخص وريث أسرةٍ نبيلة عظيمة.
“أرأيتِ؟ كل ما يعرف قوله هو: اخرجي، غادري، اصمتي!”
“هين آلو.”
“ماذا قلت؟”
“يعني اخرجي، بلُغتنا الأم.”
“تكلّم بلغتنا! هل تسخر مني؟”
“أراكِ على الأقل تدركين الأمر بنفسك.”
تجادلت كلودينيا بصوت مرتفع، ثم سحبت أنيتا برفق وأجلستها بجانبها على الأريكة.
كانت فرِحة لأنها وجدت حليفًا جديدًا، فشبكت ذراعها بذراع أنيتا قائلة بابتسامة مشرقة:
“لا تهتمي لكلامه، يا أنيتا. لسنا بحاجة لأن نكون أذكياء. جدتي تقول إن الفتيات الجميلات لا يحتجن إلى الذكاء.”
تصلّب جسد أنيتا من شدة التوتر، إذ لم تعتد أن تعانقها فتاة تلتقيها لأول مرة.
“تقول أيضًا إن من يملك قلبًا طيبًا ويعرف كيف يكوّن صداقات سيكون سعيدًا، حتى لو كان جاهلاً. أما رانسلو، فقلبه قاسٍ وليس له أصدقاء، لذا سيعيش تعيسًا.”
هل يجوز أن تقول هذا عن ابن خالها؟
لكن رانسلو لم يُبدِ أي رد فعل، وكأنه لم يسمع شيئًا.
“أنيتا، أنتِ تبدين طيبة وجميلة، فلا بد أن لديكِ الكثير من الأصدقاء، أليس كذلك؟”
أصدقاء…
[والدك بلا مكانة ولا أصل ولا دمٍ نبيل. وابنته حتمًا هجينة مثله، لذلك من الأفضل أن تبقى بعيدة عنا كي لا تُفسدنا. فهمتِ الآن؟]
لماذا تذكرت تلك الكلمات فجأة؟
احمرّت عينا أنيتا.
“هاه؟”
صُدمت كلودينيا من ملامحها المرتبكة، فقفزت من مكانها وهي تصيح:
“هـ، هل قلتُ شيئًا خاطئًا؟!”
بالطبع لا. لم ترتكب أي خطأ.
ماذا أفعل الآن؟ لم تستطع أنيتا النطق. حبست دموعها بصعوبة وهزّت رأسها نافية.
“لا أعرف ما الخطأ، لكني آسفة جدًا! أعدك ألا أكرره!”
لا، لا يجب أن تعتذر هي…
فتحت أنيتا شفتيها بصعوبة وقالت بصوتٍ مبحوحٍ متقطع…
التعليقات لهذا الفصل " 4"