3
ذلك… بالطبع، ليس من شأني، لكن…
عادت لتجلس على الأرض وهي تعانق ركبتيها من جديد.
رغم نبرته الجافة، كان صوته جميلاً جدًا. جميلاً لدرجة أن قلب أنيتا التي كانت تصغي إليه بدأ يستعيد هدوءه، حتى إنها كادت تنسى الثقل الكئيب الذي كان يخنق صدرها.
‘هل يمكن أن يكون جنّي الكتب؟’
أم ربما قزمًا؟ هل كلّ الأقزام يملكون أصواتًا جميلة هكذا؟
كانت تمسح بطرف أنفها الذي دغدغته البرودة حين سمعت صوتًا خافتًا.
صرير. صوت كرسي يُسحب، تلاه وقع خطوات هادئة تقترب شيئًا فشيئًا. ومع ازدياد الصوت قربًا، أخذ الضوء الأصفر البعيد يزداد سطوعًا تدريجيًا.
وكان مصدر الضوء مصباحًا يحمله صبي.
صبي أشقر يرتدي سترة صوفية سميكة.
بشرة بيضاء كثلج لم تطأه أقدام أحد، عينان خضراوتان، قامة أقصر من أنيتا، وملامح متجهمة تفوح منها كآبة خفيفة.
‘كان جميلًا لدرجة ظننتُه دمية.’
بل إنها للحظة ظنّت أنه فتاة، لكنه كان صبيًا بالفعل.
صبي صغير، أبيض البشرة، جميل، أشبه بالفتيات.
وما إن أيقنت أنيتا من حقيقته حتى هبّت واقفة وقد ارتسمت على وجهها الدهشة.
“أيـ، أيها الجنيّ!”
ازداد التجهم العميق بين حاجبيه انقباضًا.
“هيه.”
نقر الصبي بلسانه بنفاد صبر وهو ينظر إليها بازدراء.
“لا تأكلي مخاطك.”
كانت ملاحظته باردة كريح ثلجية، رغم مظهره الذي يذكّر بكوب حليب دافئ.
كان سلوكه باردًا بدرجة مدهشة لشخص يلتقيها أول مرة، ما جعل أنيتا تستفيق من ذهولها على الفور.
“… إذًا، لست جنيًا؟”
طبعًا لا.
نعم، من الطبيعي ألا يكون كذلك. فهل توجد مثل تلك الكائنات أصلاً؟
شعرت بحرارة الخجل تحرق وجهها. خجل مختلف تمامًا عن ذلك الذي كانت تشعر به حين تقف أمام الأطفال الآخرين.
ففي تلك المرات كانت ترغب في الهرب، أما الآن فقد أرادت أن تختفي.
“إذا لم تكوني جئتِ بنية القراءة، فاخرجي.”
حتى ظهره الذي أداره نحوها وهو يلقي بآخر تحذيراته بدا باردًا لا يقل عن وجهه.
ومع ابتعاده، أخذ الضوء الذي كان يضيء وجهه يخفت، حتى غمرت أنيتا ظلال المكتبة الصامتة.
ذلك الظلام الذي لم يكن يخيفها قبل لقائه، صار الآن غريبًا، باردًا وضاغطًا.
“المكتبة مكان مخصّص للقراءة.”
لم يكن من الصواب أن تزعجه.
لكن… إن خرجت، فلن تجد مكانًا تذهب إليه.
فوالدها مشغول دائمًا، والأطفال كلهم يتجنبونها، ولم يكن هناك من يستقبلها سوى غرفة خالية بلا حياة.
غرفة باردة لأن لا أحد يوقد فيها النار.
هادئة لأنها خالية من الناس.
‘… ربما إن قرأت كتابًا، يمكنني البقاء هنا، أليس كذلك؟’
لم يدم ترددها طويلًا.
أسرعت أنيتا نحو أقرب رف كتب، وانتزعت أول كتاب وقعت عليه عيناها، ثم مشت بخطوات حذرة نحو الطاولة التي جلس عندها الصبي.
جلست متعمدة الابتعاد عنه، لكن لسوء الحظ كان ذلك يعني أيضًا الابتعاد عن المصباح الوحيد الذي جلبه معه، فصارت القراءة شبه مستحيلة.
ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
هذه المرة طال ترددها أكثر من ذي قبل.
وحين تجرأت وجلست أمامه مباشرة، رفعت رأسها لتصطدم بنظراته الحادّة.
“أنـ، أنا أيضًا… أريد أن أقرأ.”
كان صوتها أقرب إلى تبرير خجول خرج دون قصد.
ولحسن حظها، سرعان ما عاد الصبي ببصره إلى كتابه. أطلقت أنيتا تنهيدة ارتياح وفتحت كتابها بدورها.
لكن ما إن فتحته حتى تجمّدت.
“آه؟!”
لقد اختارت مصادفةً كتابًا بلغة أجنبية.
‘لهذا كان يرمقني بتلك النظرات…’
ها قد فعلتها مجددًا، أمر يجعل وجهها يحمرّ خجلاً.
بقيت تحدّق في الصفحة الأولى بصمت.
ثم لمحت بحركة عفوية الكتاب الذي يقرأه الصبي، فوجدت أنه مكتوب بلغة أجنبية أيضًا.
“لغة كويلس؟ على الأقل يمكنني قراءة بعض منها.”
دون أن تنتبه، بدأت تتابع بعينيها ما يقرأه الصبي، عاقدة حاجبيها بتركيز.
لكن النص كان صعبًا جدًا.
صعبًا للغاية، لكنه يثير فضولها في الوقت ذاته، حتى لم تستطع كبح سؤالها:
“آه، اسمع… كيف تُقرأ الجملة الأخيرة من الفقرة الثالثة في الصفحة 21؟”
لم تتلقَّ أي جواب.
تنهّدت وجلست مطأطأة الرأس، ثم عادت تركز في القراءة. كانت الجمل أعقد مما توقعت، حتى أطلقت آهة إعجاب صامتة.
“كيف يمكنك قراءة شيء صعب هكذا؟”
ولا رد أيضًا.
غريب. تجاهله المتكرر جعلها تزداد جرأة بدل أن تتراجع.
“أمم، هذه الكلمة… لست متأكدة، هل معناها تعاون أم استسلام؟”
وفجأة، نهض الصبي من مكانه واختفى بين رفوف الكتب، ثم عاد بعد لحظات وهو يحمل كتابًا أثخن من كتابه السابق بمرتين على الأقل.
شحب وجه أنيتا.
‘ه_هل ينوي ضربي به؟ هل أزعجته لهذه الدرجة؟’
لكن الصبي وضع الكتاب أمامها بقوة.
“إن كنتِ لا تفهمين، فأغلقي فمك واقرئي هذا.”
هذا؟ ابتلعت ريقها وقرأت العنوان.
<قاموس لغة كويلس>
لا بد أنه ضاق ذرعًا بأسئلتها. احتضنت أنيتا القاموس بحذر وقالت بخفوت:
“شكرًا.”
“ولا تكلّميني مجددًا. تثيرين أعصابي.”
“حـ… حاضر.”
جلست بطاعة ودفنت وجهها في القاموس الذي أوصى به.
لكن من المستحيل أن تركز في القراءة.
وبعد أن عرفت معنى الكلمة التي حيّرتها، غلبها النعاس فصارت تغفو وتفيق مرارًا.
‘لا فائدة، لقد تأخر الوقت. يجب أن أعود إلى والدي.’
ومع ذلك، أعجبها القاموس.
ففي منزلهم، القاموس مليء بالكلمات الصعبة، تحتاج إلى أن تبحث عن معنى كلمة لتفهم معنى أخرى.
أما هذا فمكتوب بلغة بسيطة وواضحة.
“هذا…”
كانت على وشك أن تسأله: هل يمكنني استعارته؟ لكن تذكرت كلماته:
[ولا تكلّميـني مجددًا. تثيرين أعصابي.]
فترددت ولم تنطق.
“هذا…”
لكنها لم تستطع منع نفسها، كان عليها أن تسأل.
“هـ، هذا…”
“ماذا؟”
التفت الصبي بوجه متعب وكأنه ضاق بها ذرعًا.
كم يكرهني الآن؟ لا بد أنه لا يطيق حتى رؤيتي.
تخيلت ذلك فشعرت بوخز من الذنب.
قالت بصوت يكاد لا يُسمع:
“هل يمكنني استعارة هذا الكتاب؟”
“وكيف ستأخذينه؟”
“أقدر على حمله.”
“لن تقدري.”
كان جوابه قاطعًا لدرجة أذهلتها.
“سـ، سأقدر!”
“لن تقدري.”
“قلت لك سأقدر! أستطيع!”
نطقت بتحدٍّ وهي تحتضن القاموس.
“هاه…” لقد كان ثقيلًا جدًا.
“أرأيت؟ أستطيع، أليس كذلك؟”
كان أثقل مما توقعت حتى صار التنفس صعبًا، لكنها كانت متأكدة من قدرتها على حمله إلى الأسفل.
رمقها الصبي بنظرة مستاءة، ثم عاد إلى كتابه.
“إن لم تعيديْه خلال شهر، سأبلغ عنكِ بتهمة السرقة.”
كانت تلك طريقته في قول اذهبي الآن. ومع ذلك، لم تستطع أنيتا التحرك، فسألته بتردد:
“أمم… ألا تريد أن تسأل عن اسمي؟”
أدار رأسه نحوها بملامح تقول ما الذي تخططين له الآن؟ فسارعت لتوضيح السبب.
“أقصد، يجب أن تعرف اسمي لتستطيع الإبلاغ عني، أليس كذلك؟ أنا أنيتا فيلريني.”
ظنّت أنه سيتجاهلها، لكنه على غير المتوقع أجاب ببساطة:
“رانسلو إيدنبايهر.”
“آه…”
‘إيدنبايهر… إذًا هو أحد أبناء هذه العائلة.’
لم يكن في ذلك ما يثير الدهشة إذا فكرت بعمق. فمن غير صاحب البيت سيدخل هذه المكتبة بملابس منزلية ويتصرف وكأنها ملكه؟
غادرت أنيتا المكتبة بخطوات مترددة. كانت تريد أن تلقي تحية الوداع، لكنها لم تستطع.
كان القمر مختبئًا خلف الغيوم، والليل مظلمًا تمامًا.
صعدت أنيتا إلى العربة ممسكة بيد والدها.
كان والدها، كما في كل حين، وقورًا رغم رائحة الخمر التي تفوح منه، وعيناه ما تزالان صافيتين وهما تمسدان شعرها.
“هل انسجمتِ مع أصدقائك؟”
لا.
“نعم.”
“هل استمتعتِ؟”
لا.
“نعم، كان يومًا جميلًا.”
“ستلتقين بهم كثيرًا من الآن فصاعدًا، فحاولي ألا تكوني غريبة الأطوار، واندمجي معهم جيدًا.”
ما إن سمعت ذلك حتى تبدد ما تبقّى من تحسن في مزاجها.
لا أريد أن أراهم مجددًا.
حتى لو لم أكن غريبة الأطوار، فهم لا يريدونني بينهم.
في ذلك القصر الفخم، لم يكن هناك سوى طفل واحد لم يتجنبها.
‘لكنه أيضًا، إن علم أنني لست من النبلاء، فسيحتقرني حتمًا.’
بمجرد أن خطر هذا ببالها، انحدر مزاجها نحو القاع.
‘لا بأس، لدي أبي والمربية وماري وبيري. هذا كافٍ.
أنا بخير فعلًا. حتى لو لم يكن هناك أحد غيرهم، أنا سعيدة بما لدي.’
تنهدت أنيتا تنهيدة طويلة.
التعليقات لهذا الفصل " 3"