2
لتذكّر أول لقاء مع رانسلو، لا بد من العودة إلى عشرة أعوام مضت.
كان ذلك في العام الذي أتمّت فيه عامها الرابع عشر.
في أواخر الربيع، حين هطلت أمطار موسمية مبكّرة لتعلن قدوم صيف غير معتاد.
في ذلك اليوم، حضرت أنيتا مع والدها أضخم مأدبة شهدتها في حياتها.
قال لها والدها:
“أنيتا، هناك كثير من الناس المخيفين والخطرين هنا. اليوم عليك أن تتصرّفي بحذرٍ شديد.”
“نعم، يا أبي.”
لم يسبق لأنيتا أن رأت في حياتها قصرًا بهذه الروعة أو قاعة احتفالٍ بهذه الفخامة.
فالمنازل التي زارتها من قبل برفقة والدها كانت دومًا أكثر تواضعًا من بيتهم، أو كانت وإن بدت فسيحة إلا أنها قديمةٌ تُظهر آثار الزمن بوضوح.
لكن هذا المكان… أليس أشبه بقصر أميرٍ من قصص الخيال؟
لم تستطع أنيتا كبح فضولها، فسألت والدها:
“هل هذا قصر جلالة الملك؟”
“القصر الملكي؟ لا. هذا منزل دوق إيدنبايهر. لقد دُعينا إلى حفلة عيد ميلاده.”
“لم أرَ بيتًا أجمل من هذا من قبل!”
فأسرع والدها بتوبيخها بنبرة هادئة:
“لا تقولي مثل هذا الكلام يا أنيتا. عليك أن تبقي متواضعة دائمًا، ولا سيّما أمام هؤلاء الناس.”
“ولماذا يا أبي؟”
“لأن نبلاء هذا المكان لا يحبّون من يعيش في رغدٍ دون أن يحمل لقبًا. إنه أمرٌ سخيف، لكن هكذا هم.”
كان والدها دائمًا يقول الصواب، وإن كانت نصيحته صعبة أحيانًا، إلا أن أنيتا فهمت أنه إنما يحثّها على الحذر.
فأقسمت في سرّها ألّا تقوم يومًا بما قد يورّطها أو يسبّب مساسًا بالسمعة كما كان والدها يقول.
كانت الحفلة صاخبة ومملّة.
مرّ وقتٌ طويل، لكن الكبار لم يبدُ عليهم التعب من الكلام بعد.
أما أنيتا، التي ظلت طوال الوقت تلتصق بوالدها، فقد دُفعت في النهاية إلى قاعة واسعة مع أطفال من عمرها.
وعندما رفعت رأسها تتأمل السقف المزيّن بلوحات زاهية الألوان ودخلت الغرفة…
“أنتِ لا.”
صوتٌ صارم قاطع طريقها.
“أمي قالت ألا نلعب معكِ. لذا، عودي من حيث أتيتِ.”
رمشت أنيتا في ذهول.
ثم أسرعت تتفقد ملابسها. لم تكن متّسخة ولا حتى مجعّدة.
ما معنى ألا تختلط بهنّ؟
تمالكت نفسها وسألت بهدوء:
“هل… هل فعلتُ شيئًا خاطئًا؟ إن كنتُ أخطأت، فسأعتذر. لم أقصد ذلك.”
كانت تظنها كلمات مهذبة، لكن الفتاة انفجرت ضاحكة:
“أنظروا إليها! تقول إنها ستعتذر لنا!”
هاهاها!
وما إن دوّى ضحكها حتى تبعها باقي الأطفال المحيطين بأنيتا ضاحكين بدورهم.
كانت سخرية صريحة.
“هل هي غبية؟ تظن أن الاعتذار سيرفع من مكانة عائلتها؟”
“أمي قالت: لا ينبغي التعامل مع من يبيعون كرامتهم مقابل المال.”
“صحيح! وجدتي قالت إن والدها فأر مجاري يضع حول عنقه قلادة ذهبية لا تليق به!”
بدأ قلب أنيتا يخفق بعنف.
‘فأر مجاري… قالوا إن والدي فأر مجاري…’
رغم أنها لم ترتكب خطأ، انكمشت كتفاها. أرادت الفرار بعيدًا عن تلك النظرات المليئة بالحقد التي تنهش وجهها.
والدها ليس فأر مجاري. بل رجلٌ رائع، ذكيٌّ ومهيب…
اقتربت الفتاة أكثر، ودَفعت كتف أنيتا بابتسامة منتشية:
“والدكِ مجرد هجين لا أصل له ولا مقام. وبما أن ابنة الهجين هجينة مثله، فمن الأفضل الابتعاد عنك حتى لا نتلوث. فهمتِ الآن؟”
عندها فقط أدركت أنيتا ما يحدث.
بينها وبين تلك الفتاة خطٌّ غير مرئي،
خطٌّ أحمر واضح يفصل بين ذوي الدم النبيل ومن سواهم.
لكنها لم تستطع تقبّل هذا الخط.
وخاصةً لأنه وُضع للسخرية من والدها.
“أبي… أبي ليس هجينا!”
قالتها بصوت مرتجف لكنه حازم.
ها هي تقولها أخيرًا. الآن سيفهمن أن الكلمة القذرة التي نطقنها خطأ.
“…هاه.”
قهقهت الفتاة عاليًا حتى انكشفت حنجرتها.
تسارع نفس أنيتا من الارتباك. هل قالت شيئًا خطأ؟ أم كان صوتها منخفضًا؟
ثم تردّد الصوت في أنحاء الغرفة، فاحمرّ وجهها خجلًا.
“أب… أبي ليس هجينا!”
كان الأطفال يقلّدونها.
“خطأ! قولي: أب… أب… أبي ليس ه، هجينا. هكذا أفضل!”
“وعليك أن تظهري وجهًا أكثر غباءً وأنت تقولينها!”
يا للعار.
تمنت لو تختفي بعيدًا عن الجميع.
“يبدو أنها تتلعثم أيضًا! هجينة تتلعثم؟ يا لها من مسكينة.”
لكن قدميها لم تتحركا. تجمّدتا في مكانهما رغم أن قلبها يكاد ينفجر.
كل ما استطاعت فعله هو إخفاء وجهها المحمّر بخفض رأسها.
‘لستُ أتلعثم… فقط… فقط ارتبكت فحسب.’
اغرورقت عيناها بالدموع.
“أنظروا! إنها تبكي!”
قهقهوا جميعًا، ثم دفعت الفتاة جبينها بإصبعين وقالت بابتسامة باردة:
“الآن اخرجي من هنا. وإن تجرأتِ على محادثتنا ثانية، فستموتين. ربما يجدر بك اللعب مع الخدم، فهم من مستواك.”
وعندما غادر الأطفال واحدًا تلو الآخر، يصفعون كتفيها أو يلامسون رأسها بخفة،
لم يبقَ أحدٌ في الممر سواها.
“آه…”
دفعها آخر الصبية فهوت على الأرض.
صرير الباب انغلق أمام وجهها. ومن خلال الفتحة الضيقة قبل أن يُغلق تمامًا، رأت وجوهًا بيضاء ساخرة.
“إلى اللقاء، أيتها الهجينة.”
ثم أُغلق الباب.
اختفى آخر خيطٍ من الضوء، وابتعدت ضحكات الأطفال في الصدى.
تُركت أنيتا وحيدة في ممر بارد صامت.
آلمتها كتفها التي دُفعت، وركبتاها من السقوط.
لكن الألم الأكبر كان في نفسها،
عجزها عن الدفاع عن أبيها أمام أولئك الذين أهانوه.
“أه…”
شعرت وكأن رمال صحراء ساخنة تنسكب في صدرها وحلقها.
لكن لم يكن بوسعها البقاء جالسة.
سمعت حركة أقدام قريبة من السلالم.
قفزت واقفة كمن لُسع، وركضت هاربة.
ركضت، وركضت بلا توقف حتى ابتعدت قدر استطاعتها عن تلك القاعة.
وكلما ركضت، بدا القصر بلا نهاية؛ عالٍ وواسع.
لكنها شعرت ببعض الارتياح: “الحمد لله، الآن لن يجدني أبي هنا.”
إلا أن صورة والدها خطرت ببالها، فعاودها البكاء.
‘لا، لا تبكي… إن سمع أحدهم صوتي، سيأتي أبي…’
عضّت شفتيها، ودفعت أقرب باب أمامها.
كانت الغرفة باردة على غير ما توقعت، خالية من الدفء.
وربما لهذا السبب شعرت فيها بالأمان، رغم حزنها.
انهمرت دموعها أخيرًا.
“هُهق…”
أسندت ظهرها إلى الباب وجثت على الأرض، تدفن وجهها بين ركبتيها.
“أريد أن أعود إلى البيت…”
تخيلت منزلها الدافئ، مربيتها، ماري، وبيري…
“كُفّي عن الضجيج.”
توقفت أنيتا عن البكاء فورًا.
كان صوتًا مفاجئًا، لا يمكن وصفه إلا بذلك.
قفزت واقفة تتلفت حولها.
‘من الذي قال: كُفّي عن الضجيج؟’
هل… هل هناك شبح؟
ارتجف جلد ذراعيها، ثم جاء الصوت الغريب ثانية، قريبًا هذه المرة:
“لا تبكي في المكتبة. تزعجينني.”
‘المكتبة؟’
تلفّتت مذهولة.
كان محقًا. لم تنتبه وهي تبكي، لكن المكان الذي لجأت إليه لم يكن غرفة عادية.
بل مكتبة واسعة، تمتد رفوف كتبها حتى سقف عال، مصفوفةٌ بعناية تامة بلا ذرة غبار.
اتسعت عيناها دهشة وإعجابًا.
‘يا لها من مكتبة ضخمة!’
ثم عادت إلى رشدها وسألت بخجل نحو مصدر الصوت:
“إذًا… أين يُمكنني البكاء؟”
فجاءها الجواب، ببرود لا يخلو من الجفاء:
“وما شأني أنا؟”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
التعليقات لهذا الفصل " 2"