القت أنيتا التحية بوجه لم يفقد ابتسامته بعد.
“مرحبًا. أنا أنيتا فيلريني.”
أشار المدير إلى الكرسي بلا مبالاة وسأل مجددًا:
“من الذي لا يعرف عائلة فيلريني في شافالون؟ لماذا لا تجيبين؟ هل أمسكتِ ممسحة تنظيف من قبل أم لا؟”
وما إن جلست على الكرسي، واصل المدير العام حديثه ببطء:
“لا تأخذي الأمر على محمل سيّئ. فأنا، كما ترين، رجل قضى ثلاثين عامًا في اختيار الناس. ورأيت مِثل حالك مرارًا.”
فوووه. غطّى الدخان الأبيضُ المتصاعد من سيجارته مجالَ رؤية أنيتا.
“لكن يجب أن يكون للمرء فائدة. ما فائدة أن أجد لكِ وظيفة محترمة؟ بالكاد تصمدين أسبوعًا ثم تهربين. وإن نشب شجار لأنك لم تستطيعي التخلّي عن كبريائك؟ الطرف المتضرّر سيكون شركتي. وتنهار الثقة.”
“نعم. أفهم ذلك.”
“حسنًا، بما أنّ السيد فلاد هو من قدّمك، فسأبذل جهدي. لذا… هل أمسكتِ مِمسحة تنظيف من قب—”
وقبل أن يُنهي كلامه، نهضت أنيتا من الكرسي وتقدّمت نحو المكتب.
“أستأذن قليلاً.”
فكّت الشريط النيلي الذي كانت تضعه حول عنقها. وبفضل عرضه الكبير، استطاعت طيَّه مرات عدة ليصبح بالحجم المناسب.
وبعد أن بلّلته بماء المزهرية، مسحت مكتب المدير العام بعناية تامة، ثم عادت وجلست كما لو أنّ شيئًا لم يحدث.
“…هُم.”
رمقها المدير بنظرة ضيقة، متأملاً إياها من رأسها حتى قدميها.
“السرير سيكون غير مريح أيضًا. رخيص لدرجة أنك ستعتبرين عدم إصابة ظهرك في اليوم التالي حظًا…”
“لقد نمتُ على الأرض خمسة عشر يومًا كاملة. وخلال تلك الفترة لم آكل سوى اللحم المقدد. أعرف كيف أنفض الغبار عن الخزائن، وكيف أكوي تجاعيد الغسيل. أهذا غير كافٍ؟”
واجهت عائلة فيلريني الكثير من المحن حتى استقرّت في شافالون.
وكانت أصعبها عمليةُ ميراث والدها لثروة جدّها.
فقد اتُّهم الأب بتزوير وصية الجد، والتهرّب من ضرائب بمبلغ ضخم.
في ذلك الشتاء، اضطُرّت أنيتا إلى تحمّل العيش ضيفة عند أحد معارف والدها. ورغم صِغَر سنها، حاولت ألا تكون عبئًا عليه، فسعت لمساعدتهم في أعمال المنزل البسيطة بلا انكسار.
وكان والدها يؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ “معظم التجارب أجدر بالمرء أن يعيشها بنفسه”، ولذلك لم يمنعها من شيء.
ولم يكن ليتوقع أنّ لتلك التجارب يومًا فائدة كهذه.
أطفأ المدير العام سيجارته في المنفضة وأشار برأسه إشارة خفيفة.
“…تعالي غدًا صباحًا. سأعطيك العمل حينها.”
“نعم، شكرًا لكم.”
خرجت أنيتا من المكتب متنفسة الصعداء بصوت منخفض.
هاه… الشكر للرب. بهذا ستحلّ مشكلة المأوى والطعام مؤقتًا.
يبدو أنه عليها توفير ما تبقّى من المال لشراء زيّ خادمة واحد على الأقل.
عادت أنيتا إلى القصر وهي تضم حقيبتها الكبيرة إلى صدرها.
***
في صباح اليوم التالي.
ما إن وصلت إلى مكتب التوظيف، حتى سارعت سكرتيرة المدير إلى اصطحابها إلى مكتبه.
“لقد أتيتِ.”
طَق.
ألقى المدير العام ورقة فوق المكتب. لعلها عنوان القصر الذي ستعمل فيه؟
فتحت آنيتا الورقة بحذر.
<ملهى بول الليلي
المسؤول: ميلكين شوفاغر>
“إنها فرصة ليست سيئة. هناك الكثير من النساء الجميلات. لكن امرأة جميلة بأناقة مثلك؟ هذا نادر.”
الملهى الليلي مكان ترفيهي يُشاهد فيه رقص الراقصات مع تقديم الشراب. ولم يكن يوصيها بأن تصبح طاهية، بل راقصة. وبأسوأ المعاني.
“يا آنسة، هل تعتقدين أنك ستكتفين بعمل الخادمة مع هذا الوجه؟”
تنفّست أنيتا ببطء.
كيف أرفض؟
كانت في حاجة ماسّة إلى مساعدته. لن يكون من الحكمة أن تغادر لمجرد شعورها بالاستياء.
كان والدها يقول:
حين تكونين مضطرة، تخلّي عن كبريائك. فبإمكانك استعادته بعد أن تحصلي على ما تريدين.
الأهم ألّا أجرح مشاعر المدير… وأن أحصل على وظيفة لا علاقة لها بوجهي…
وفجأة—
كييييك.
فُتح الباب المغلق بإحكام. صرخ المدير العام بوجه متجهم وهو ينفث دخان سيجارته.
“يا هذا! ألم أقل لكم ألا تدخلوا دون إذ—”
“تحية طيبة، سيد أولاڤ.”
كانت تحية واضحة وهادئة.
اتجهت خطوات الرجل نحو أنيتا بخفّة طبيعية. والرجل ذو الجبين المكشوف كان شخصًا تعرفه أنيتا جيدًا.
كيف يكون هذا الرجل هنا؟
“مَن… يكون؟”
ربما لأن الرجل كان أنيقًا إلى حدّ لافت، توقف المدير عن التدخين وفتح فمه بحذر.
“هذه بطاقة سيدي.”
أخذ المدير البطاقة بذهول.
وما إن قرأ الاسم، حتى اتسعت عيناه لدرجة بدت وكأنهما ستسقطان أرضًا.
“ه… هذا— هل الاسم المكتوب هنا… صحيح…؟”
“صحيح.”
أجاب الرجل بثقة، قبل أن يبتسم ابتسامة لطيفة لـأنيتا.
“مرّ زمن طويل يا آنسة أنيتا. لقد أصبحتِ سيّدة فاتنة حقًا.”
لقد كان الرجل هو جيل، مساعد دوق إيدنبايهر.
استقبلت أنيتا تحيته بذهول خفيف.
“مرّ وقت طويل، يا جيل.”
لكن جيل بدا وكأنه يحمل خبرًا أعجب من ظهوره المفاجئ.
“يسعدني أنكِ بخير. السيد رانسلو ينتظرك.”
“…رانسلو ينتظرني؟ أين؟”
“وهل هناك مكان غير قصر فيلريني؟ لقد تأخّر قليلًا لأنه اضطر إلى إنهاء بعض الأعمال قبل المغادرة.”
تأخّر قليلاً.
لم يكن المعنى خافيًا على أحد. لقد جاء فور علمه باختفاء والدها.
وعندما لم تستطع الرد بسهولة، نهض جيل من تلقائه يلطف أجواء القلق.
“لا تقلقي بشأن العمل. يبدو أنّ السيد رانسلو قد فكّر بالفعل بما يناسبك.”
لقد كان رانسلو مرهقًا من كثرة انشغالاته، ومع ذلك وجد وقتًا ليأتي بنفسه.
ربما، وربما فقط… يكون هذا آخر لقاء بينهما. إذ لا يمكن لها، كموظفة، أن تبقى على علاقة صداقة مع وريث أسرة الدوق.
ومتى وصلت الفكرة لهذا الحد، أدركت أنّ البقاء هنا بلا فائدة.
“حسنًا. لنعد إلى القصر.”
“سأرافقك. آه، أيها مدير؟ سأستعيد البطاقة.”
انتزع جيل بطاقة رانسلو من يد المدير المشدوه.
“لقد اعتنيت بسيدتي أنيتا نصف يوم فقط، لكن نشكرك. سيتكفّل سيدي بمكافأتك قريبًا. انتظر الاتصال.”
“ن- نعم، بالطبع. أيها الموظفون! أوصلوا الضيوف كما يجب! لا، لا— سأفعل ذلك بنفسي!”
أسرع المدير مفعمًا بالطمع ليرافقهما حتى باب المكتب.
ولم ينسَ قبل رحيلهما أن يتوسّل العفو من أنيتا.
“يا آنسة، انسَي ذلك الاقتراح رجاءً. يبدو أنّني خلطت بينك وبين شخص آخر. كنتُ قد وجدتُ وظيفة جيدة أمس… هاها… أعتذر حقًا.”
لم تسخر أنيتا من كذبه الواضح، بل ابتسمت بلطف.
“الجميع يخطئ أحيانًا. وسأسمع منكِ عن تلك الوظيفة الجيدة في المرة القادمة، صحيح؟”
“طبعًا! هذه بطاقتي. اتصلي بي في أي وقت إن احتجتِ شيئًا. في أي وقت!”
لا بد أنه صُدم ببطاقة وريث إيدنبايهر.
لقد استفدت قليلاً من رانسلو.
ستستطيع إيجاد وظيفة لائقة في المرة القادمة. احتفظت أنيتا بالبطاقة في محفظتها بعناية.
وبينما كان جيل يساعدها على الصعود إلى السيارة البخارية، ناديها:
“آنسة أنيتا.”
“نعم؟”
“أعلم أنّه قد يبدو تدخلاً… لكن لا تقطعي صلتك بإيدنبايهر كثيرًا.”
ليست وقاحة. بل رجاء يجعلها تشعر بالامتنان والحرج في آن واحد.
فهمت أنيتا معنى كلماته فسألت بهدوء:
“هل كان رانسلو ينتظرني؟”
هل كان يريدها أن تأتي لطلب المساعدة؟
“لا.”
جاء النفي قاطعًا، ثم أضاف جيل:
“لقد كان واثقًا من أنكِ لن تزوري إيدنبايهر.”
حدّقت أنيتا أمامها بشعور غريب.
لقد مضى عشر سنوات على معرفتها به.
ومع أنها لم تزر إيدنبايهر في العامين الأخيرين، فقد كانت تقضي كل شتاء هناك. علاقة لا غبار عليها.
إنه لقاء بعد غياب طويل.
فمجرّد التفكير في وجهه جعل كتفيها يتصلّبان من التوتر.
أربعة ساعات سفر ليست بعيدة، ومع ذلك لم تلتقه لعامين كاملين.
وإن دقّقت، فهي سنتان من التهرّب.
كان السبب واحدًا.
أن تتخلّى عن مشاعرها نحوه.
لم تندم.
كانت آنيتا تعرف قدرها.
إن حصولها في حياتها على شخصين مثل رانسلو وكلوديا كان حظًا يفوق حدودها. وهما صديقان لا ينالهما المرء إلا إن كان بطلاً منقذًا.
ولذلك، كان يجب أن يتوقّف كل شيء عند تلك الحدود.
صديق جميل أحنّ إليه أحيانًا.
صديق يذكّرها بعطر طفولتها. صديق لا يحتوي إلا على ذكريات جميلة. صديق يبقى اللقاء به مريحًا مهما طال الزمن.
هكذا يجب أن تكون علاقة رانسلو إيدنبايهر وأنيتا فيلريني. كان ذلك طموحها الوحيد، ورغبتها التي تعرف أنها أكبر من قدرها. أن تبقى، على الأقل، صديقة له.
وكان الابتعاد هو الخيار الذي يحفظ تلك الرغبة.
لذلك، وخلال العامين اللذين لم تلتقه فيهما، كرّست نفسها لمساعدة والدها.
وحين تشتاق إلى صوته، كانت تخرج رسائل المواسم الأربعة وتقرأها ببطء.
وربما بفضل ذلك، لم يعد قلبها يضطرب أو يشتعل حين تتذكر وجهه.
إبعاد الجسد لإبعاد القلب. طريقة ليست سيئة.
“جيل، كيف عرفتَ أنني في مكتب التوظيف؟”
“كان الحظ معنا. فقد وصلتُ بعد خروجكِ بوقت قصير.”
إذًا كان يتتبعها.
وكانوا قد وصلوا إلى القصر. تنفّست أنيتا بعمق وسارت عبر الحديقة نحو المدخل.
وتوقّفت خطواتها عند باب غرفتها السابقة. كان ينبغي أن يكون مغلقًا، لكنه كان نصف مفتوح.
دفعت الباب ببطء.
رأت ظهرًا.
ظهرًا بدا أعرض وأقوى مما تتذكره.
جلس الرجل الأشقر على كرسي خشبي نصف مهترئ في المطبخ، يحدّق من النافذة. وكان منديل أزرق فاخر موضوعًا على الكرسي يؤكد أن الرجل ليس إلا رانسلو إيدنبايهر.
كانت جلسته المتراخية، وساقاه المتقاطعتان، تعبّران عن ملل صافٍ لا أكثر.
أدار رانسلو رأسه ببطء، فالتقت عيناهما مباشرة.
“أنيتا فيلريني.”
اخترق نداءٌ عميق وثقيل سمعها. صوتٌ كان حضوره هنا غير ممكن، لذا بدا أوضح.
“تعالي إلى هنا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"