1
كان من الغريب اليوم أن تفتح عينيها بسهولة غير معتادة.
شعاع الضوء الخافت الذي تسلل من بين الستائر المعتمة بدا واضحًا على نحو غير مألوف.
وعلى الرغم من أنّه صباح شتويّ، لم يكن الجوّ باردًا بقدر ما كان منعشًا.
كان ذهنها صافياً، وصدرها مطمئنًّا.
شعورٌ يصعب وصفه بالكلمات، مزيجٌ غريب من السكون والصفاء.
‘اليوم هو اليوم الذي سأغادر فيه هذا البيت.’
ومع ذلك، كم يبدو غريبًا أن تشعر بهذا الهدوء!
ربما لأنّها، ولو ليومٍ واحد، لم تنسَ وضعها وظلت تتأمل واقعها طوال الوقت.
جلست أنيتا ببطء، وأسندت ظهرها إلى جانب السرير، ثم نظرت إلى الموضع البارد المعتاد بجانبها.
رانسلو إيدنبايهر.
ذلك المكان كان بلا شكّ مخصّصًا لزوجها، رانسلو.
لكن خلال ما يقارب نصف عام من الزواج، لم يتشاركا الفراش ولو لمرة واحدة.
كان لا بدّ من ذلك، لأنهما كانا زوجين اسميا فقط.
مرّت يدها على ذلك الفراغ البارد الذي اعتادت عليه، وأحسّت بفراغ يكاد يكون جليديًّا.
لم يكن هناك يومٌ تشعر فيه بالامتنان أكثر من هذا اليوم، لغياب رانسلو عن جانبها.
فلو نظرت إلى وجهه، لربما تزعزعت عزيمتها.
لم ترد أنيتا أن تكون أنانية، لا لأجل نفسها، بل لأجل رانسلو تحديدًا.
طرق، طرق.
في نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة.
دخلت الخادمات بهدوء، وسحبن الستائر المعتمة، وبدأن بإشعال النار في الموقد.
قالت السيدة ميتشولا، وهي امرأة في منتصف العمر كانت من خدم عائلة إيدنبايهر المخلصين منذ زمن:
“سيّدتي، اليوم أعددتُ لك قهوة بدل شاي البابونج. وصلت هذا الفجر دفعة جديدة من حبوب القهوة الطازجة، ورائحتها منعشة للغاية. تتميز بالحموضة التي تحبينها.”
وضعت أمامها فطورًا خفيفًا مع القهوة، ثم تابعت قائلة بابتسامة دافئة:
“الجو اليوم بارد على غير العادة، لذا ربما من الأفضل ترك شعرك منسدلًا. هل لديكِ جدول خارج المنزل اليوم، سيدتي؟”
“نعم، أفكّر بالذهاب إلى المدينة قليلًا.”
“هل أزيّنكِ اليوم كعادتنا، بمظهرٍ بسيط وهادئ؟”
“أرجوكِ.”
لكن اليوم، على خلاف عادتها، اختارت أنيتا ملابسها بنفسها.
أخرجت فستانًا ورديًّا باهتًا كان مخفيًّا في أعمق زاوية من خزانة الشتاء — فستان خريفيّ اللون والملمس، أنيق لكنه رقيق قليلاً بالنسبة لفصل الشتاء. غير أن معطفًا سميكًا سيكفي.
سألتها ميتشولا بدهشة:
“أوه، لم أرَ هذا الفستان من قبل؟”
“إنه أحد الفساتين التي جلبتُها معي يوم جئتُ إلى هنا أول مرة.”
“كنتُ أظن أن لونه مشرقٌ على نحوٍ غير مألوف لكِ. يبدو أنكِ كنتِ تفضلين مثل هذه الألوان قبل الزواج. يليق بكِ حقًا.”
وبعد أن أغلقت ميتشولا الأزرار في ظهر الفستان بعناية، صفّقت يديها بإعجاب.
“يا إلهي، إنه يليق بكِ جدًا يا سيدتي! أتمنى أن ترتدي مثل هذه الفساتين المشرقة أكثر في المستقبل. فالنساء هذه الأيام لا يعبأن بالفصول…”
اكتفت أنيتا بابتسامة متكلفة بدلاً من الرد.
ولم يكن من الصعب عليها أن تفهم حماسة ميتشولا، فخزانة أنيتا كانت دومًا مظلمة الألوان.
لم تحتوي إلا على ملابس هادئة الألوان والتصاميم، تتجنب بها لفت الأنظار.
وبغضّ النظر عن الطقس، كانت أناقتها محصورة بين خريفٍ لا ينتهي وشتاءٍ دائم.
قبعة بلون النبيذ الداكن.
معطف بلون القشّ الباهت.
فستان رماديّ هادئ.
وشاح أبيض أنيق.
ألوانٌ بسيطة، اختارتها بإرادتها كي لا تبرز أينما ذهبت.
لكن أياً من تلك الثياب لم يكن ملكًا لها.
من الرأس إلى القدم، كل شيء كان ملكًا لزوجها، رانسلو — الحُليّ، الحقائب، وصندوق الموسيقى الصغير الذي اعتادت النظر إليه كل ليلة…
‘عناية رانسلو بي، أنا التي تُركت وحيدة.’
زوجها عامَلها دائمًا كزوجة حقيقية.
بفضله، كانت حياتهما الزوجية خلال نصف العام الماضي بلا نقص ولا حرمان.
وحتى خدم القصر كلّهم عاملوها كدوقة حقيقية، وهذا بفضل رانسلو.
‘مع أن الزواج كان بدافع الحاجة فقط.’
رغم أنه كان زواجًا محدد المصير بالطلاق، إلا أن رانسلو عاملها بإخلاص كامل كزوجة للدوق.
كانت حياة تفوق استحقاقها.
قالت ميتشولا فجأة:
“آه، سيدتي، الدوق أمر أن يُترك وقت هذا المساء خاليًا، فهو يرغب بالحديث معكِ.”
“…هذا المساء؟”
“نعم، يبدو أن لديه ما يقوله لكِ.”
ومع بقاء أنيتا صامتة، انحنت ميتشولا قليلاً ثم غادرت الغرفة دون إضافة كلمة.
‘لابد أنه غادر القصر بالفعل.’
في الآونة الأخيرة، كان زوجها مشغول كثيرًا.
كان يبيت خارج القصر كثيرًا، وإن التقيا فبضع كلمات قبل النوم كانت أقصى ما يتبادلان.
‘ربما هذا أفضل لي، فلن أستطيع الرحيل إن نظرت إلى وجهه.’
فتحت أنيتا الدرج وأخرجت منه دفترًا صغيرًا خبأته جيدًا.
بين صفحاته كانت رسالة كتبتها قبل أيام.
رسالتها الأخيرة إلى رانسلو.
‘…لا مجال للتردد الآن.’
فوجودها بالنسبة له لم يعد إلا عبئًا مزعجًا.
فهو وريثٌ محتملٌ للعرش، وصاحب لقب دوق من بيت نبيل عريق.
وقد أثار زواجه منها، هي ذات الأصل المتواضع، سيلاً من الشائعات.
وجود أنيتا جلب له وصمة لا تُمحى، ولقّبه الناس بـ”الرجل الذي تزوّج امرأة وضيعة”.
لم تكن النظرات والهمسات المهينة من سيدات الطبقة الراقية ما يؤلمها، بل كانت معاناة رانسلو من السخرية والافتراءات بسبـبها هي الأشد وجعًا.
لذا، عليها أن ترحل قبل أن يفوت الأوان.
كي يستطيع التحرر من الشفقة.
كي لا تكون له مصدر خزي، وكي يتمكن من أن يعيش مع المرأة التي يحبها حقًا.
نظرت إلى الدفتر لوهلة، ثم دسّته على عجل بين الكتب.
وضعت الرسالة على الطاولة برفق، وتجولت بضع خطوات متوترة قبل أن تغادر غرفة النوم.
فقط بهذه الطريقة، إن تركت الرسالة خفية ورحلت، ستستطيع المغادرة.
لأن رانسلو كان حتمًا سيحاول إيقافها، وسيقنعها بالبقاء لو علم بنيتها.
كان ذلك هو رانسلو.
رجل يبدو باردًا، لكنه دافئ القلب.
يبدو حساسًا، لكنه متسامح.
حنون.
لطيف.
رجلٌ طيب.
…رجلٌ أحبّته.
وحين علم كبير الخدم بنيّتها الخروج، انحنى لها تحيةً وقال:
“سيدتي، لقد أعددنا العربة لتوصلك إلى المدينة.”
“لا داعي، الجو جميل اليوم، أريد أن أمشي قليلًا.”
تنفّست أنيتا بعمق لتثبّت نفسها.
‘إنه لا يعلم ما أفكّر به. لا تقلقي. تصرفي بهدوء. كعادتك فقط.’
“متى تنوين العودة، سيدتي؟”
“قبل الظهر على الأرجح. لا تُعدّوا الغداء.”
“حسنًا، عودي بخير.”
انحنى لها باحترام، وغادرت القصر بخطوات قصيرة، قصيرة جدًا.
كان الطريق الترابي الممتد أمامها يبدو أطول من أي وقت مضى.
عليها أن تبتعد أكثر.
إلى مكان لا عودة منه
مكان يمكنها أن تتحمّل فيه الشوق إلى رانسلو دون أن تضعف.
إلى مكان بعيد، بعيد جدًا.
لم تدرِ متى بدأت تعدو، لكنها وجدت نفسها تركض، ثم توقفت فجأة والتفتت للخلف.
إيدنبايهر.
أجمل ذكرياتي. وهذه اللحظة ستكون آخرها.
كلما تذكرت، أدركت كم كانت مدينة لرانسلو بالكثير.
لذلك، حان الوقت لأن تتنحى أنيتا جانبًا.
لأجل بدايةٍ جديدة لزوجها.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 1"