4
ⵌ31
شعرت ليتيسيا أن كلماتها خرجت فجأة دون قصد، فارتسمت ابتسامة واسعة على محيّا كاليسيا.
وخلال مائدة الطعام، لم تكفّ كاليسيا عن مراقبة ليتيسيا وكاليوس؛ فذلك كان الهدف الحقيقي من حضورها، وإن لم يكن كذلك، فالفضول وحده كان كافيًا ليشدّها.
تخيّلت في نفسها سيناريو متوقعًا: حتى لو افتتن كاليوس بجمال ليتيسيا وبدأ يُكنّ لها مشاعر، فلن يكون ذلك سببًا يجعله يمنحها ثقته بسهولة، لذا سيتصرّف بفتور.
بل وتوقعَت أن يسألها صراحة: ما الذي يدفعني لتصديقكِ؟
فهي تعرف كاليوس ماكسيس، وتدرك أنه رجل بهذه الطباع.
لقد كانت من القلائل الذين شهدوا عن قرب انتصاراته في مبارزات الفروسية، ثم انضمامه إلى الحرس الإمبراطوري، واشتغاله لاحقًا كـ “كلب صيد” للإمبراطور.
ولو أنه كان فعلًا ذلك الرجل نفسه، لكانت مشاعر كاليسيا انقلبت رأسًا على عقب كما لو كانت تنبش قبرًا.
قالت ساخرًة:
“ليتيسيا، أنتِ ليس لديكِ أي تجارب مسبقة مع الرجال بعد، أليس كذلك؟”
لم تفهم ليتيسيا المعنى المخفي وراء كلماتها، فضحكت كاليسيا بصوت عالٍ:
“حقًا… هاها!”
أطرقت بعينيها وهي تضحك، فازدادت دهشة ليتيسيا.
“لا تقلقي، لا أحاول الاستهزاء بكِ… أو ربما أسخر قليلًا؟”
احمرّ وجه ليتيسيا شيئًا فشيئًا، وردّت مرتبكة:
“لا أفهم قصدكِ، يا صاحبة السمو.”
كانت تلك أول مرة ترى فيها كاليسيا تضحك بهذه العفوية، إذ لم تعهدها سوى امرأة متغطرسة في مواجهة ماثياس، بالكاد تخلو من الغضب والشتائم.
قالت كاليسيا بابتسامة مبهمة:
“قصدي أن الأمر أسهل مما كنتُ أتصور.”
فهمت ليتيسيا المعنى العام، وربما ظنّت أن كاليسيا تلمّح إلى أن كاليوس يُكنّ لها مشاعر بالفعل.
لكن كاليسيا ما لبثت أن سألت بجدية:
“هناك سؤال يجب أن نتوقف عنده…
هل ترغبين فعلًا في استعادة مجد ريوربون؟”
ارتبكت ليتيسيا وكأن موجة هدمت القلعة الرملية التي بنتها بصعوبة.
“ماذا تعنين؟” قالت وهي تحاول إخفاء ارتجاف يديها.
ابتسمت كاليسيا بخبث:
“لنقلها بشكل أوضح… لماذا تريدين الانتقام من ماثياس؟”
الجواب الوحيد كان حاضرًا في ذهن ليتيسيا:
لأنه دمّر ريوربون.
ريوربون التي تخصها… ريوربون التي لم تكن يومًا ملكًا لها في الحقيقة.
قالت بصوت متحشرج:
“سيدريك استعمل خاتم والدي ليبيع ريوربون، وكان لماثياس دور في ذلك.”
أومأت كاليسيا برأسها كمن يثني على إجابة طالبة مجتهدة، لكن ليتيسيا شعرت أنها في موضع اتهام لا دفاع.
فسألتها ببرود:
“إذن؟ هل تبغضين سيدريك لذلك؟ أم أنك تكرهين ماثياس؟”
كانت نبرة كاليسيا هادئة، لكنها أشد برودة من الثلج.
الكره…
نعم، كان الشعور الأعمق الذي يملأ قلب ليتيسيا.
فجأة سألتها كاليسيا:
“وألا تحملين ضغينة تجاه والدكِ أيضًا؟”
صمتت ليتيسيا، فكان صمتها اعترافًا.
ثم أضافت:
“بحسب ما سمع داميان، فقد قيل إنك خططتِ للمنفى قبل سقوط ريوربون.”
شعرت ليتيسيا وكأن شيئًا سقط داخلها سقوطًا مدوّيًا.
كان ذلك آخر مبرّر تتشبث به:
أنا آخر من تبقى من ريوربون، وعليّ استعادته.
لكن الحقيقة أنها لم ترغب يومًا بذلك؛ فريوربون لم يكن وطنًا لها ولا حضنًا دافئًا.
قالت كاليسيا بلهجة قاطعة:
“كما أرى… لا نية لديكِ للانتقام. بل لعلّك تتمنين سقوط ريوربون نهائيًا.”
كانت كلماتها كسيف يخترق قلب ليتيسيا.
—
أول ذكرى عالقة في ذهن ليتيسيا ارتبطت بتوبيخ قاسٍ من والدها، لم تفهم سببه، لكنها تذكرت مرارة العقاب وإهانته، ومنذ ذلك الحين أدركت أن الذكرى حقيقية.
وتكررت المعاناة.
حتى حين مرضت أمها والتزمت الفراش، ازداد الأمر سوءًا بزوال الحاجز الأخير.
كان عليها أن تحمل وعاء ماء على رأسها وتسير منتصبة، وإن سالت قطرة واحدة، انهالت عليها عصا المربية.
“سيخيب أمل الدوق فيكِ.
والآن بعد أن فقدتِ أمكِ، عليكِ أن تجتهدي أكثر، يا آنستي.”
لكن أمها لم تكن ميتة بعد…
ومع ذلك، كانت ليتيسيا تعرف أن أي اعتراض سيعني عقوبات أطول.
ومع مرور الأيام، تدهورت صحتها سريعًا؛ تنهار فجأة وترتفع حرارتها حتى تغيب عن الوعي.
“إنها ما تزال صغيرة، دعوها ترتاح قليلًا حتى تتعافى…”
سمعت صوت جيريمي وهو يترجّى.
فيرد الدوق ببرود:
“وظيفتك علاجها، لا التدخل في مستقبلها.”
أفاقت ليتيسيا بصعوبة وهمسَت:
“جيري… أعطني الدواء.”
اقترب الدوق بنفسه وقدّم لها الدواء بيده.
طعمه المرّ يكاد يقيئها، لكنها ابتلعته عنوة حتى لا يغادر جيري.
ربّت والدها على رأسها مبتسمًا:
“أحسنتِ… هكذا تكونين ابنتي.
أكبري سريعًا وأدخلي السرور على قلب والدكِ.”
“نعم… يا والدي.”
وما إن غادر، حتى همس جيري:
“بإمكانكِ أن تتقيئيه الآن.”
فأفرغت ما في جوفها باكية، غير عالمة إن كان ما لفظته هو الدواء أم قهرها.
ومضت السنوات على حالها… سبع، عشر، أربع عشرة سنة.
وعندما بلغت الرابعة عشرة وبدأت أنوثتها تبرز، قالت بشجاعة:
“أظن أني لم أعد بحاجة لمعلّمة منزلية.”
تأملها الدوق وأجاب:
“صحيح، لم تعودي صغيرة… وسأفكر في الأمر.”
أشرق قلبها بالأمل، لكن في اليوم التالي تحطّم.
إذ قادتها المعلّمة إلى غرفة الدرس، وأشارت إلى رف الكتب.
خلفه غرفة مظلمة سجنتها فيها من قبل.
رفضت الدخول، فأمرت الخادمات أن يسحبنها بالقوة.
أُلقي بها في الظلام وسط النهار.
“سأمنحك وقتًا لتفكري في خطئك.”
صرخت مستنجدة:
“أخرجيني فورًا!”
لكن الأصوات من الخارج خفتت تدريجيًا حتى لم يبقَ سوى صدى أنفاسها.
بحثت بيديها حتى وجدت الحبل الخفي، فسمعت صوت المزلاج يُفتح… لكن الباب لم ينفرج، إذ كان الرف مثبّتًا من الخارج.
ومع محاولاتها اليائسة، تسلل شعاع ضوء من شقّ صغير، ورافقه صوت والدها يسأل:
“أين ذهبت ليتيسيا؟”
غير أنها لم تصرخ طلبًا للنجدة، بل التزمت الصمت حتى لا تفضح نفسها وتستجلب عقابًا أشد.
ردّت المعلّمة ببرود:
“الآنسة خرجت تتمشى قليلًا.”
ولم يسأل الدوق شيئًا.
ضمّت ليتيسيا رأسها بين ركبتيها وعدّت اللحظات الثقيلة حتى فُتح الباب أخيرًا.
قالت المعلّمة بابتسامة زائفة:
“أخبرتني أنكِ لم تعودي بحاجة إليّ؟ لكن بما أنكِ في هذه الحال البائسة، فأنتِ لا تزالين تحتاجين إليّ… وإلى الأبد.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ32
“ألم يكن والدها على علم بإساءات المعلِّمة الخصوصية؟”
كان يعلم جيدًا، لكنه تجاهل الأمر، إذ كان يعتقد أن تعليم ليتيسيا ضرورة لا بد منها.
استمر تعليمها إلى أن حان وقت ذهابها إلى أكاديمية داميان.
—
خفضت ليتيسيا رأسها بصمت.
كان عليها أن ترد على كاليسيا، لكن الكلمات لم تسعفها.
كان يفترض أن تقول إن ذلك غير صحيح، وأنها هي أيضًا تريد الانتقام من ماثياس… لكن لسانها انعقد.
“…إذن، لماذا جئتِ إلى هنا؟”
أي سببٍ جعلها تجازف بالقدوم إلى هذا المكان البعيد، مع خطر أن يكتشفها ماثياس؟
كان صمت ليتيسيا اعترافًا ضمنيًا بصحة كلام كاليسيا.
ابتسمت كاليسيا بخفوت وقالت:
“مع ذلك، أشعر أنك ستضعين يدك بيدي.”
لم تستطع ليتيسيا فهم هذه الثقة المفرطة.
“فلننهي محادثتنا الى هذا الحد.
لقد أنهكني ركوب الخيل لأيام متواصلة.”
نهضت كاليسيا ببطء.
ولم تجد ليتيسيا ما تقوله لتمنعها من الرحيل.
“تصبحين على خير يا ليتيسيا، سنتحدث مجددًا في الصباح.”
وقفت ليتيسيا أمام قلعة رملية منهارة، عاجزة عن فعل شيء.
كانت كاليسيا محقة فيما قالت.
فالشيء الوحيد الذي يدفع ليتيسيا للانتقام من ماثياس هو شعورها بالذنب…
ذنبها لأنها رفضته، فكانت النتيجة أن انهارت أسرة ليربون في هاوية مظلمة.
لكن ذلك الذنب لم يكن قوة كافية لتبرر فعلًا عظيمًا كالانتقام.
وكانت كاليسيا تخشى أن تمسك ليتيسيا يدها، ثم تتراجع عند أول اختبار.
وكان شكها مبرَّرًا، وعلى ليتيسيا أن تثبت عزمها، لكن…
هي لا تعرف. بل الأصح أنها لا تريد أن تعرف.
رغم تأكيد كاليسيا أنها ستقف معها، فإن ليتيسيا أدركت أنها لا ترغب بالانتقام بالقدر الذي يجعلها تجزم.
هي تكره دوق ليربون، لكن شعورها بالظلم أعمق من أن تعود لتقف إلى جانب ليربون لمجرد شعور بالذنب.
—
كان داميان أكثر هدوءًا مما توقع كاليُوس وهما يسيران في أروقة القصر الطويلة.
فعلى عكس حماسته في البداية لرؤية القصر، ظلّ صامتًا، شارد الذهن.
لم يحاول كاليُوس فتح حديث معه، بل اكتفى بمسايرة خطواته.
“ما رأيك في أسرة ليربون، يا لورد؟”
“مجرد أسرة نبلية سقطت وسقط معها مجدها.”
ضحك داميان بخفة رغم برودة الجواب.
“صحيح… لكن اسمح لي بسؤال آخر: هل تطمع بثروتهم؟”
كان كاليُوس يفهم المغزى: داميان يريد معرفة سبب مساعدته لليتيسيا، ولماذا اختار أن يقف ضد ماثياس.
لكن كاليُوس لم يرَ في ذلك خيانة أصلًا، فهو لم يُقسم لماثياس بولاء قط.
“لا أنكر أن لها قيمة.”
قالها بسخرية كأن الأمر لا يهمه.
“وماذا عن السيّدة ليتيسيا؟”
“……”
لم يجب.
قول إنه يطمع بها كذب، وإنكاره كذب آخر.
لكن داميان، الذي فسّر الصمت على طريقته، ابتسم بمكر.
“هناك شيء واحد أميّزه بوضوح: العيون العاشقة.”
“يا له من امتياز عظيم.”
لم ينزعج داميان من السخرية، بل ازداد ابتسامًا.
“أتسألني كيف أعرف؟”
“لأنك تراها في المرآة كل يوم.”
تفاجأ داميان ثم انفجر ضاحكًا.
“هاهاها!”
ربّت على كتف كاليُوس مرارًا، وبدا أصغر بجانبه رغم طوله.
“هل تعلم أن الجميع يلقبونني بالانتهازي الأحمق؟”
ذلك اللقب جاء لأنه كان يترقب فرص الترقي دائمًا، لكن حين اختار كاليسيا، ظنّه الناس أحمقًا.
لم يصدقوا أن مشاعره صادقة.
أما كاليُوس فقد رأى حقيقته سريعًا، بل صدّقها.
ومن هنا أعاد داميان النظر في حكمه القديم بأن كاليُوس ذكي في كل شيء عدا العاطفة.
“وأنت، هل ترى نفسك واقعًا في الحب؟”
أجاب كاليُوس ببرود لم يتغير:
“بل أبدو… كأنني انتهازي أحمق.”
ساد الصمت، ثم انفجر داميان ضاحكًا من جديد.
“هاهاها! يا لورد ماكسيس، يا لك من رجل ممتع!”
ولم يتأثر كاليُوس بضحكه، وكأنه اعتاد عليه.
“اعذرني، ضحكت كثيرًا… لكني لا أسخر.”
“لا بأس.”
عاد داميان للجدية، وقد شعر أنه يحترم كاليُوس أكثر مما كان يتوقع، لا بسبب كاليسيا، بل لشخصه.
“سؤال أخير: ماذا لو لم يكن هدف ليتيسيا الانتقام؟”
“ان يهمّني حينها.”
“ولماذا؟”
“لأنني أنا أريد.”
هذه المرة لم يبتسم داميان، بينما ظل كاليُوس ثابتًا.
“إجابة غير متوقعة.”
“لن تفهم.”
“ربما…”
توقف كاليُوس، والممر الطويل ما زال يمتد بين صفوف من التماثيل.
ثم قال بوضوح:
“هذا هو الجواب.
حتى إن لم تُرِد هي… فأنا أريد.”
أخذ داميان يفكر، ثم قال قبل أن يبتعد كاليُوس:
“إذن، رغبتك مرتبطة بها.”
ابتسم كاليُوس بخفة، مستمتعًا.
“أنت يا داميان…”
“……”
“هذا كل ما عندي. عليّ العودة إلى ليتيسيا.”
غادر بخطوات سريعة، تاركًا داميان يتمتم:
“قبل لحظات كنت تقول «اللورد غورست» بكل تحفظ…”
لم يكن يتوقع أن يسقط الحذر حتى من عين كلب الصيد الشرس.
فأسرع ليلحق به، ليخبر كاليسيا بما دار بينهما.
—
كانت غرفة داميان غير غرفة كاليسيا، لكنهما اجتمعا فيها.
تمدّدت كاليسيا على بطنها، بينما كان داميان يدلك ظهرها بخبرة، يضغط حيث يلزم ويخفف حيث يلزم.
“الأمور أسهل مما تصورت.”
“لكن السيدة ليتيسيا…”
“لا تقلق، لدي خطتي.”
حين تؤكد كاليسيا أمرًا، فهي واثقة تمامًا.
أغمضت عينيها، وفكرت في ليتيسيا وكاليُوس.
هي تصدق أن عينيه صادقتان، لكنها لا تظن أنه سيجازف بخسارة كل ما بناه من أجل حبٍ أعمى.
الطريقة الوحيدة لتفادي الخسارة كانت أن تُجلس كاليسيا ميتروديا على العرش.
والشخص الذي يجب أن يكون عونها الحقيقي…
لم يكن ليتيسيا، بل كاليُوس..
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ33
لم يغمض لليتيسيا جفن طوال الليل.
فما إن تحاول إغلاق عينيها حتى يتردّد صوت كاليسيا في أذنيها، يصعب إسكات صداه.
وفي داخلها، كانت مشاعر مكتومة تغلي، مغطّاة بستارٍ من الذنب يكاد يتمزق.
حين ألقت بنفسها في نهر السينات، كانت عازمة على الموت حقاً.
لطالما كانت الابنة المطيعة، لكن هذه المرة الوحيدة قررت أن تختار بنفسها.
رفضُها لماثياس كان أول وآخر فعل بإرادتها، وهو ما عجّل بانهيار أسرة ريوربون.
ومنذ ذلك الحين، ظلّ الذنب يطوّق عنقها كحبل خانق.
في البداية فكرت بالموت، وحين لم تستطع، أقنعت نفسها أن الانتقام هو الطريق الوحيد.
وضعت كل مشاعرها جانباً لتعيش من أجل الثأر وحده.
لكنها لم تتوقع أن تظهر كاليسيا وتهزّ أساساتها، كأنها تقول لها: “هل تظنين حقاً أنك قادرة على هذا؟”.
بصفتها الناجية الوحيدة من أسرتها، شعرت أن الأمر واجب لا مفرّ منه.
ومع ذلك، في أعماقها، كانت قد فكّرت بالهرب قبل السقوط.
رفضُها لماثياس لم يكن سوى ذريعة، فهي لطالما أرادت مغادرة ريوربون.
لكن لو كُشف أمرها، لكان مصيرها السجن الانفرادي كما في طفولتها، وهو ما لم تعد قادرة على احتماله.
إقامتها في أكاديمية داميان جعلتها أكثر يقيناً بأنها لا تريد العودة إلى حياتها السابقة.
لكن قبل أن تنفّذ خططها، انهارت عائلة ريوربون وسقطت هي في دوامة لا مفرّ منها.
وماذا عليّ أن أفعل الآن؟
كاليسيا لن تكون سنداً لها، ومع ذلك، احتاجت إلى كاليوس.
لكنها بدأت تتساءل: هل كانت مهمتها بلا جدوى منذ البداية؟
دخلت عليها كريستين قائلة:
“سيّدتي، هل ستنزلين؟”
لم تكن ليتيسيا تعرف كيف ستصارح كاليوس، أو تخبره أنها لا تملك الرغبة في الانتقام بقدر ما يملك هو.
حتى في أذنها، بدا ذلك نوعاً من الخداع.
ومع وجود كاليسيا في القصر، لم يعد من الممكن تأجيل المواجهة.
نزلت إلى الطابق السفلي، حيث كان الإفطار على غير المتوقع هادئاً.
جلس داميان يقرأ صحيفة العاصمة، بينما انشغلت كاليسيا بالطعام.
التقت عيناها بعيني كاليوس أكثر من مرة، لكنها رأت أن الوقت لم يكن مناسباً لفتح حديث جاد.
سألته كاليسيا:
“هل الطعام على ذوقك؟”
فأجاب مبتسماً: “نعم.
لذيذ للغاية.”
ارتسم الاحمرار على وجه نورا، إذ لم يكن كاليوس من أولئك الذين يجاملون كثيراً، ومدحه البسيط كان كافياً ليسعدها.
حاول ممازحتها، لكنها فضّلت الانسحاب إلى المطبخ تجنباً للإحراج.
بعد الطعام، قالت كاليسيا:
“حسناً، لدينا الكثير لنتحدث عنه. أو بالأحرى، لديّ الكثير لأخبركم به.”
نظر مباشرة إلى ليتيسيا قائلاً:
“أولاً، أنتِ على خطأ كبير.”
ارتبكت: “بِمَ؟”
فابتسم قائلاً: “لا داعي لأن تشعري بأي ذنب.”
—
حين كانت ليتيسيا في أكاديمية داميان، كان دوق ريوربون يقيم مع إيزابيلا وابنها سيدريك.
وكانت تصلها أحياناً أخبار العاصمة.
سمعت شائعات هنا وهناك:
“أخوكِ ينفق المال في مجالس القمار.”
لكن سيدريك لم يكن أخاها فعلاً، ولم تكترث لما يفعله.
مع ذلك، راحت الشائعات تكبر يوماً بعد يوم:
“لقد خسر كل أمواله.”
“بل رهن القصر مقابل الديون.”
حاولت ليتيسيا الاستفسار عبر الرسائل، لكن بلا جدوى، حتى وصلتها رسالة واحدة تخبرها أن القصر في مأزق وأن عليهم الذهاب إلى فيليا، وطلبوا منها أن تختبئ.
لكن لم يعد أحد من فيليا.
“أتظنين أنّ الأمر انتهى فقط لأنكِ رفضتِ الزواج؟” سألتها كاليسيا.
وتابعت: “بحسب علمي، كان الدوق يريد تزويجك من ماثياس.”
“لكن ماثياس تزوج ميلونا.”
“يمكن دائماً إيجاد سبب للطلاق.
خصوصاً أنّ ميلونا لا تستطيع الإنجاب، وهو ما رآه الدوق فرصة جديدة.”
كان رفضها الأول جرحاً في كبرياء ماثياس، فتزوج من ميلونا عناداً، لكن حين سنحت له الفرصة ثانية، تمسّك بها.
أبعدها الدوق إلى الأكاديمية ليخفي عنها ما يحدث ويمهّد الطريق لإتمام الأمر.
قالت بدهشة: “إذن، كل ما قيل عن قمار سيدريك كان كذباً؟”
“نعم.”
لكنها لم تفهم: “كيف انهارت العائلة إذن؟”
“كان هناك صك قرض مقابل اللقب.
والدك ظنّه مزيفاً، لكنه لم يكن كذلك تماماً.
لقد وقع في فخ ماثياس، وظن أن ختمه لا يعني شيئاً ما دام الصك مزوراً.
لكنه استهان بكبرياء ماثياس وبمشاعره الملتوية تجاهك.”
أدركت ليتيسيا الحقيقة المرة:
“إذن… لقد سلّم أبي ريوربون لماثياس حقاً.”
لكنها شعرت بالارتياح، لا بالغضب.
فالغضب يحتاج إلى هدف، وأبوها مات، وريوربون لم تعد موجودة.
جلست كاليسيا باستقامة وقالت:
“والآن سأخبركِ لماذا يجب أن تستعيدي ريوربون.
قد تظنين أنكِ حرة الآن، لكن ألا ترغبين أن يكون ملككِ بحق؟ إنها فرصة لتصبحي سيدته الحقيقية، لا مجرد أداة لإنجاب وريث.”
ثم نهضت من مكانها مغادرة.
لحق بها داميان، بينما جلس كاليوس صامتاً.
حين سألته إن كان يعرف بالأمر، أجاب ببساطة: “لم أكن أعلم. لكن لا يهم.”
كلماته وخزت قلبها، شعرت بخيبة أمل، لكنها لم تجرؤ على النظر في عينيه.
اكتفى بالقول: “أيّاً يكن اختياركِ، فلا بأس.” ثم غادر، تاركاً إياها أكثر وحدة من أي وقت مضى.
لم تكن ليتيسيا يوماً إلا وحيدة، لكن الآن بات شعورها بالوحدة أكثر وضوحاً، وكأنها قدَر لن ينتهي.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ34
كانت كاليسيا مفعمة بالحماسة، وكأنها قطعت الرحلة الطويلة من العاصمة إلى هنا فقط من أجل الصيد.
وفجأة، انطلق طائر من بين الأشجار، فاندفعت كاليسيا نحوه بسرعة خاطفة، حتى بدا داميان كخادم يتبع خطواتها لا أكثر.
قالت بلهفة:
“داميان! هل رأيت؟ أصبتُه في رأسه من المحاولة الأولى!”
فأجابها متنهّدًا:
“يا إلهي، كم مرة عليّ أن أكرر أن هذا يثير قلقي؟ ماذا لو وقعتُ في حبك من جديد؟ هل تستطيعين احتمال ذلك؟”
قهقهت ضاحكة:
“آهاها! ما ألطفك.”
أما ليتيسيا وكاليوس، فظلا واقفَين في حرج، كأن وجودهما لم يكن سوى لإكمال العدد.
قالت كاليسيا ساخرة:
“سيدي ماكسيس، ألا تخشى أن أقضي على كل طرائد سيسكريك؟”
فأجابها بابتسامة متعبة:
“بل أخاف ذلك جدًا، حتى أن ركبتيّ ترتجفان من الرعب.”
صرخت كاليسيا:
“داميان! أحضر السهام بسرعة، لقد أوشكت على النفاد!”
فقال ببرود:
“لقد جلبتها مسبقًا، أم تظنين أنني عاجز عن ذلك؟”
كانت ليتيسيا قد سمعت شائعات غريبة عن علاقة كاليسيا وداميان، حتى إن بعضها ادعى أن كاليسيا تعاقبه بالسوط وهو يستمتع!
ورغم أنها لم تصدّق تلك الأقاويل، إلا أن ما تراه الآن جعلها تتساءل إن كانت تجاهلت الأمر أكثر مما ينبغي.
لكن المشهد أمامها أوحى لها بأنهما ليسا سوى صديقين قديمين، تجمعهما مودة بلا مشاعر أعمق.
شيئًا فشيئًا، بدأت تنشغل عن أفكارها بمراقبتهما، ثم أمسكت قوسها محاولة إبعاد ذهنها عن التساؤلات.
سألها كاليوس بهدوء:
“هل تعرفين كيف ترمين السهام؟”
أجابت بثقة مترددة:
“لقد تعلمت.”
ففي موطنها ريوربون، لم يرَ أحد أن الرماية ضرورية لها، لذلك جاء تعليمها كاملًا في أكاديمية داميان.
وضعت السهم على الوتر بخفة، وعيناها تمسحان المكان، بينما كاليوس يتابعها بصمت.
همس لها:
“هناك.”
التفتت نحو صوته، وفي البداية لم تر شيئًا، ثم لمحت أذني غزال بارزتين بين الشجيرات.
تقدمت بخطوات حذرة، تستغل خفة جسدها لإخفاء وقع أقدامها.
لكن ما إن همّت بشد الوتر، حتى شعرت بظل قوي خلفها، لم تسمع حتى أنفاسه.
قال بصوت منخفض:
“إذا شددتِ هكذا، فلن تصمد ذراعك.”
ارتجفت ذراعها الضعيفة من الجهد، وترددت بين الاستمرار والاستسلام.
عندها، امتد ساعده القوي ليمسك بمعصمها برفق، معترضًا على وضعيتها:
“وقفتكِ خاطئة.”
ورغم ذلك، لم يسلبها القوس، بل تركها تحاول بينما يساندها بصلابته.
كان الغزال يحدق، لا بها، بل إلى حيث لا تدري. ولو كان عليها إطلاق السهم، فالوقت مناسب الآن… لكنها لم تفعل، ولم يحثها هو.
لحظات قصيرة مرت، قبل أن يخترق الهواء صوت سهم، أعقبه ارتطام ثقيل بالأرض.
هتفت كاليسيا من بعيد:
“أصبتُه! أصبتُه مرة أخرى!”
تراجَع كاليوس إلى الخلف بصمت، فيما ابتسمت كاليسيا فرِحة كطفلة:
“آه! هكذا سأرغب بالقدوم إلى سيسكريك دائمًا!”
قال داميان، محاولًا إرضاءها:
“سأهديكِ أرض صيد أوسع من هذه.”
أجابته:
“أتمنى ذلك.”
كان وعده أقرب لاعتراف مراهق، خاصة والجميع يعلم بحال أسرته المتواضعة.
لكن بدل أن تسخر منه، جذبت وجهه وقبّلته، فاحمرّ وجه ليتيسيا خجلًا، وعبثت بقوسها دون سبب.
ابتسمت كاليسيا بخبث وقالت:
“تتصرف وكأننا زوجان، بينما لسنا كذلك.”
ثم أضافت:
“أظن أننا سنكتفي لهذا اليوم.”
تذمر داميان:
“همف، لم أستمتع بعد.”
لكن نظراته ظلت متشبثة بكاليسيا حتى وهي تبتعد، كأنها أغلى ما يملك.
وفجأة، التفت كاليوس إلى ليتيسيا وسألها ببرود:
“ما الذي تنظرين إليه هكذا؟”
قفز قلبها من المفاجأة، فأدركت أنها كانت تراقبهما أكثر مما يليق.
وبينما تحاول تدارك ارتباكها، انطلق سهم من يد كاليسيا بسرعة، مارًّا أمام وجهها ليستقر في جذع شجرة!
صرخت كاليسيا:
“ليتيسيا!”
ركضت نحوها بلهفة، بينما اتسعت عينا كاليوس بالدهشة.
ليتيسيا، بدورها، لم تستوعب ما حدث إلا بعد لحظات.
“هل أصابكِ شيء؟ أهذا خطئي؟ قولي إنك بخير!”
أجابت بارتباك:
“أنا بخير، يا صاحبة السمو.”
لم يمسها السهم، لكن الخوف اجتاحها متأخرًا، فبردت أطرافها وسال العرق على جبينها.
وفي وسط ذاك التوتر، لم تستطع إبعاد عينيها عن كاليوس، الذي كاد يمد يده نحوها لولا أن السهم سبق وصوله.
‘يا لسرعة ردّ فعله!’
قال بصرامة:
“عودي الآن إلى القلعة.”
فسكتت كاليسيا لأول مرة.
—
“سمعت أنكِ كنتِ على وشك أن تُصابي بسهم!
كم كان ذلك مرعبًا… كان يجب أن أبقيكِ في القلعة.”
قالت نورا بقلق وهي تفحص وجه ليتيسيا وجسدها.
أضافت كريستين بأسف:
“حقًا، كان عليّ أن أرافقكِ. أرجوكِ، سامحيني سيدتي.”
ردّت ليتيسيا بهدوء:
“كفى، لا بأس.”
سألت نورا بغضب:
“أين هو سيدي ماكسيس الآن؟ كيف يبقى لا مباليًا وزوجته كادت تُصاب؟!”
كانت تضع دواءً نفاذ الرائحة على جرح صغير في ساق ليتيسيا، سببه ارتطامها بغصن حين تراجعت للخلف.
لكن ليتيسيا لم ترَ في كاليوس لامبالاة، فقد أخرج السهم من الشجرة وأعاده إلى كاليسيا غاضبًا، وظل صامتًا طوال طريق العودة.
لم تعرف إن كان غضبه بسببها أو بسبب تهوّر كاليسيا، لكنه مدّ يده ليساعدها على النزول من العربة، ولاحظ ألم ساقها رغم محاولتها إخفاءه.
قال بصرامة:
“اذهبي إلى نورا فورًا.”
ترددت:
“لكن… لماذا؟”
فأجابها بلهجة حاسمة:
“ستعطيكِ دواءً للجروح.”
كان جرحها صغيرًا، لكنه أدركه من اللحظة الأولى.
‘يا له من رجل صاحب بصيرة مخيفة.’
ربما كان ذلك ما أبقاه حيًا في ساحات القتال… أو لعله هكذا منذ البداية.
فكرت ليتيسيا أن زوجها أخطر بكثير مما يبدو، لكنها رغم ذلك شعرت بالامتنان لأنه لاحظ إصابتها الصغيرة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ35
لم يكن من الحكمة أن تغيب طويلًا عن موضعك.
فماثياس، حتى لو ابتعد أيّامًا عن القصر الإمبراطوري، كانت مكانته راسخة لا تهتزّ.
لكن الأمر يختلف مع كالسيا، الغير المتزوّجة بعد؛ إذ كان غيابها كالسّمّ.
وإن طال ابتعادها أكثر من اللازم، عوملت وكأنها لم تكن موجودة أصلًا.
قال لها بقلق:
“أشعر بالاضطراب لأنكِ كدتِ تتأذّين.”
فأجابته مطمئنة:
“مولاي، أكّدتُ أنّني بخير فعلًا.”
لكنها، على غير المتوقع، أعادت الاعتذار مجددًا وملامحها أقرب إلى البكاء، وكأن الحمل ثقيل على صدرها.
“كان ينبغي أن أنهي الأمر بطريقة أفضل.”
“مولاي، لم يُصبني ضرر… ما هذا؟”
فجأة لاحظت أنّ داميان وكاليوس يقفان عند العربة يتفقّدان الطريق، وصوت حوارهما الخافت يمتزج بصهيل الخيول.
وبينما كانت كالسيا قبل قليل على وشك البكاء، تبدّل وجهها ليغدو مفعمًا بالغموض، كأنها تُسرّ بسرّ. مدت يدها لليتيسيا وأعطتها قارورة زجاجية صغيرة، لا تدري إن كانت زجاجة عطر أم زجاجة سمّ.
لكن ابتسامة كالسيا الماكرة أوضحت الحقيقة: لم يكن عطرًا، بل سُمّ.
وحين حاولت ليتيسيا أن تردّه إليها مذعورة، سحبت كالسيا يدها بسرعة.
“إنها مادّة نافعة للغاية، إن زاد استخدامها تحوّلت إلى سمّ، لكن إن استُعملت بقدر ضئيل، فهي مصلٌ يجعل المرء يعترف بالحقيقة.”
“مصل اعتراف؟!”
وضعت كالسيا القارورة في يد ليتيسيا، وكأنها تزيح ثِقلًا من على قلبها:
“لا أدري ما الذي ستواجهينه لاحقًا. قد تحتاجينه، وقد لا تحتاجينه. لكن إن جاء اليوم، فلا تبقي مكتوفة اليدين.”
لم تأتِ كالسيا هذه المرة لتنال جوابًا مباشرًا، بل لتعرف إن كانت ليتيسيا ستختار أن تسير معها. وحين لم تجد ردًّا، تأكّدت أنّ شكوكها في محلّها.
ربما كانت هذه الرحلة الطويلة بلا جدوى.
لكنها، بدلًا من التذمّر، قدّمت مصل الاعتراف كبديل عن اعتذار.
“حين يصبح قرارك واضحًا، سنلتقي مجددًا.”
كانت ابتسامتها العريضة مختلفة تمامًا عن كالسيا التي اعتادت ليتيسيا رؤيتها.
بل بدا أنّ لديها جانبًا طفوليًّا يذيب حذر الآخرين منها.
“لِمَ تحسنين إليّ؟” سألت ليتيسيا.
رفعت كالسيا حاجبها وكأنّ السؤال غريب:
“أليس من الطبيعي؟ من يفهمني غيركِ؟ ومن يكره ماثياس، ذلك الأحمق المغرور، أكثر منّا نحن الاثنتين؟”
وكانت كلماتها صادقة تمامًا.
“وفوق ذلك، حتى إن لم تفكّري بالانتقام، فإن معاملتي الطيبة قد تدفعكِ لمساعدتي يومًا ما.”
ورغم نبرتها التي توحي بالمزاح، إلا أنّ الجزء الأخير لم يكن مزحة.
وكان أسلوبها مؤثّرًا، حتى إنّ ليتيسيا وجدت نفسها تُعجب بها، بل وتخيّلت أنهما كانتا ستصبحان صديقتين مقربتين لو اجتمعتا في ظروف أخرى.
“أعتني بنفسكِ يا ليتيسيا.”
“خُذي حذرك أنتِ كذلك، وكوني بخير.”
ضحكت كالسيا وهي تمضي نحو داميان، قبل أن تقول:
“أنتِ الوحيدة، بعده، التي تهتمّ بصحتي حقًّا.”
وكِلتاهما كانتا تعلمان أنّ كلمة “الصحة” لا تعني مجرّد السلامة من المرض، بل النجاة من الأخطار التي تحيط بالعاصمة.
—
حين ودّعها داميان بتحيّة عميقة، ابتسمت ليتيسيا وردّت بابتسامة مماثلة. ثم ركبت العربة التي ستقلّهم حتى حدود سيسكريك.
وبينما الطريق يمضي، خطر ببالها:
“لقد قلتَ إن الأمر لا يهمّ، سواء رغبتُ بالانتقام أم لا.”
أجاب كاليوس بثبات:
“صحيح.”
لكن عزمه على الانتقام من ماثياس كان راسخًا لا يتزعزع.
فتساءلت بتردّد:
“وماذا لو قلتُ إنني لا أريد الانتقام؟ هل سنظلّ شريكين؟”
كانت كلماتها تبدو غريبة حتى عليها، وكأنها لا تسعى للانتقام بقدر ما تسعى للإبقاء على علاقتها به.
لحسن حظّها، لم يُظهر كاليوس أنه التقط المعنى الخفي، وأجاب ببساطة:
“سنظلّ كذلك.”
ثم تمتم وحده وهو يقطّب حاجبيه:
“شركاء… جيّدون.”
وكأن الكلمة تُغصّه، قبل أن يعود وجهه إلى هدوئه المعتاد.
—
دخلت ليتيسيا إلى متجر صغير مع رنين الجرس وصوت خطوات من الداخل.
“مرحبًا! بماذا أخدم… آنسة!”
كان جيريمي يبدو كصيدليّ متمرّس، يفيض حنكةً وخبرة.
فهي تعرف أنّه بارع، لكن لم تكن تدري أنّه بهذه الفطنة التي تجعل الناس يشترون منه أدوية لا يحتاجونها.
ابتسمت له قائلة:
“سُررت برؤيتك بخير يا جيريمي.”
فأجاب بأدب وهو يشير لها بالجلوس:
“تفضّلي، آنستي. هل تعانين من شيء؟”
جلست بهدوء، ثم قالت بعد تردّد:
“جئتُ لأسألك عن أمر ما.”
ابتسم كعادته ليمنحها الطمأنينة:
“اسألي عمّا شئتِ.”
قالت بصوت خافت:
“هل صحيح أنّ والدي هو من باع اللقب لماثياس؟”
ساد صمت ثقيل، وارتسمت على وجه جيريمي ملامح الأسى، دون أن يظهر عليه الاستغراب.
ارتجفت ملامحها، وأومأت برأسها وقد بدأ الغضب يتصاعد في صدرها.
“يبدو أنّ سيادته استهان بوليّ العهد كثيرًا… لكن، على من نلقي اللوم؟”
ثم تابعت بتردّد:
“وماذا عن سيدريك هِنتكه؟”
أجاب جيريمي بمرارة:
“أظنّه كان على علم بما يخطّط له وليّ العهد.
لكنه استمرّ في خدمته لما سيجنيه من مصالح.”
أطرق برأسه ثم قال معتذرًا:
“آسف يا آنستي.”
لكنها ابتسمت بحزن:
“ما ذنبك أنت؟”
ثم أضاف بأسى:
“لو كنتُ أخبرتكِ في ذلك الحين، لما رميتِ بنفسك في نهر سينات شتاءً.”
تنهدت وهي تتذكّر: لو علمت أنّ سقوط ريوربون كان بسبب والدها، لما أقدمت على الانتحار.
وربما… كانت ستغضب لدرجة لا تحتمل العيش.
“على الأقل الآن أشعر براحة لمعرفة الحقيقة.”
ابتسم جيريمي بأسى، وسألها:
“وماذا ستفعلين الآن؟”
فأجابت بصوت متردّد:
“لا أعلم إن كنت أريد ريوربون أصلًا.”
اقترب منها وأمسك يدها.
“مهما كان قرارك، افعليه كما ترغبين.
لم يبقَ أحد ليلومك.”
فشعرت بحرارة يده تتسلل إليها، فأومأت موافقة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ36
خيّم جوّ استثنائي على أرجاء البلاط الإمبراطوري، إذ لم يَعُد الأمير ماثياس يخرج كما اعتاد، بل انكفأ داخل جناحه في القصر.
هو نفسه، الذي لم يكن يستقر في مكان لأيّ سبب، وجد الجميع اليوم أنّه مضطرّ للبقاء، وإلا فإنّ الظروف لن تحتمل غيابه – عبارةٌ قيلت كمزاح لكنها أقرب إلى الحقيقة.
كان ماثياس يسمع همسات الناس من حوله، وتجاهلها ظاهريًا، لكنّها في داخله تركت أثرًا ثقيلًا، حتى ارتجف جسده من ضغطها. وفي كل مرة يهتز، كانت أقراطُه اللامعة تتحرك معه.
“أتقول إنّ تلك المرأة، كاليسيا، قد عادت؟”
“نعم يا مولاي. بعض الخدم رأوها تدخل القصر منذ قليل.”
حين علم بخروج كاليسيا في نزهة، تمنى أن تموت غريبةً بعيدًا عن هنا، لكن القدر لم يكن في صفّه.
وما إن وصله خبر عودتها بسلام، حتى استشاط غضبًا.
كونه محتجزًا في جناحه ضيّق صدره أكثر، لكنه عزّى نفسه بأنّه ليس مضطرًا للجلوس مكتوف اليدين.
“مولاي، الضيف قد وصل.”
كان يفترض أن يتغيّر وجه الأمير إلى البِشر، غير أنّ التجهم بقي ملازمًا له.
لو كان الأمر في وقتٍ عادي، لاستقبله للترفيه، لكن اليوم مختلف. في يوم عودة كاليسيا بالذات، ينبغي أن يتحفّظ.
شاء أم أبى، كاليسيا تعرف عنه الكثير.
ولم يكن ينوي أن يمنحها فرصة لتستغله.
غير أنّ الخادم العجوز لم يغادر كما جرت عادته.
“أعده أدراجه.”
“لكن يا مولاي…”
“ألم تسمع؟ أعده أدراجه فورًا.”
لم يكن هذا الخادم من النوع الذي يُخالف الأوامر جزافًا.
“ما الأمر إذن؟”
“لمَ لا ترى بنفسك على الأقل؟”
كان في كلماته مغزى.
فمنذ واقعة العام الماضي، حين أدخلت كاليسيا جاسوسًا إلى جناح الأمير، صار الخادم أكثر حذرًا في كلامه.
أما ماثياس فلم يعرف الحذر يومًا، بل غضب وقتها غضبًا أعمى.
“أدخِله.”
“سمعًا وطاعة، يا مولاي.”
غاب الخادم قليلًا، ثم فُتح الباب، ودخلت الضيفة. أثار صوت فستانها على الأرض ضيقه، حتى ظهرت ملامحها.
“مولاي، اسمي ميدينا.”
تنهد ماثياس قصيرًا، ثم نهض إليها.
كانت ترتجف بحزن، فانحدرت خصلات شعرها البنيّ الرمادي على كتفيها.
أسرع إليها وأمسك بذقنها، رافعًا رأسها.
“يا لها من ضيفة تروق لي.”
“مولاي…”
كان عادةً يمقت الأصوات المترجّية، لكن صوتها ذكّره بليتيسيا وهي على وشك البكاء أمامه.
وحده لون عينيها الأحمر القاني لم يُشبهها، لكنه لم يكترث لذلك الآن.
“من أين أتيت بها؟”
“من مكان بعيد، مولاي.”
بدت نبرة الفخر في صوت الخادم، فخلع ماثياس سوارًا من معصمه وألقاه إليه.
“حسنًا، يمكنك الانصراف.”
“أمرك، مولاي.”
احمرّ وجه ميدينا خجلًا، لكن لا خوف عليها.
فالأمير يحسن معاملة من يُعجب به… طالما أطاع أوامره.
“من الآن فصاعدًا، سيكون اسمك ليتيسيا.”
“…كما تأمر يا مولاي.”
كان الخادم قد أوصاها بشيءٍ واحد: ألّا تُخالف الأمير أبدًا.
اصفرّ وجهها خوفًا، فربّت ماثياس على خدّها بحنو، مزيجًا بين رفقٍ ولذّة.
“لا تقلقي، لن أؤذيك.”
فتوقّف ارتجاف دموعها قليلًا، وربما ظنّت أنّ لمسته حنونة.
—
في القصر، كما في خارجه، كانت الشائعات تنتشر.
لكن إن كانت أخبار الخارج لا تهم ميلونا، فإنّ ما يحدث داخله يخصها تمامًا.
فبصفتها المشرفة على العيون والآذان في القصر، كان عليها أن ترصد كل تحرّكات الأمير، تجنّبًا لتكرار فضيحة الجاسوسة التي دفعت بها كاليسيا سابقًا.
مضى عام على زواجها بماثياس، لكنه بدا لها كأنّه عقد من الملل.
“مولاتي، أأنتِ بخير؟”
سألتها خادمتها بقلق، فعضّت ميلونا على أسنانها حتى شعرت بألم في فكها.
إلى متى ستحتمل؟ وهل لهذا البؤس نهاية؟
زواجها من الأمير كان من المفترض أن يجعلها أرفع نساء الإمبراطورية مكانة، لكنها شعرت الآن أوضع من أفقر امرأة.
حين كان زواجهما حديثًا، راودها بصيص أمل.
رغم غرقه في علاقاته النسائية، كانت تظن أنّه لن ينجب لقيطًا كما فعل.
ولأن الزواج لم يكن عن حب، حاولت ألّا تحزن أو تغضب… لكن حين اكتشفت أنّ كل النساء اللواتي يستدعيهن يشبهن امرأة واحدة، تبدّل كل شيء.
في البداية ثارت غاضبة، ثم شعرت بالمهانة، ثم لم يتبق سوى مرارة السخرية.
لقد جفّ وقود غضبها، لأنّه كان قائمًا على توقّعاتها منه.
“لقد طال تمسّكه بهذه المرأة.”
كان الأمير عادة يبدّل النساء شبه يومي، حتى اللواتي يشبهن ليتيسيا لم يُقنعنه.
فما المختلف في هذه المرأة إذن؟
اقتربت ميلونا من جناحه، وانتظرت طويلًا حتى انفتح الباب، وإذا بضحكة لعوب تتسرّب.
“مولاي، إنك قاسٍ جدًا.”
“كفى دلالًا. هيا، سأضعك على ظهر الحصان بنفسي.”
التفت إليها ماثياس مبتسمًا، فيما ارتسمت الصدمة على وجهها.
“ميلونا، ماذا تفعلين هنا؟”
“جئت لأشرب الشاي معك، لكن يبدو أنك مشغول، فسأنصرف.”
الشاي لم يكن سوى ذريعة. لقد جاءت لترى تلك المرأة. أرادت أن تعرف خطّته، إذ لا يمكن أن تظل كاليسيا ساكنة للأبد.
وبمجرد أن وقعت عيناها على الفتاة، فهمت.
عام واحد من الزواج كان كافيًا لتعرف طريقة تفكيره.
هذه المرأة هي جزء من خطّته.
“ما رأيك، ميلونا؟”
“أخبرني فحسب بما تنوي فعله.”
أعجبه ردّها الممزوج بالاستسلام، فابتسم بارتياح.
بينما لم تفهم ميدينا شيئًا، عضّت على شفتيها.
“لا تقلقي، فالأمر كله لمصلحتك.
كل ما عليك هو تقليد شخص بعينه.”
لم تكترث ميلونا، فيما عاد الأمل إلى ملامح ميدينا.
كانت على وشك مغادرة القصر قريبًا، لكن ليس صفر اليدين، فقد وعدها الأمير ببيتٍ خاص، وألا تعيش حياة التشرّد مجددًا.
“أتظنّ أنني أجيد ذلك؟”
“بالطبع، ويجب أن تجيديه.”
ابتسمت بخجل، وهي تضحك معه ضحكة مصطنعة.
—
بعد شهر، انتشرت شائعة غريبة في الشمال الغربي: أنّ كرم السيدة ماكسيس يُسدل مع طرف ثوبها.
قيل إنّها، التي كانت مدلّلة الإمبراطورية الوحيدة، تُقيم حفلات يومية وتخالط الرجال.
بدت الشائعة أولًا هذيانًا، لكنّ شهادات الرجال الذين التقوها جعلت منها حقيقة متداولة.
وحين وصلت الأقاويل إلى سيسكريك، صارت أمرًا مُسلّمًا به، خصوصًا بعدما انهالت عليها الهدايا هناك.
“إن لم تكوني قد قطعتِ تلك المسافة من سيسكريك إلى الفيلا الغربية في ليلة واحدة، فلا بد أن الشائعة كاذبة.”
“لكن الرسائل مكتوبة وكأنني أنا من تحدّث إليهم.”
وضعت ليتيسيا يدها على جبينها.
“ثمة من ينتحل شخصيتي.”
لكن لِمَ؟ وكيف؟
اسودّ وجه كاليوس غضبًا، بينما خطرت لليتيسيا فرضيّة:
إن كان هناك من يُشبهها، فالأمر ممكن…
كعشيقة كاليوس السابقة.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ37
كانت ليتيسيا تعتقد أن ملامحها شائعة إلى حد كبير، وإلا فكيف يمكن أن يظهر شخصان يشبهانها إلى هذه الدرجة؟
على غير المتوقع، لم يُبدِ كاليوس أي رد فعل.
ربما أصبح الأمر مألوفًا لديه بعد أن مرّ بهذه التجربة للمرة الثانية.
“هذا أمر لا يمكن إنجازه دون مساعدة أحد.”
قالت كريستين وهي تعبث بالهدايا التي وصلت إلى ليتيسيا، وبينما كانت تُزيحها جانبًا، أعطتها الرسائل التي كانت داخلها.
كانت جميع الرسائل تحمل مضمونًا متشابهًا: أنهم استمتعوا بالحديث معها ويتطلعون للقاء مرة أخرى، مع الكثير من الأسطر المطوَّلة التي تكرّر نفس الفكرة.
“أوه… هل يُعقل أن يُقدّم شيء كهذا كهدية؟”
قالت كريستين وهي تلتقط فستانًا شفافًا بالكامل من بين الهدايا وتضعه جانبًا.
“أظنّني أعرف من هو.”
قالت ليتيسيا، وهي تُقطّب حاجبيها أثناء قراءتها لإحدى الرسائل.
على خلاف الرسائل السابقة، ذُكر فيها اسم شخص آخر:
إيزابيلا.
وكانت الرسالة تحتوي أيضًا على سؤال عن أحوالها:
«أتطلّع لسماع رأي السيدة الكريمة في أقرب وقت. رجاءً أخبريني بالوقت المناسب.
صديقك المقرّبة، جيدوين إيرفولتا.»
لم ترغب ليتيسيا بمعرفة مدى متعة اللقاء السابق أو ما المقصود بـ”الرأي الكريم” المذكور.
“من تكون هذه إيزابيلا ؟”
سألت كريستين بوجه متجهّم، وكأن الرسالة شيء مقزز يجب التخلص منه فورًا.
“إنها المرأة التي تزوجها والدي بعد والدتي.”
وجود إيزابيلا إلى جانب والدها جعل الناس يظنون أن المرأة الغريبة هي ليتيسيا.
لم ترَ ليتيسيا إيزابيلا منذ اقتحم فرسان قصر ولي العهد القصر المشترك.
كانت تعتقد أنها تعيش بخير في مكان ما، لكنها لم تتوقع أن تعود لتكون عقبة في حياتها بهذه الطريقة.
إذًا، لم يعد هناك مجال للتهرب منها بعد الآن.
“سأذهب لأرى إن كانت قد حصلت على شيء أفضل من ريوربون.”
أرادت أن ترى بعينيها ما الذي حصلت عليه إيزابيلا بعد أن تجاوزت ريوربون مع ابنها.
—
حين أعلنت ليتيسيا أنها ستتوجه إلى قصر إيرفولتا الغربي، مصدر الشائعات، وافق كاليوس بكل سرور على مرافقتها. لم يتطلب الأمر الكثير من التحضير، وتمكّنت من مغادرة قصر سيسكريك في اليوم التالي.
كانت العربة تهتز يمينًا ويسارًا أثناء مرورها في الطرق الجبلية، وأحيانًا تميل على جانبها.
“هل سبق أن زرت قصر إيرفولتا؟”
“منذ زمن بعيد، مرة واحدة فقط.”
كان القصر مشهورًا كمكان إقامة للتجار القادمين من جميع أنحاء القارة، حيث تمرّ جميع البضائع القادمة من خارج الإمبراطورية في طريقها إلى العاصمة.
لذلك كانت أجواؤه حرة للغاية، وكان سيّده، جيدوين إيرفولتا، رجلًا له عشرات العشيقات بلا زوجة، وكان يشجع زوجاته أيضًا على خوض تجارب الحب الحرّ.
على أي حال، لم يكن مكانًا مناسبًا لامرأة غير متزوجة… إلا إذا كانت ترغب في علاقة هناك.
كون هذا القصر مصدر شائعات عن ليتيسيا كان أمرًا مقلقًا من نواحٍ عدة، فمجرد الذهاب إلى هناك قد يعني أحد أمرين: تجربة حبّ حرّ، أو…
“لقد مررت به مرورًا عابرًا فقط.”
قال كاليوس وكأنه يبرر نفسه، لكن ليتيسيا لم تكن تسأله لتسمع تبريره، ولم يهمّها إن كان ذهب هناك من أجل علاقات حرّة؛ فهذا أمر من الماضي، وحتى لو استمر، فهي لا تملك الحق في محاسبته.
“سمعت أنّ هناك طرقًا كثيرة للاستمتاع بالعلاقات في إيرفولتا.”
“حقًا؟ وهل أخبرك بذلك زميلاتكِ في داميان؟”
توقفت ليتيسيا قليلًا عند سماعها تذكيرًا بكلماته في ليلة الزفاف.
ربما كان يمزح، لكنه كان محقًّا: فقد سمعت ذلك من زميلاتها في داميان.
“وماذا قالوا بالضبط؟”
“… لم يقولوا شيئًا مهمًّا.”
أدارت وجهها جانبًا.
“يبدو أنّه كان أمرًا مهمًّا فعلًا.”
“أقسم أنّه لم يكن كذلك.”
لكن ردّها السريع زاد شكوكه.
“… قالوا فقط إن هناك طرقًا للاستمتاع من دون مخاطر.”
فهم كاليوس فورًا ما المقصود بـ”عدم المخاطر” و”الاستمتاع”، واشتدّ توتّره.
“إذًا، لستِ فتاة محافظة تمامًا كما يظنّ البعض.”
“لستُ مهتمّة بما يظنّه.”
قالت ليتيسيا ببرود.
“وهل كان لكِ شريك في الأكاديمية؟”
في الحقيقة، لم يكن لديها وقت لتلك الأمور، خاصة أثناء استعدادها للمنفى.
“ربما حاول أحدهم كسب ودّك بإهداء الزهور؟”
لم يكن ذلك مستحيلًا، فالأكاديمية كانت أجواؤها منفتحة، وكان لها زملاء من الذكور في صفوفها.
“لم أتلقَّ زهورًا، لكنني تلقيت كتابًا كهدية.”
“… كتابًا؟”
بدا كاليوس متفاجئًا للغاية، مزيج من الخيبة والاستغراب على وجهه.
“متى كان ذلك؟ بعد نهاية السنة الأولى؟ أم فور دخولك؟”
لم تتوقع أن يعرف نظام الأكاديمية بهذا التفصيل.
“صحيح، كيف عرفت؟”
بدا على وجهه شعور بالإحباط، وكأنّه تعرّض للخيانة. لماذا يتأثر بهذا أكثر من انتحال شخصيتها؟
“على أي حال، هذا لا يعني أنّ لديّ علاقة حبّ. إن كان هذا ما يقلقك.”
“هذا ليس ما يقلقني.”
“إذن ما الذي يقلقك؟”
لم يجب، ثم تمتم: “إذن لم تكن زهورًا بل كتابًا…” وكأن الأمر مهم للغاية.
“على أي حال، أنا أيضًا لا أحبّ العلاقات الحرّة.”
غيّر الموضوع فجأة.
“لكن كان لديك حبيبة، يا سير ماكسيس.”
ربما لم يكن الزواج ممكنًا حينها، لكنه جاء إلى العاصمة ليتزوجها في النهاية.
“… هذا صحيح.”
وافق سريعًا، كأنه لم يفكر مسبقًا أنّ تلك العلاقة تدخل ضمن العلاقات الحرّة التي يكرهها.
“لم أفكر في الأمر هكذا من قبل.”
“… لماذا؟”
قبل أن يُكمل، اهتزّت العربة بعنف، فتشبّث كلاهما بالجدار.
“العلاقات الحرّة، كما سمعت، هي أن تكون مع شخص حين تشاء وتتركه حين تملّ منه.”
“صحيح.”
كان يمسك بالجدار كي لا يميل نحوها، لكن ليتيسيا لاحظت كيف كان يضغط بيده للحفاظ على توازنه.
“أنا لم أكن أريد الانفصال من الأساس.”
خفق قلبها بقوة، متأثرًا بارتجاج العربة، كأنها قفزت ثم هبطت فجأة.
كانت نظراته ثابتة، وحتى حين اهتزّت العربة مرة أخرى، انحنى جسده للأمام وارتطم كفه بالحائط بجوار أذنها، حاجبًا الطريق بجسده كجدار ضخم.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ39
أسند يده إلى الحائط خلف ليتيسيا لتجنّب الاصطدام بها.
ومع ذلك، لم تتمكّن هي من كبح شعور الارتباك الذي اجتاحها.
حاولت تهدئة قلبها الذي كان يخفق بعنف، كسمكة قفزت من الماء إلى اليابسة.
قال وهو يتجنب النظر إليها:
“يبدو أنّ الطريق الجبليّ وعر.”
فكّرت ليتيسيا أنّ خوفها ربما كان أكبر مما توقعت.
كانت دقات قلبها غير المنتظمة تبدو غريبة على أذنيها، وعندما ابتعد، اختفى الدفء الذي كان يحيط بها.
فتح النافذة المنزلقة المؤدية إلى مكان السائس، ثم قال بنبرة صارمة:
“سرْ على مهل، لكن كن حذرًا.”
“…نعم! حاضر، أعتذر!”
ارتبك السائس وتلعثم في كلامه. كانت كلماته لطيفة، لكن طريقة نطقه لها جعلتها تبدو وكأنها تهديد.
عاد ليسند ظهره إلى المقعد، وبقي صامتًا فترة طويلة، مما أتاح لليتيسيا أن تردد كلماته في ذهنها مرارًا. وكلّما كررت التفكير بها، ازدادت حلاوة في قلبها.
“كلّما نظرت إليه، وجدت فيه ما يفاجئني.”
من كان يصدق أنّ كاليوس ماكسيس رجل يحمل هذه الصدق في مشاعره؟
مع مرور الوقت، هدأت ليتيسيا أكثر. كان قلبه صلبًا بلا أدنى فجوة، وسعت ألا تنسى ذلك.
“إنّه رجل يحب امرأةً ما.
حتى لو فقدت تلك الحبيبة، فلن يتغيّر شيء. لقد أعطاها قلبه كله، ولم يبق منه شيء.”
كرّرت ليتيسيا هذه الكلمات في ذهنها، وتأكدت أنّه لا يجب أن تشعر أبدًا بخفقان قلب غير مبرَّر.
—
كانت إيرفولتا تزخر بالقصور، من منازل صغيرة ذات طابقين بالكاد يُمكن وصفها بالقصور، إلى قصور ضخمة يمكن اعتبارها حصونًا.
وكما اختلفت واجهاتها، اختلفت أصول أصحابها أيضًا. فمنهم من جاء من أقاصي القارة، ومنهم من وُلد في أفقر مناطق العاصمة، بل وكان بينهم – حسب الشائعات – من ينتمي إلى قبيلة الدوريل التي واجهها الدوق كاليوس ماكسيس مرارًا في ساحات المعارك.
بالطبع، لم تكن تلك سوى شائعات، إذ إنّ كشف أصل أحدهم من الدوريل يعني السماح للإمبراطور بالتدخل مباشرة. لهذا شعرت ميدينا بالاطمئنان.
“الأمر سهل جدًّا!”
مجرد أنّ اسمها الحقيقي ليس ليتيسيا لا يُقارن بالشائعات التي تحوم حول بعض مالكي القصور الآخرين. كانت مرتاحة وسط بحر الأكاذيب، وفوق ذلك، كان هناك من يجعل كذبتها تبدو حقيقية.
“أخبروني أنّك ناديتني بالأمّ البارحة؟”
“إذًا، كيف يجب أن أناديكِ؟”
رمشت ميدينا بعينيها ببراءة.
قالت إيزابيلا بنبرة تختلط فيها الانزعاج:
“لا أعلم إن كنتِ وقحة أم غبية…”
فتحت إيزابيلا مروحة مطرّزة بعناية وحرّكتها أمام وجهها.
لم تنادِ ليتيسيا إيزابيلا “أمّي” من قبل، لكن المزيّف لم يكن يعلم ذلك.
ومع ذلك، شعرت ميدينا بعدم ارتياح لأنها تلفظت الكلمة بلا تردّد.
“هل تريدين أن أتوقف عن قولها؟”
“…لا، يمكنك قولها، لكن لا تبتسمي كالأحمقاء وأنتِ تقولينها.”
“حسنًا، كما تشائين.”
شربت ميدينا النبيذ الحلو حتى ظهر قاع الكأس، حتى لسع لسانها من شدّة الحلاوة.
عندما تذوّقته أول مرة، كان طعمه لذيذًا بشكل صادم، لكنها لم تعد تشعر بنفس الانبهار هذه المرة.
رأت أنّ إيزابيلا، رغم عصبيتها، ليست شخصًا سيئًا.
فعندما يخلو المكان من الناس، تحدّق بها كأنها تحتقرها، لكن أمام الآخرين تعاملها بلطف كأنها ابنتها.
“هل كانت تعامل ليتيسيا الحقيقية بهذا اللطف أيضًا؟”
ازدادت غيرتها من تلك المرأة.
“لكن هنا، أنا الحقيقية.”
كانت ليتيسيا الحقيقية تتجنب مقابلة الناس، لذا قلة هم من يعرفون وجهها.
لو كانت ميدينا مكانها، لأقامت حفلات يومية حتى يعرف الجميع وجهها.
ما ضاع من حياة ليتيسيا بدا سخيفًا، لكن ميدينا لم تعد تبالي، فهذا أتاح لها حياة مترفة في إيرفولتا الآن.
“على كلّ حال، من سيأتي الليلة؟”
“لا أدري، لكن أيًّا كان، فهو أحمق يدفع المال لجيدوين إيرفولتا فقط لرؤيتك.”
كان جيدوين، مالك قصر إيرفولتا، رجلًا ودودًا للغاية. لم يوفر لها الراحة فحسب، بل عاملها كضيفة مرموقة، أحيانًا شعرت ميدينا أنّها صاحبة القصر.
“بحسب جيدوين، ستندهشين كثيرًا.”
“حقًا؟ هذا يثير حماسي!”
على عكس حماس ميدينا، بدا على إيزابيلا القلق، فهي لم تصدق أن تستمر الكذبة إلى الأبد مهما كان واثقًا ماثياس.
“طالما أنتِ بجانب ذلك الفتى، سيصدّق الجميع.”
“لكن ماذا لو علم الدوق ماكسيس… أو بالأحرى، من المؤكد أنّه سيعلم، أليس كذلك يا صاحب السمو؟”
هزّ ماثياس رأسه بثقة.
“سيتحمّل الأمر. صبره يضاهي صبر كلب الصيد.”
لكن نبرته لم تعد واثقة كما قبل.
“وحتى لو لم يتحمّل، لدي طريقة للتعامل مع ذلك، فلا تقلقي.”
لم تكن تعرف ميدينا ما هي تلك الطريقة، ولم ترغب في معرفتها.
تنفّست إيزابيلا بعمق وقالت:
“أريد أن أبقى في غرفتي اليوم.”
“حقًا؟ لكن بما أنّ جيدوين تحدّث هكذا، فلا بدّ أنّ الأمر سيكون ممتعًا…”
“لا، أنا متعبة وأحتاج للراحة.”
بدت الخيبة واضحة في عيني ميدينا. كانت إيزابيلا منزعجة من إلحاحها رغم تجاهلها لها.
“اليوم سأرتاح حقًّا.”
لكن كان من المؤسف ألا ترى الرجال الذين يتملقونها عادة.
قررت ميدينا الظهور في منتصف حفلة إيرفولتا، فذلك يزيد توق الحضور لرؤيتها ويجعلها بطلة الأمسية.
بعد أن كانت مترددة في البداية، باتت الآن قادرة على استقبال نظرات الجميع بثقة، وكلّما فعلت، ازداد اعتقادهم بأنها الحقيقية.
“اليوم، الحفلة صاخبة أكثر من المعتاد.”
تساءلت عن السبب.
“لم أرَ رجلًا وسيما هكذا في حياتي!”
“لو كان كلب صيد كهذا، لتزوجته مئة ألف مرة!”
لاحظت ميدينا همسات الخادمات ونظراتهن الحاسدة، بعدما كنّ ينظرن إليها سابقًا بشفقة كونها الفتاة البائسة التي فقدت كل شيء وجاءت إلى هنا.
لكن اليوم، كنّ يحسدنها حقًّا.
“ما الأمر؟ من هذا الوسيم؟”
كانت ميدينا ترتدي قماشًا نصف شفاف مطرّزًا على رأسها، لتبقي وجهها مفاجأة للحظة المناسبة، بناءً على اقتراح جيدوين.
كان إلى جانب جيدوين رجل طويل عريض المنكبين، يختلف تمامًا عن جيدوين ذي البشرة البيضاء واللياقة المترفة.
رفع الرجل رأسه نحو ميدينا، فبدأ قلبها يخفق بشدة.
“لم أرَ رجلاً وسيماً كهذا من قبل.”
لكن جيدوين سرعان ما قطع أفكارها وهو يلوّح لها:
“ليتيسيا! ها أنتِ هنا! زوجكِ وصل أخيرًا!”
توقفت ميدينا فجأة عن السير.
“زوجي؟”
هذا يعني أنّه يعرف وجه ليتيسيا الحقيقي.
خفق قلبها لسبب جديد، لكن كان عليها البقاء هادئة.
لقد أكّد لها ماثياس أنّه حتى لو التقت به، لن تكون هناك مشكلة، إذ إن علاقته بليتيسيا سيئة، ويرغب في تركها والزواج بأخرى.
بل إن تقمص ميدينا لدور ليتيسيا وإساءة سمعتها سيمنحه سببًا مناسبًا للطلاق.
“…مرّت فترة طويلة.”
كانت تعرف أنّ هذا اليوم سيأتي، وكان ماثياس قد علّمها ما تقول عندها:
“سيتعامل معك كزوجة. فهو ليس غبيًا ليتجاهل أنّها رغبتي.”
أي أنّ معرفته أنّها مزيّفة لا تهم، وكل المطلوب منها هو لعب دور زوجة كاليوس حتى يحين وقت الانفصال.
همست ميدينا بتحيّة، فحوّل الرجل بصره عنها بسرعة، وكان ذلك أفضل، لكنها شعرت ببعض الخيبة.
“ومن هي زوجتي المزعومة؟”
“…هاها، ماذا تعني…؟”
أدار جيدوين عينيه بينما كانت ميدينا ترفع القماش عن رأسها وتخفض بصرها.
“لا تغضب، فأنا أعلم ما أخطأت به، يا سيدي ماكسيس.”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ40
أظهرت ميدينا لمحة من البديهة الحاضرة عندما قالت ذلك، وهي خدعة لم تستخدمها في حياتها من قبل.
تحدثت وكأن كاليـوس قد قال كلامه لمجرد شجار عابر معها. عندها، أومأ جيدوين برأسه وضحك ضحكة صاخبة.
“هاهاها! سير ماكسيس، مهما كان بينكما من شجار، هل يجب أن تبقى هادئًا هكذا أمام الجميع؟ هيا، أظهر مشاعرك!”
ابتسم سير ماكسيس بخفة. حتى تلك اللحظة بدا المشهد في أعين ميدينا والآخرين كلوحة فنية رائعة.
أدركت أخيرًا لماذا كانت الخادمات يطرقن الأرض بقلق من أجله، بل رغبت هي نفسها أن تفعل ذلك.
“هل تحاول المزاح معي، سير إيرفولتا؟”
“يبدو أنك غاضب جدًا.”
قال جيدوين ذلك بملامح متجهمة قليلًا. ر
غم أن الخلاف بين زوجين لا يلزم جيدوين بالتدخل، أجاب كاليـوس بصوت بارد:
“لن أكرر كلامي. هذه المرأة ليست زوجتي.”
“ماذا… تعني بذلك؟”
ارتفعت أصوات الناس تدريجيًا.
ليست زوجته؟ من تكون إذًا؟ ترددت هذه الكلمات في أذن ميدينا، وبدأ جسدها يرتجف.
“أنا… الأمر هو…”
“إذن، من تكون هذه المرأة؟”
قال جيدوين وهو يقطب حاجبيه.
شعرت ميدينا بالخوف من نظرات الناس الذين صاروا يريدون رؤيتها لأسباب مختلفة تمامًا عما سبق.
رغبت فجأة في تبرير كل ما فعلته بأنها كانت تنفذ أوامر ماثياس.
لكن إذا فعلت ذلك، فسمو الأمير سيقتلني.
كان عليها أن تظل متماسكة حتى النهاية، فرفعت كتفيها بثقة.
“سير ماكسيس، هذا قاسٍ جدًا.
كيف تمزح بهذه الطريقة؟ سمو الأمير سيحزن إذا علم.”
عندما ذكرت ميدينا اسم ماثياس، نظر جيدوين إلى كاليـوس بعينين حائرتين.
“إذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، فلا مفر.”
قالها وكأنه ضجر، وأشار بيده إلى امرأة كانت تقف خلفه مباشرة. أومأت برأسها وتقدمت متجاوزة ميدينا نحو باب القاعة.
“إنها زوجة سير ماكسيس، وسيدة قصر سيسكريك، الليدي ليتيسيا ماكسيس!”
تحولت أنظار الجميع فورًا إلى الخلف، متجاوزين ميدينا. استدارت ميدينا ببطء لمواجهة الحقيقة أمامها.
“تشرفت بلقائك، سير إيرفولتا.”
كان الصوت صافٍ ورقيقًا، هادئًا لكنه يحمل قوة راسخة، لم يكن صوت لوم لكنه جعل ميدينا تشعر وكأنها تتلقى توبيخًا.
هذا مستحيل.
قال ماثياس إن ميدينا تشبه تلك المرأة لدرجة تجعل الجميع يصدق أنها هي، لكن الواقع كان مختلفًا.
لكنني أنا…
لا أشبه تلك الجميلة على الإطلاق.
وقفت ليتيسيا باستقامة، بهيئة لم تنحنِ أمام أحد، وأدركت ميدينا أنها لم تنجح في تقليدها أبدًا.
كلما زادت نظراتها الحادة، ازداد إحمرار وجه ميدينا.
“يبدو أنّ هناك سوء فهم.”
لكن لا يمكن اختزال ما حدث كله في كلمة “سوء فهم”. مكثت ميدينا في قلعة إيرفولتا نحو ثلاثة أشهر.
نهض سير ماكسيس من جانب جيدوين وتقدم نحو ليتيسيا الحقيقية، ولف ذراعه حول خصرها.
“زوجتي الحقيقية هي هذه.”
“لكن السيدة إيزابيلا قالت…”
تغير وجه جيدوين عند تلك اللحظة.
فهو يعرف أن كاليـوس ماكسيس ليس رجلًا يتغاضى عن هذا النوع من الإهانة.
اللعنة! إذن من تكون تلك المرأة؟
تذكر حينها بعض الأمور المشبوهة عنها، لكنه وثق بختم الأمير على الرسالة، أو بالأحرى بعبارة: “لن تكون هناك أي مشكلة”.
ربما كان قد شك بأنها مزيفة لكنه تجاهل الأمر عمدًا، ظنًا منه أن الخصم مجرد “كلب صيد” مطيع للإمبراطور.
ربما لم يكن عليّ أن أثق بالأمير.
نادراً ما يغضب سيد إيرفولتا، لكن الآن أشار لفرسانه، وكان عليه أولًا تهدئة كلب الصيد.
“ماذا تنتظرون؟ أمسكوا بتلك المرأة الوقحة فورًا!”
“انتظروا! سير ماكسيس! سمو الأمير…!”
“أنا متأكد أن هناك سببًا وجيهًا لسوء الفهم.”
حين قال كاليـوس ذلك، لم ينظر إلى ميدينا، بل كانت عيناه مثبتتين على زوجته الحقيقية.
أصبح جيدوين مضطرًا الآن للتشكيك في كلام “ليتيسيا المزيفة” بأن العلاقة بينه وبين زوجته سيئة.
“…دعوني أتولى أمرها بنفسي.”
قال كاليـوس ذلك وهو يزفر قليلًا.
“كريستين، لو سمحت.”
قالتها ليتيسيا الحقيقية، فتقدمت الفارسة التي كانت تحرسها نحو ميدينا.
“تفضلي بالخروج.”
اقتادتها إلى مكان مجهول. ربما قصدوا قتلها سرًّا، لكن ميدينا لم تجد سوى أن تغادر بهدوء.
—
في العربة، كانت ليتيسيا عائدة، وكانت أمامها امرأة تبكي وترتجف.
“أنا… أنا آسفة حقًا. لم أتوقع أن تسير الأمور هكذا…”
“لا تكذبي، كنتِ تعرفين من تحاكين.”
جلس كاليـوس بجانب ليتيسيا متكئًا على الجدار وذراعيه معقودتان.
“لكنني سمعت أن هذا سيخدمك… وإذا طُلِّقتِ بسببه، فسوف…”
“إذن لم يكن هدفك سوى مساعدتي؟”
“لا… ليس تمامًا…”
أدركت ميدينا أن الصمت والبكاء أفضل.
“إذًا ماثياس أراد أن يمنحك حجة لطردي.”
“لا أدري إن كان ذكيًّا أم ماكرًا.”
نقر كاليـوس بلسانه، مجددًا منح ليتيسيا سببًا للثقة به. لقد أعلن أمام الجميع أن ميدينا “مزيفة”، وسيصل الخبر إلى ماثياس خلال شهر على الأكثر.
كانت العربة تهتز كقارب في أمواج عنيفة، وكاليـوس يتظاهر بعدم الاكتراث لكنه يمد ذراعه لحماية ليتيسيا كلما كادت تسقط، بينما تراقب ميدينا المشهد بهدوء.
“هناك أمور يجب حلها أولًا.”
“لو تركنا الأمر لجيدوين، لكان سيفعلها بنفسه.”
“لا أثق بذلك.”
كتم الرجل صوته أمام حزمها. اندهشت ميدينا من طاعته الفورية، فنسيت بكاءها وبدأت تراقبهما.
“أو نعيدها لماثياس.”
“هذا مرفوض.”
كادت ميدينا أن تغمى عليها، ولولا رفض ليتيسيا السريع لكانت أمسكت بساق الرجل تتوسل.
“إذًا، ما الخيار المتاح؟”
“سنتحدث في القصر.”
توقفت العربة فجأة، فاندفعت ميدينا للأمام واصطدم رأسها بالجدار.
“قلت لك أن تقود ببطء!”
“كاليـوس، يجب أن تنزل الآن!”
كان قد احتضن ليتيسيا بين ذراعيه، بينما تكبدت ميدينا الصدمة وحدها.
خرجت غاضبة.
انطلقت صرخة حادة من الخارج، فدركت ميدينا وجهتها.
“توقف! سمو الأمير سيغضب جدًا، سير ماكسيس!”
كانت إيزابيلا صاحبة الصرخة، تبدو كغزال وقع بين أنياب كلب الصيد، بشعر مبعثر وحقيبة فوضوية وأنفاس متسارعة.
“أنتِ! أنتِ من وشى بي، أليس كذلك؟”
“آآخ! أتركني، إيزابيلا!”
اندفعت نحو ميدينا وجذبتها من شعرها، وبدأت ميدينا بالبكاء مجددًا، حتى فرقهما كاليـوس وكريستين بالقوة.
“طالت المدة يا إيزابيلا.”
“سمعت أنك قفزتِ في النهر، لكنك تبدين بخير يا ليتيسيا.”
قالتها إيزابيلا بصوت مفعم بالتكلف، مختلفة تمامًا عن ماضيها، فلم تعد مضطرة للتظاهر بالوداعة.
“هل جئتِ لتنتقمي مني الآن؟
أنتِ تعلمين أن سبب كل تعاستكِ هو والدك!”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 11 - من الفصل الحادي بعد المائة إلى الفصل الخامس بعد المائة «النهاية». 2025-09-08
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-09-08
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-09-08
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-09-08
- 6 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-09-08
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-09-09
- 5 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-09-08
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-09-05
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-09-05
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-21
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-21
التعليقات لهذا الفصل " 4"