1
ⵌ1
كان نهرُ هذا الوقتِ من السّنة مثاليًّا للتّخلّي عن الحياة.
كان بارداً بما يكفي ليُوقِفَ القلب، وسريعَ الجريان بدرجةٍ تجعل العثورَ على الجثّة أمراً مستحيلاً.
كان يبدو هادئاً على السّطح، لكن في أعماقهِ كان يَعجُّ بتيّاراتٍ هادرةٍ كأنّها ستبتلعُ كلَّ شيء.
ألقت ليتيسيا بنفسها في الماء.
وفورًا، اقتحمَ الماءُ الجليديّ أنفها وفمها كما لو كان يُمزّق جلدها.
“هـ… هَاهْ… كَحْ.”
كم هو متناقض أن تَعيش إنْ كتمتَ أنفاسك، وتموت إن حاولتَ التنفّس.
قاتلت ليتيسيا بكلِّ قوّتها كي تموت.
وكلّما سلّمت جسدها لمجرى النهر، شعرت براحةٍ غريبة.
“إنّها هناك!”
“لقد وجدناها!”
تمنّت ليتيسيا لو غاصت أعمق، لكن سرعة التيّار لم تسمح لها بذلك.
واقترب منها قاربٌ صغير.
أمسكت ليتيسيا بشيءٍ من وعيها الآخذ بالذّوبان، وراحت تُصارع.
وعندما اقتربت اللحظة الأخيرة، راح جسدها يتحرّك غريزيًّا للبقاء.
“أمسكتُ بها!”
أحدهم أمسك بمؤخّرة عنق ليتيسيا.
وسُحبت عنوةً إلى القارب، فارتجّ جسدها كأنّه في نوبة.
كان وجهها أزرق، وشفاهها مائلة إلى السّواد.
كانت أقربَ إلى جثّةٍ منها إلى كائنٍ حيّ، لكنّ الرّجال الذين أنقذوها رأوها بشكلٍ مختلف.
بدت كالجنيّة التي تظهر فقط في الأساطير، تلك التي تُغوي الرّجال بأغنيتها وتسحبهم إلى الأعماق.
وما إنْ وصل القارب إلى اليابسة، حتى أمسك بها الرّجال من ذراعيها وساقيها وسحبوها.
“تسك تسك.”
في الفجر، عمّت الفوضى قصرَ الأمير.
لقد اختفت ليتيسيا رييربون، أو بالأحرى، تلك التي لم تَعُد تُدعى سوى ليتيسيا.
فورًا، أمر الأميرُ النّاسَ بالبحث عنها، وسرعان ما عثروا على آثارها.
رجلٌ كان يُراقب المشهد كلّه أطفأ سيجارته.
اختفى الدّخان الكريه، ودَوّى صوتُ حذائه وهو يطأ الحصى.
انحنى الرّجل وأمسك بذقن ليتيسيا.
وحين تأكّد أنّ أنفاسها لم تزل موجودة، ابتسم ابتسامةً مائلةً كأنّها تنهش.
“لو متِّ بهذه السّرعة، فسوف أحزنُ، أليس كذلك؟”
كثيرًا ما كانت ليتيسيا تتخيّل وجهه وهو يتمزّق.
ربّما لهذا، كلّما واجهته، بدا لها وجهه مشوّهًا كأنّ أحدهم قصّه بالمقصّ ولصقه من جديد.
“خذوها إلى القصر.”
“أمرك، سموّ الأمير.”
حين انهارَ بيتُ دوق رييربون، كان الأولى بليتيسيا أن تموت.
أن تعيش بفضل رحمةٍ مشوّهةٍ ليست سوى سخرية، كان أسوأ من الموت.
ولأنّها ألقت بنفسها في النّهر وسط الشّتاء، مرضت ليتيسيا أسابيعَ طويلة.
“ليتيسيا رييربون، اعتبارًا من هذهِ اللّحظة، تُسحبُ من اسمكِ عائلةُ رييربون.
ستقضينَ حياتكِ خادمةً مخلصةً لسموّ الأمير، تؤدّين واجبكِ مدى الحياة.”
مرّت ثلاثة أشهر منذ سقوطِ بيت رييربون، الّذي كان يومًا من أكثر بيوت النّبلاء عراقةً.
—
“آنستي! آنستي، كيف يحدث هذا… ههئ، هاه…”
“عليكِ أن تهربي الآن، آنسة ليتيسيا! فورًا!”
“أنا آسف، ليتيسيا… أنا آسف…”
فتحت ليتيسيا عينيها ببطء.
السّقفُ المظلمُ بدا كأنّه على وشكِ السّقوط فوق وجهها.
لم تَعُد تعرف كم مرّ من الوقتِ منذ أن حُبِسَت في هذا الزّنزانة الضيّقة.
كلّ ما تفعله هو التّأرجح بين الحلم والواقع، وتفتح عينيها ووجهها مبلّل.
لقد اختفى بيتُ الدّوق رييربون تمامًا.
أُخذت ثروته وألقابه وضُمَّت إلى القصر الإمبراطوري.
وها هو الأمير يَقبض على كلّ شيء.
قفزت ليتيسيا في نهر سِنات لتحافظ على شرف رييربون الباقي.
لكنّها لم تجنِ سوى إدراك مدى شراسةِ هوس الأمير ماثياس.
“صحيح، حين رفضتِ عرض زواجي، لم تتوقّعي أن يحدث هذا، أليس كذلك؟”
“أحسني الاستماع، ليتيسيا.
ستعيشين بجانبي مطيعةً إلى الأبد.”
“فلتتوسّلي إذًا.
حتّى أغفرَ لكِ.”
أغمضت ليتيسيا عينيها بقوّة.
وكلّما فعلت، لاحَ لها وجهُ الأمير الممزّقُ كأنّه رقعةٌ غريبة.
نعم، هذا ما حصل.
لقد رفضت ليتيسيا عرض زواج ماثياس.
كانت تُشاع حول والدته شبهةُ أنّها من عامّة النّاس، خادمة.
وربّما لهذا أراد أن يتزوّج فتاةً من عائلةٍ نبيلة ليرفع من شأنه.
وكانت ليتيسيا إحدى المُرشّحات.
لكن ليتيسيا لم ترد أن تكون “جائزةً” جميلةً له.
وقد قلّلت من شأنِ هوسه.
لم تظنّ أنّ رفضها سيُشكّل له إهانةً إلى هذه الدّرجة.
ظنّت أنّه لن يُقدم على تدمير رييربون من أجل خلافٍ شخصيّ.
راحت ليتيسيا تعود بذاكرتها مرارًا.
لو قبلت عرض الزواج آنذاك، ربّما لنجا رييربون.
‘كلّ هذا بسببي.’
‘بسبب زواجٍ تافه، دمّرتُ رييربون.
لو أنّني فقط صبرت، لما سقطت العائلة.’
لكنها كلّما أعادت مضغ الماضي بمرارة، لم يتغيّر الجواب.
حتى لو عاد بها الزمن، لم تكن لتتزوّجه.
ولهذا كانت تتعذّب.
كانت عقدة الذّنب تخنقها.
“آسف لأنّني لم أستطع حمايتكِ، ليتيسيا.”
ظلّ صوت دوق رييربون يتردّد في ذهنها.
لم تسمعهُ حقًّا، لكنّها حفظت آخرَ سطرٍ من وصيّته في أعماقها.
كان يعلم أنّ مصيرَ رييربون هو نفسه مصير ليتيسيا، ولهذا كرّر اعتذاره.
كانت ليتيسيا تتمنّى أن تنقلبَ الأمور أو أن تتحوّل إلى ذرّةِ غبار وتزول.
لكن عندما أدركت أنّها لا تستطيع حتى أن تختار مصيرها، عقدت العزم:
‘سأستعيد رييربون.’
وسأجعله يندم على إنقاذه لحياتي.
لكنّ مَن قد يساعدها الآن كانوا قلّةً جدًّا.
عائلاتٌ كانت يومًا حليفة لرييربون لاذت بالصّمت.
ومن المفارقات، أنّ الأمير ماثياس ميتررديا، الذي لم يُعترف له يوماً بالكفاءة، أصبح بعد إسقاط رييربون شخصًا لا يُستهان به.
ظنّ الجميع أنّهم قد يكونون الهدفَ القادم.
ولو أنّ أحدًا منهم تدخّل، لما انتهى أمر ليتيسيا في زنزانةٍ كهذه.
‘لنُفكّرْ في النّجاة أولاً، لا في المستقبل البعيد.’
راحت ليتيسيا تُفكّر مرارًا، تغذّي عقلها بالغضب والذّنب.
كيييك… كيييك…
أغمضت ليتيسيا عينيها بقوّة.
كان الضّوءُ المتسرّبُ يؤلمها.
“ليتيسيا، ما زلتِ تبدين شنيعةً كالعادة.”
كان صوت ماثياس المُتشفّي، لا يخطئ.
فتحت عينيها ببطء حتّى وضحَت الرّؤية.
“طابَ مساءُك، سموّ الأمير.”
بُحَّ صوتُها تمامًا، فكأنّ ماثياس صُدم لحظةً.
“هاهاهاه! أوههاه! هكذا يجب أن تتصرّفي، ليتيسيا!
الآن فقط بدأتِ تفهمين.
أيّها الحرّاس! احضِروا ماءً وطعامًا لليتيسيا!”
ماثياس ميترِرديا، سقوط رييربون كان أزهى لحظةٍ في حياتك.
وسأجعلُ كلّ لحظةٍ بعدها جحيمًا من صنعي.
وسأجعلك تندمُ على إنقاذك لي.
شعر ماثياس بسعادةٍ حقيقيّة عندما بدت ليتيسيا مطيعة.
كأنّه استمتع فعلًا بترويضها، وهي التي كانت يوماً سيّدة رييربون.
تناولت ليتيسيا الماء والطعام لأوّل مرّة منذ أسابيع.
كان بطنها مضطربًا، لكنّها واصلت الأكل خوفًا من ألّا تُتاح لها فرصةٌ أخرى.
“كُلي ببطء، قد تُصَابين بعسر هضم.”
لوّح بيده، فسكب أحد الخدم نبيذًا عطِرًا في كأسها.
راقبت ليتيسيا الكأس دون أن تمسّه، فدفعه ماثياس نحوها بلُطفٍ كاذب.
“اشربيه، حين أُقدّمه لك.”
صدر الأمر بصوتٍ جاف، فاضطُرّت ليتيسيا إلى أن تشرب رشفةً.
مرارةٌ تلتها لمحةُ حلاوة.
كانت تنوي شرب رشفةٍ واحدة، لكنّها أنهت الكأسَ كاملًا دون قصد.
“حسنًا.
أنهي طعامكِ، ولنبدأ الحديث.”
لم يكن طعامًا فاخرًا، لكنّ مجرد الأكل جعل ذهنها أكثر صفاءً.
رفع الخدمُ الأواني من أمامها.
أخفت ليتيسيا يديها تحت الطّاولة، تتّكئُ عليهما داخل كمّيها.
“أظنّ أنّ الوقتَ في الزّنزانة كان مفيدًا.
أخيرًا بدأتِ تَرين الواقع.”
كلّما تحرّك ماثياس، رنّت أقراطه.
تألّقت كحبّاتِ الرّمل في الشّاطئ.
“لو أصبحتِ زوجتي منذ البداية، لكان كلُّ شيءٍ أفضل.
لكن ما حدث ما حدث.
عليكِ الآن أن تتّخذي الخيارَ الأفضل.”
تكلّم وكأنّه هو الخيارُ الوحيد المتبقّي لها.
وقد كان محقًّا في ذلك.
ليتيسيا كانت مضطرّة إلى أن تختار الخيارَ الأنسب في كلّ لحظة.
“هل تُريدني أن أكون جاريتَك، سموّ الأمير؟”
“لا تتظاهري بالغباء، ليتيسيا.”
كان الطّمعُ يتدفّق من صوته.
“إذن أنا…”
“نعم، ما الّذي ترغبين به؟”
حاول أن يُخفي ابتسامته.
ليتيسيا صمتت لحظةً كقاضٍ يُصدر الحكم.
لقد عرفت ما يُريده.
كان يستطيع أن يأخذها كجارية دون إذنها، لكنّه أراد أن تَنطقَ بها هي.
لأنّ ذلك سيكون إذلالًا لها.
“لا أُريد أن أكون جاريتك.”
“…”
اهتزّ طرفُ عينه بخيبةِ أمل.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
2ⵌ
“هذه اللعينة، حتّى بعد أن وصلتْ إلى هذا الحدّ،
ما زالتْ لا تُدرك مكانتها…”
نهض ماثياس فجأة من مقعده وهو يهمس بغضبٍ، ثمّ اندفع نحو ليتيسيا.
“يبدو أنّكِ لمْ تستعيدي وعيكِ بعد،
لكن لا يوجد لديكِ سوى جملة واحدة تقولينها!
واحدة فقط!”
قبضَ بيده الخشنة على عنق ليتيسيا وهزّها بعنف.
فتطاير شعر ليتيسيا كما لو كان يتراقص في مهبّ الريح.
ولمّا رأى في عينيها بريقًا لا يتزعزع، بلغ غضب ماثياس ذروته.
“لو حبستُكِ مجدّدًا في الزنزانة الانفرادية، فبعد شهرٍ ستقولين كلامًا آخر.
إيفان تشيستر!
هذه اللعينة، خذها حالًا… آآآخ!
ماذا تفعلين؟!”
“صاحب السموّ!
أمسكْ يدَها!
لا تدَعْها تطعنه!”
حتّى في هذه الحال، ماثياس ميترديا لم يفهم ليتيسيا.
حين كانت ترفع أدوات الطعام، خبّأت شوكةً تحت كمّ فستانها الممزّق.
لم تكن تنوي استخدامها للطعن فعلًا، بل احتفظتْ بها كاحتياطٍ، فقد تحتاجها لاحقًا.
لكن، ما الحيلة؟
في هذه اللحظة لم يكن هناك مَن يُنقذها.
لم يكن هناك أحدٌ سوى نفسها.
وحين اندفع ماثياس نحوها، لم يكن بوسعها تفويت الفرصة لطعنه. كان عليها أن تطعنه.
نزفَ الدم القاني من عنق ماثياس.
غير أنّه لم يكن طعنًا عميقًا، لأنّها مُنعت بسرعة.
أمسكَ بها الفرسان من كلا الجانبين، وضغطوا على معصميها حتّى أسقطت الشوكة.
“أحضِروا طبيب البلاط فورًا!”
“يا صاحب السموّ، يجب أن تهدأ.
إن تفاقم الجرح…”
“أتبدو عليّ ملامح الهدوء الآن؟ سأمزّق تلك اللعينة إربًا وأرميها طعامًا للكلاب!”
ليتيسيا كانت تُحدّق بلا حراكٍ بماثياس، الذي حاول الانقضاض عليها لكن أوقفه فرسانه.
“سأجعلكِ تدفعين الثمن الذي تستحقّينه تمامًا. ستندمين على كلّ شيء!”
لقد ندمتْ على كلّ شيء بالفعل، منذ زمن.
لكنّ ليتيسيا لم تندم على ما جرى اليوم.
كان يجب على ماثياس أن يعرف. أن يعرف أنّ ليتيسيا تكرهه كُرهًا يجعلها تفضّل الموت على الزواج منه.
ولأنّها أوصلتْ إليه هذه الحقيقة، فلم يكن هناك مكانٌ للندم.
—
بعد شهر.
أغمضتْ ليتيسيا عينيها بقوّة حين داهمها ضوء الشمس بعد طول انقطاع. كانت تلهث كسمكة أُخرجت من الماء، فيما ظلٌّ ضخمٌ يُخيّم فوقها.
انحنى ماثياس حتّى واجهها بعينيه، ثمّ قبض على شعرها.
“ألم أَقُلْ لكِ؟ سأجعلكِ تدفعين الثمن المناسب تمامًا. سأبيعكِ لرجلٍ تكرهينه كره العمى.”
انحنتْ زاوية فمه بابتسامةٍ غريبة.
وما إن رأتْ وجهه المقيت، الضاحك مبتهجًا، حتى أغمضتْ عينيها من جديد.
ما زال غصّةً في قلبها أنّها لم تطعنه جيدًا.
لو أنّها طعنتْه كما يجب في ذلك اليوم، لما اضطُرّت لرؤية وجهه القذر مرّة أخرى. يا لَخسارة الفرصة.
“أهذه هي زوجتي؟”
رمشتْ ليتيسيا وهي تُركّز نظرها. وجهٌ غريب.
صوتٌ غريب.
زوجة؟ عمّنْ يتحدّث؟
انعقدَ حاجبا الرجل الوسيم.
كانت ليتيسيا تتنفّس كزهرة ذابلة تبحث عن نسمة هواءٍ منعشة.
“ما رأيك؟ ما انطباعك الاول عن زوجتك؟”
“……”
زوجة.
لقد أشار ماثياس إلى ليتيسيا على أنّها زوجته.
“على الرغم من شكلها الحالي، إلّا أنّها تبدو مقبولة إذا زيّناها.
أتظنّ أنّني أُزوّجك بأيّ فتاةٍ عشوائيّة؟”
أجبرتْ ليتيسيا تفكيرها البطيء على التحرّك.
“بالطبع، أُصدّق أنّكَ لم تفعلْ ذلك.”
رُفِعتْ ليتيسيا عن الأرض. فقد أمسك بها الخدم من الجانبين وأرغموها على الوقوف. دار رأسها واغتمّتْ معدتها. لكنْ لم يكن في بطنها شيء لتتقيّأه.
كان ماثياس يُمعن النظر فيها كما لو كان يتفقّد سلعةً اشتراها، ليتأكّد من جودتها.
“رغم أنّها لا تُطيع الأوامر، إلّا أنّني واثقٌ أنّكَ ستُروّضها.”
“……”
أما الرجل الغريب، فكان يبدو منزعجًا من النظر إلى ليتيسيا، إذ أدار وجهه عنها.
“أنها الزوجة الأنسب لك، أليس كذلك؟”
رغم أنّ عقل ليتيسيا لم يكن حاضرًا تمامًا، إلّا أنّها أدركت أنّ ما قاله هو إهانة لأيّ أحد.
كانت تتساءل أكثر فأكثر عن هوية ذلك الرجل الذي أهانها… ولماذا يدعوه الأمير زوجها.
‘زوجي، كما يقول.’
خلال أيّامها في الزنزانة، مرّت عليها نوباتُ غضب، وبكاء، وإغماء، واحدةً تلو الأخرى.
جسدها كان في حالٍ يُمكن أن تموت فيه دون أن يكون ذلك غريبًا.
وفي تلك اللحظة، كانت معاناتها من الجفاف وسوء التغذية أخطر من حقيقة أنّ لها زوجًا يكرهها.
وربّما أدرك ماثياس ذلك، فأشار إلى الخدم قائلًا:
“خذوها أولًا، لتستعيد وعيها…”
“إنّها زوجتي، سأفعل ذلك بنفسي.”
حملها الرجل فجأة بين ذراعيه. أحسّتْ ليتيسيا وكأنّها تهوي برأسها نحو الأرض، فزاد شعورها بالغثيان، لكنّ الرجل لم يُبالِ.
كانت ساقاها تتدلّيان في الهواء، وذراعاه اللتان تحملانها قويتان.
لم تكن تعرف مَن هو، لكنْ من الواضح أنّ زواجها به كان دمارًا له.
لتتجاهل دوّارها، أغمضتْ عينيها. وبينما كانت تغيب عن الوعي، سمعت الرجل يهمس:
“حتى لو مزّقته إربًا، فلن يكون ذلك كافيًا.”
—
بعد أن استعادت وعيها بقليل، عرفتْ ليتيسيا اسم زوجها.
سمعت الخادمات وهنّ يُطعمنها الحساء يهمسن:
كاليـوس ماكسيس.
كلـب الإمبراطور.
كان كاليـوس ماكسيس من الشخصيّات البارزة في ميتيراديا، منذ ظهوره الأوّل.
قبل سنوات، شارك في سباق الخيول المقام احتفالًا بعيد ميلاد الإمبراطور، وهزم بطل العام السابق ونال اللقب.
وفي المقابل، طلب أنْ يصبح فارسًا للإمبراطور.
وانتشرت أخباره في أرجاء المملكة. حتى ليتيسيا، التي كانت تدرس في أكاديميّة داميان آنذاك، سمعت باسمه.
“يقولون إنّه مجنون بالطموح.”
“قيل إنّه من نبلاءٍ سقطوا من الطبقة الأرستقراطيّة.”
“هو نبيل ساقط؟ لا تُضحكني.
أنه لا يختلف عن العامّة!”
لكنّ ذلك الرجل، الذي حسبوه مجرّد حديث مجالس، خالف توقّعاتهم.
ذهب إلى حربٍ كانت تُنذر بالهزيمة، وعاد منها حاملًا النصر للإمبراطور. ومن هناك بدأ كلّ شيء.
كان يفعل كلّ ما يأمره الإمبراطور به.
ونال لقب “كلب الصيد”، ذلك الاسم المهين، في تلك الفترة.
كرّمَه الإمبراطور على بطولاته، ومنحه لقبًا من أمجاد إمارةٍ انقرضتْ منذ زمن بعيد.
أقسم الولاء للإمبراطور، ولم يرفض له أمرًا بعد ذلك.
لم يكن يُمانع ارتكاب أعمالٍ غير مشرّفة، ما دامت تخدم صعوده في السُّلَّم.
كان من عالمٍ لا يتقاطع أبدًا مع عالم ليتيسيا رييربون.
وللمفارقة، بعد سقوط آل رييربون، لم يكن ينبغي أنْ يكون هناك أيُّ صلةٍ تجمعهما.
—
قصر وليّ العهد كان بالغ الفخامة لدرجة تُشعر من يدخله بالاختناق من كثرة المجوهرات.
وفي إحدى الغرف، كانت ليتيسيا، التي بالكاد استعادتْ قدرتها على الوقوف، تُقاد للقاء ذلك الرجل.
خطَتْ خطوةً نحو الداخل وكأنّها أضحيّة تُقدَّم له.
الرجل الذي كان جالسًا في وسط الغرفة بوجهه الصارم، بدا متناسقًا على نحوٍ غريب مع بهاء القصر.
“هل تعرفين مَن أكون؟”
كان صوته العميق يحمل غضبًا لا لبس فيه.
أومأتْ ليتيسيا برأسها ردًّا على سؤاله. فازداد وجه الرجل عبوسًا.
“إذًا، لا بدّ أنّكِ تعلمين أيضًا كم هو هذا الزواج مقرف!”
بحسب الإشاعات، كان كاليـوس ماكسيس مجرّد وغدٍ لا يعرف الآداب.
ليت الأمر مجرّد إشاعة!
في الوقت الحالي، كان من الضروريّ أنْ تعرف عنه كلّ شيء.
إنْ كان بإمكانها الهروب من أنْ تُصبح محظيّة لماثياس أو تُسجن مجدّدًا، فعليها أن تفعل ما بوسعها لحماية نفسها.
وليتيسيا كانت تتّفق معه تمامًا.
لكنّ الاتّفاق لا يعني تساويهما في الموقف.
فهي كانت طرفًا في هذا الزواج، دون أن تكون صاحبة قرار.
أمّا كاليـوس ماكسيس، فربّما أُعطي على الأقلّ خيارًا اسميًّا.
إنْ كانت جائزته على الولاء الأعمى هي ليتيسيا، فعليه أنْ يغضب ألف مرّة.
فهذا زواجٌ لا يمكن التغاضي عنه بطبعٍ حادٍّ مثل طبعه.
لقد كان ذلك إهانةً لِكُلّ إنجازٍ حقّقه في ساحة الحرب.
بينما كانت تُفكّر بالأمر ببرود، شعرت ليتيسيا بمرارةٍ في قلبها.
فقد كانت يومًا ما عروسًا تحلم بها كلّ الأسر.
“أنت تملك الحقّ في اختيار شريكة حياتك.”
“……”
تحدّثتْ ليتيسيا ببطء.
وجه الرجل بدا ككاهنٍ مخلص، من شدّة صرامته، حتّى كاد يصعب تصديق أنّه شيطان الحرب الذي اجتاح الساحات.
لكنّها طردتْ تلك الفكرة من رأسها.
“لقد حقّقتَ ما يفوق ما تحتاجه لتحصل على امرأةٍ مثلي.”
“وماذا بعد؟”
“أعني أنّ لك الحقّ في رفضي.”
“……”
في لحظة، مرّت ومضةٌ غريبة في وجهه.
غضب؟ أم دهشة؟ في كلتا الحالتين، لم تكن نظرةً مُبشّرة.
ربّما أدرك ما الذي تعنيه بكلامها.
في الحقيقة، كانت ليتيسيا تختبره بكلامٍ ألقتْه كيفما اتّفق.
منذ البداية، لم يكن له حقّ الرفض أصلًا. فهذا الزواج كان اختبارًا لولائه لا أكثر.
وإنْ كان أحمقًا بما يكفي ليُفسد كلّ شيء بدافع العاطفة، فالأفضل أنْ يفعله الآن، ليوفّر الوقت على الجميع.
“أتظنّين أنّني لا أعرف ذلك؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ3
لكنّ الرّجل كان ذكيًّا.
وكما قالت، فإنّ لديه ‘حقّ الرّفض’، لكنّه كان حقًّا شكليًّا.
الإمبراطور كان يرغب في تنصيب ماثياس مكانه، ومن أجل ذلك، كان يرغب بأن يُصبح كلبُه تابعًا لماثياس.
كان هذا يعني أنّ ما يريده الإمبراطور لم يكن مجرّد زواج ظاهر.
كونه ذكيًّا، كان أمرًا يمكن أن يكون في صالح ليتيسيا أو ضدّها.
لم يكن من الممكن الحكم في الوقت الحالي.
فماذا عساها تفعل الآن؟
كاليوس ماكسيس لم يستطع قتل ليتيسيا في الوقت الحاضر، ممّا يعني أنّها قد تستطيع استغلاله لبعض الوقت.
لم يكن هذا جزءًا من خطّتها، لكنّ رجلاً مثل كاليوس ماكسيس قد يكون من المفيد تعديل الخطّة من أجله.
“أنا من النّوع الذي يجب أن يحصل على ما يُريده.”
[زوز: MY MAN 👈🏻👉🏻]
عندها، قال كاليوس ماكسيس وهو يفرك ذقنه بانزعاج.
كان يبدو أنّه غير راضٍ عمّا يقوله هو نفسه.
وفي تلك اللّحظة، لم تكن ليتيسيا تعرف ما الذي سيقوله. ولو عادت بها اللحظة إلى الوراء، لما استطاعت توقّع ذلك أبدًا.
ثمّ قال كاليوس:
“لنتفاوض.”
لم تتمكّن ليتيسيا من استيعاب الموقف في البداية.
كان كاليوس ماكسيس يعرض عليها صفقة.
كان هذا غريبًا. فهو ليس بحاجة إلى مساعدتها.
رأيُ ليتيسيا لم يكن له أدنى أهمّيّة في هذا الزّواج.
“سمعتُ أنّكِ قفزتِ في نهر السينات.”
“…….”
“الموت لا يحلّ المشكلة،
كان هذا تصرّفًا غبيًّا للغاية.”
في تلك اللّحظة، شعرت ليتيسيا وكأنّه قرع لسانه.
كان يهزّ رأسه كما لو أنّه يرى اختيارها سخيفًا.
“لو مُتِّ، فسوف يشكّ جلالتُه في ولائي.
سيظنّ أنّني قتلتُكِ للهروب من هذا الزّواج، وهذا يعني أنّ كلّ ما تحمّلته حتّى الآن سيذهب هباءً.”
قال ذلك بأسلوب يشبه المضغ الغاضب، وكأنّه يريد تجنّب ذلك بأيّ ثمن.
وأعادت ليتيسيا تكرار كلماته في ذهنها.
“لذا، إنْ وافقتِ على الزّواج بهدوء، فسوف أحقّق لكِ ما تريدينه.”
كان هناك الكثير ممّا يمكن أن تحصده ليتيسيا من تلك الصّفقة.
لم يكن هناك داعٍ للتفكير.
لكنّها لم ترغب في أن تبدو وكأنّها كانت تنتظر عرضه.
فأخذت تُعيد تحليل عرضه بهدوء.
“…بمعنى آخر.”
بشكل غير متوقَّع، أظهر صبرًا نادرًا وهو ينتظر ردّها.
“ستحقّق لي ما أُريده الآن.”
“هل كلامي صعب الفهم؟”
لا، اسحب كلامي عن كونه صبورًا.
بدا غاضبًا من تكرارها للسّؤال، وتحدّث بعصبيّة.
استفزازه الآن لن يجلب لها شيئًا.
“وكيف عرفتَ ما أُريده؟”
“ما تريدينه واضح.”
عينيه تلألأتا بحدّة.
كانتا تشبهان سيفًا صُقِلَ طويلًا.
بدا عليه العمق والخبرة.
لم يكن قد وصل إلى منصبه الحالي عن طريق الحظّ فقط.
“هل رأس الأمير يكفيكِ؟”
رغم أنّ ليتيسيا كانت تحاول إخفاء مشاعرها، لم تستطع إخفاء دهشتها من تلك الكلمات.
بسبب الجوع، كان عقلها بطيئًا.
وبدأت تقلق من أنّها قد تكون أغفلت شيئًا في حواره معه.
فهي لم تفهم السبب الّذي يجعله يُقدّم لها شيئًا كهذا.
“لكنّك أنت تابعٌ لماثياس…”
“كلب صيد لنكون أكثر دقة.
ولأنّ هذا ما يريده الإمبراطور.”
أجاب على الفور.
كرّرت ليتيسيا كلماته في عقلها.
هو كلب الإمبراطور، وليس كلب الأمير ماثياس.
لأنّ الإمبراطور أراد ذلك، فهو يتظاهر فقط.
هذا يعني أنّ ما يُريده فعلًا ليس كذلك.
فما الّذي يريده إذًا؟ تحالف غامض الدّوافع أخطر من الأسر نفسه.
“إذًا، ما الّذي تريده؟”
“السّلطة، النّجاح.
أيّ شيء يجعل منّي شخصًا لا يجرؤ أحد على التّقليل منه.”
أجاب مرّة أخرى دون تردّد.
كان يعرف تمامًا ما يُريده.
“لكنّ ماثياس ميتروديا لا يملك مثل هذه القوّة.”
كانت مُحقّة. فماثياس الآن يبدو مزهوًّا بعد أن أسقط دوقيّة ريوربون، لكنّه في الأصل لم يكن شيئًا يُذكر سوى أميرٍ تافهٍ مدعوم من الإمبراطور رغم تجاوزه سنّ الرّشد.
كان يُقال إنّ حتى الأميرة كيلسيا الّتي بقيت دون زواج داخل القصر، تمتلك شخصيّة أقوى منه.
وقد وافقت ليتيسيا على رأي كاليوس.
خطّتها تغيّرت تغيّرًا جذريًّا.
وأُضيف اسمُه إلى قائمة مَن سيُساعدونها.
ولو بشكلٍ مؤقّت، بدا وكأنّه سيكون في صفّها.
لقد كان دعمًا غير متوقَّع.
وفوق ذلك، فإنّ زواجها منه سيُخرجها من قبضة ماثياس.
لكنّها لم تُصدّق أنّه سيجلب لها رأس ماثياس فعلًا.
بدلاً من ذلك، فكّرت بما يمكنه منحه لها حقًّا.
لقد استطاعت الهرب من أنظار ماثياس، وهذا يعني أنّها ربحت وقتًا.
والوقت يعني فرصة.
“لو أصبحتُ زوجتك.”
قبول الصفقة يعني أن تصبح زوجته.
قطّب حاجبيه، كما لو أنّها نبّهته إلى أمرٍ لم يُعجبه.
“ستفقدُ فرصة الزّواج من امرأة ذات نسبٍ جيّد.”
حتّى لو طلّقها لاحقًا، فلن توجد سيّدة أرستقراطيّة نبيلة تُريد أن تكون زوجته الثانية.
زواجه من ليتيسيا سيلطّخ سمعته.
ومع ذلك، هل هو موافق؟
“هل هذا مهمّ الآن؟”
“…….”
كاليوس أدار رأسه، كما لو أنّه لا يُصدّق أنّها طرحت مثل هذا السّؤال.
“المهمّ هو أن نخرج من هذه الأزمة.
تلك المخاوف يمكن تأجيلها.”
ثمّ وقف من مكانه.
ومدّ يده نحوها كما لو أنّه يطلب مصافحتها. ضيّقت ليتيسيا عينيها.
“خُذيها.
أنا لا أُساعدكِ.
أنتِ مَن تُساعدينني.”
“…….”
ما قاله لم يكن كلامًا يُقال لسيدةٍ نبيلة متحفّظة.
لكن ليتيسيا لم تكن نبيلة بعد الآن.
“لا تُصدّقيني.
فقط صدّقي أنّني أحتاج إليكِ.”
كان في نظرته ثباتٌ لا يتزعزع.
ابتلعت ليتيسيا ريقها.
لم يكن لديها خيار آخر سوى أن تأخذ تلك اليد.
عيناها الذهبيّتان المتلألئتان كادت تبتلعها.
ولو كان هناك طريقٌ آخر، هل كانت سترفض يد هذا الرّجل؟
ظنّت ليتيسيا أنّها كانت ستمسك بها على أيّ حال.
أمسكت يده.
فقبض عليها بقوّة.
ثمّ أخذ يتفقّد يدها مرارًا، وقال متأفّفًا:
“بهذه الحال، ستموتين قبل الزّفاف.
تناولي شيئًا، على الأقلّ.”
—
أُقيم الزّفاف بشكلٍ بسيط.
فماثياس لم يكن كريمًا بما يكفي ليُقيم لهما حفلًا فخمًا.
ارتدت ليتيسيا فستانًا مُرتجلًا، ثمّ وقفت أمامه.
وكان الحضور يقتصر على ماثياس، والأميرة ميلونا هولدين، وخادمتَيها فقط.
ليتيسيا لم تكن تحلم بحفل زفافٍ فخم، لكنّ هذا الحفل لم يكن جزءًا من خطّتها أيضًا.
جسدُها الضّعيف منذ الولادة جعل النّاس يقولون إنّها ستموت قبل أن تبلغ سنّ الرّشد.
ولم تتخيّل قطّ أنّها ستُصبح زوجة أحدهم.
هل يمكن عدّ هذا زفافًا أصلًا؟ هل يمكن عدّها وزوجها زوجين؟
على الأقلّ، لم يكن دوق ريوربون يحلم بهذا النوع من الزّفاف.
شعرت بطعمٍ مرّ في فمها.
ووجدت نفسها مكتئبة بسبب الزّفاف، رغم علمها بأنّه الخلاص من مستنقع ماثياس.
الآن، وقفت ليتيسيا بجانب كاليوس ماكسيس.
كان الزّفاف بسيطًا، أُقيم بعد غروب الشّمس.
“فقط استمرّ على هذا النّحو.”
كان الكاهن يُفسّر لماثياس شروط الزّواج.
ماثياس كان يريد إنهاء كلّ شيء بسرعة، لكنّ الكاهن أصرّ على الالتزام بالإجراءات.
وهكذا، سنحت لليتيسيا فرصة الحديث مع كاليوس.
“أنا لم أفعل شيئًا.”
“تتصرفين كحيوان يُساق إلى المسلخ.”
رفعت ليتيسيا رأسها ونظرت إليه.
كان يُحدّق إلى الأمام بصمتٍ، كأنّه لم يقل شيئًا.
لكنّه كان مُحقًّا.
كانت ترتجف كالبهيمة الّتي تُساق إلى الذّبح.
وعندما حلّ ذلك اليوم، بدأت تشكّ إنْ كان قرارها صائبًا، رغم عدم وجود خيارٍ آخر.
وما إن بدأت الشكوك، حتّى خرجت عن السّيطرة.
هل تمسّكها بيده كان خلاصًا فعلًا؟ أم أنّه هاوية أخرى؟
كان الخوف أكبر من ذاك الّذي شعرت به حين سقطت ريوربون.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ4
“……”
كان حديثُ ماثياس يطول شيئًا فشيئًا، وكان واضحًا أنَّ الكاهنَ يُحاول إقناعَه بجهدٍ بالغ.
نمت فكرةٌ غير عقلانيّةٍ في داخل ليتيسيا تدريجيًّا، فكرةٌ تتمنّى إلغاءَ هذا الزفاف في هذه اللحظة.
كانت يدُ ليتيسيا المرتجفة تُمسك بطرف فستانها، وقد زيّنته قفّازاتٌ حريريّة.
في تلك اللحظة، أمسك كاليوس ماكسيس بيدها.
حاولت سحبَ يدها لا إراديًّا، لكنّه ضغط على أصابعها بقوّةٍ أكبر.
كانت يدُه القويّة تلتفّ حول يدها كاللبلاب، وكان الإحساس غريبًا.
شعرت ليتيسيا بدفءٍ أعاد إليها شيئًا من الهدوء، فأصبح الموقف الذي وُضعت فيه أكثر وضوحًا.
حتّى لو كان هذا الزواج، وحتّى لو كان كاليوس ماكسيس، مجرّد هاويةٍ أخرى،
كان على ليتيسيا أن تتزوّج، أن تُصبح زوجته.
“احزني وانهاري كما تشائين.”
لم تكن هذه جملةً تليق برجلٍ سيكون زوجًا، لكنّها، في هذه الظروف، كانت الأنسب.
“كلّما كنتِ كذلك، ازداد الأميرُ سعادةً.”
يا للسخرية، كانت كلماتُه تمنحها القوّة.
انهارت ليتيسيا كما أرادت، تذكّرت أنَّ هذا جزءٌ من خطّتها.
وأخيرًا، تقدّم الكاهن، بعد أن أقنع ماثياس، ووقف أمام ليتيسيا وكاليوس ليتلو عهودَ الزواج.
“كاليوس ماكسيس، هل ستُحبّ زوجتك وتُكرمها في المرض والحزن؟”
“بالطبع.”
أجاب كاليوس ماكسيس بثقة، وكأنّه يريد هذا الزواج من أعماق قلبه.
بالطبع، لم يكن ذلك صحيحًا.
ثمّ وُجّه السؤالُ ذاتُه إلى ليتيسيا.
“…بالطبع.”
انتهت العهود.
أصبحت ليتيسيا زوجته، وأصبح كاليوس ماكسيس زوجًا لها.
“باسم إله ميتروديا، أُعلنُ الآن أنّكما أصبحتما زوجًا وزوجة.”
ما إن أنهى الكاهن كلامه، حتّى قفز ماثياس من مقعده عاجزًا عن التحمّل.
“ها قد انتهى هذا الهراء المملّ.
والآن، بما أنّكما صرتما زوجين، فعليكما إكمال ليلة الزفاف، أليس كذلك؟”
قهقه ماثياس ساخرًا.
“يا جلالة الأمير، وفقًا للتقاليد، يجب على العروس أن تغتسل الليلة وتُطهّر نفسها استعدادًا…”
“ألا تفهم معنى الزفاف المُبسّط؟ لو أردنا الالتزام بكلّ تفصيلة، لمَ اخترنا زفافًا مبسّطًا أصلًا؟ أتهزأ بكلامي؟”
“لَـ، لَيسَ كذلك، يا مولاي…”
حاول الكاهن تهدئته وهو يتخبّط في توتّره.
وكلّما حاول، ازداد ماثياس اشتعالًا، كمن يصبّ زيتًا على نارٍ مشتعلة.
“إن كنتَ قد أنهيتَ ما عليك، فارحل من هنا.”
“إذًا، سأستأذن، يا جلالة الأمير.”
رغم ضعف سلطة المعبد، كان تصرّف ماثياس وقحًا للغاية.
ولم يبدُ أنّه يُدرك أنّ كلّ هذا يُطفئ ما تبقّى من ذرّة كرامةٍ لدى ليتيسيا.
عضّت ليتيسيا لسانها غيظًا في سرّها، لكنّها حرصت على أن تبدو كشخصٍ غارقٍ في اليأس من هذا الزواج.
“أليسا ثنائيًّا رائعًا؟ أليس كذلك، ميلونا؟ يا عزيزتي؟”
“وهل يُخفى القمر، ماثي؟”
أحاط ماثياس خصرَ ميلونا بذراعٍ واحدة، وجذبها نحوه بقوّة.
اختلّ توازنها قليلًا، لكنّها تداركت ذلك بسرعة، رغم أنّ الآخرين لاحظوا الحادثة.
“ما شعورك بعد أن حصلتَ على زوجة؟”
“لا يوصف يا مولاي.”
بصوتٍ جامد، أجاب كاليوس، فضحك ماثياس ساخرًا وهو يضرب كتفه بضع مرّات.
لكنّ جسد كاليوس لم يتحرّك، كأنّ أحدًا ألقى وسادةً على صخرة. عندما أدرك ذلك، أنزل ماثياس يده.
“أحسنتَ.
هكذا يجب أن تقول. لقد اختار والدي لك بنفسه من تليق بك.
وقد قلتُ له ألّا يُرهق نفسه كثيرًا على حيوانٍ مثلك، لكنّه، كما ترى، شخصٌ بالغ اللطف.”
“أنا ممتنٌّ دائمًا لعطاء جلالتكم.”
“لا تُردّد كلماتٍ بديهيّة، تِك.”
كان ماثياس بارعًا في إذلال الآخرين، لكنّه لم يستطع خدشَ كاليوس ولو قليلًا.
ثمّ وجّه بصره نحو ليتيسيا.
“توقّعي حياةً أكثر مرحًا من الآن فصاعدًا.”
“……”
لم تُجب ليتيسيا، بل حدّقت في ابتسامته الممسوخة.
لو لم تكن هناك صفقة بينها وبين كاليوس ماكسيس، لربّما غرزت أيَّ شيءٍ حولها في وجهه الآن.
لكنّ لديها خطّة، خطّةٌ بدأت تتّخذ شكلًا واضحًا الآن.
لم يكن من المجدي أن تفسد هذه الخطّة لأجل هذا القدر من الإهانة.
“اصطحبوها إلى غرفة الزفاف.”
“أمركم، يا مولاي.”
تدفّقت الخادمات نحوها وانحنين أمامها.
تبعتهنّ ليتيسيا إلى الداخل.
شعرت بنظراتٍ حادّةٍ تخترق ظهرها، لكنّها لم تعرف مصدرها.
* * *
بعد دخول ليتيسيا إلى القصر الإمبراطوريّ، اختفت كلّ ابتسامةٍ ساخرةٍ من وجه ماثياس.
“أنا أعرف تمامًا ما الذي تُخطّط له.”
“حقًّا؟”
لم يَرفْ جفنُ كاليوس أمام تغيّر نبرته المفاجئ.
كان كاليوس ماكسيس ضخمَ الجسد، يصلح أن يكون فارسًا بلا شكّ.
أمّا ماثياس، فكان أقلّ بكثير مقارنةً به.
“لا بُدَّ أنّك تكرهني.
أليست زوجتك أقلّ بكثير من طموحاتك العظيمة؟”
“لا أظنّ ذلك.”
رفع ماثياس حاجبَه ساخرًا.
“أهكذا؟ أنتَ ممتنٌّ لي فعلًا؟ كاليوس ماكسيس العظيم؟”
“بكلّ تأكيد.”
“……”
“أنا ممتنٌّ لجلالتك حتّى العظم.”
في صوته الصلب قوّةٌ واضحة. رمقه ماثياس بنظرةٍ غامضة.
“فقط بالكلام.”
لم يتلقَّ ردًّا، فشعر ماثياس بالملل، وكأنّه فقد اهتمامه.
“إن كنتَ ممتنًّا فعلًا، فلا تتجاهل لُطفي.”
“بالطبع.”
“آه، وتذكّرتُ ما قاله والدي.”
همَّ بالمغادرة، ثمّ عاد إلى كاليوس فجأةً وقال:
كان الأمر الذي يقصده مراقبة تحرّكات نبلاءَ ساخطين بسبب سقوط عائلة رييربون.
“لا تُشغل بالك.”
“لقد أوكل إليّ جلالتك هذه المهمّة بالكامل.”
“نعم، أعلم. وأنا لم أقصد مساعدتك حقًّا، فلا تثقل نفسك بها.”
أومأ كاليوس برأسه قليلًا كجواب.
لكنّ ماثياس اغتاظ من ردّ فعله الصامت، رغم أنّه بنفسه طلب منه ألّا يشعر بالثقل.
“ألستَ فضوليًّا بشأن ما فعلتُه؟”
كان الإمبراطور قد طلب من كاليوس مراقبة أتباع رييربون.
لكنّ “المراقبة” كانت كلمةً مبهمة، تحمل مسؤوليّةً دون سلطةٍ حقيقيّة.
في الظاهر، صار كاليوس ماكسيس زوجَ ليتيسيا رييربون.
وفي الخفاء، تلقّى أمرًا بمراقبة كلّ من يُحاول مساعدتها.
وقد أغاظ هذا ماثياس.
كان يعتقد أنّه الأجدر بإتمام هذه المهمّة.
ظنّ أنّ الإمبراطور رأى في كاليوس ضعفًا مبالغًا فيه.
لكنّ ماثياس كان يظنّ أنّه أثبت كفاءته في التعامل مع قضيّة رييربون.
وكان يعتقد أنّه، في مثل هذه الحالات، من الأفضل أن يُظهر مسؤوليّته حتّى النهاية.
ولذلك، أنجزها بنفسه.
“أنا واثقٌ أنَّ جلالتك تعاملت مع الأمر جيّدًا.”
“لا. بما أنّك كنتَ جزءًا من هذه المسؤوليّة، يجب أن تعرف كيف أنهيتُها.”
“إذًا، تفضّل.”
ما إن قال كاليوس ذلك، حتّى بادر ماثياس بالحديث، كأنّه كان ينتظر إذنه فقط.
“قتلتُهم جميعًا.”
همس ماثياس بصوتٍ خافت، ثمّ ابتسم برضا. وكان ردّ فعل كاليوس المتأخّر مرضيًا له.
“أليس ذلك نظيفًا؟ لا مجال لبقايا. أردتُ أن أُريهم حدود سلطتي.
بعد أن قتلتُ كلّ أفراد أُسَرهم، ندمتُ لأنّني لم أفعل ذلك منذ البداية.
لكنّني سعيدٌ لأنّني أدركتُ ذلك، ولو الآن.”
“إن كان جلالتكم راضين، فأنا كذلك.”
“أنتَ شخصٌ… مملّ. لا متعة فيك.
كيف طاوع الإمبراطور قلبه على اختيار حجرٍ كهذا؟ تِسك.”
أطلق ماثياس ضجرَه الحقيقيّ، ولوّح بيده كأنّه يأمره بالرحيل.
انحنى كاليوس قليلًا، ثمّ بدأ بالابتعاد.
فبصق ماثياس على الأرض.
“تِفه.
نذلٌ حقير.
لا بدّ أنّ قلبه يغلي، لكنّه ما زال يتظاهر.
كلّ تصرّفٍ منه يثير اشمئزازي.
أنا أعلم أنّه لا يكنّ لي أيَّ احترام.
كان من الأفضل أن أُجهز عليه بدلًا من جعله ككلبٍ مدجَّن.
لكنّ الإمبراطور أراد منّي أن أُروّضه.
كأنّ ترويضه مهمّةٌ عظيمة!”
“سنعرف عمّا قريب… كم من الوقت ستصمد خلف تلك الواجهة القاسية.”
في تلك اللحظة، كان كاليوس ماكسيس يسير في أروقة القصر الإمبراطوريّ وكأنّه منزله.
من دون خادمٍ يُرشده، ومن دون أن يتردّد في الممرّات المتشعّبة، وكأنّه يعرف طريقه تمامًا.
ثمّ توقّف.
لم يكن هناك أحدٌ في المكان.
“هل أضربه لكمة وأبدأ من جديد؟”
كان غارقًا في التفكير، ثمّ هزّ رأسه.
وأكمل سيره.
كانت رياحٌ باردة تهبّ في الممرّ الخالي، بردٌ لا يُصدَّق أن يكون في طريقه إلى ربيعٍ دافئ.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ5
لَمْ تنبسِ الخادماتُ ببنتِ شَفَةٍ طوالَ الوقتِ الذي كنَّ يُزيِّنَّ فيه ليتيسيا.
وكأنَّ مجرّدَ الحديثِ معها قد يجلبُ عليهنَّ مستقبلًا مشؤومًا.
دهنت إحداهنَّ جسدَ ليتيسيا بالزيتِ العطريِّ حيثُ ينبضُ الجلدُ بالحياة.
كادت ليتيسيا تختنقُ من رائحةِ ذلك الزيتِ القويّة.
غمَرْنَ جسدَها بالزيت، وسَرَّحْنَ شعرَها الأشقرَ الرماديَّ الذي فقدَ بريقَه بسببِ سوءِ التغذية، وغَسَلْنَه بالزيت، ثمَّ ألبَسْنَها قميصَ نومٍ شفافٍ يُظهرُ تفاصيلَ جسدها بالكامل.
وعندما وضَعْنَ فوقه رداءً شبهَ شفاف، شعرت ليتيسيا حينها فقط ببعضِ الإحساسِ بالواقع.
بدأت تُحصي في ذهنِها كيف ستؤثّرُ أحداثُ هذا اليومِ على مستقبلِها.
هل كان من الصوابِ الوثوقُ بكاليوس ماكسيس؟
‘ماذا لو كان ذلك الرجلَ التافهَ الذي يضربُ النساء؟’
بقيت ليتيسيا وحيدةً، فأخذت تُحدّقُ حولَها بانعكاسٍ لا إراديّ.
‘يَجِبُ أن أُمسكَ بشيءٍ، بأيِّ شيء.’
فقط هكذا ستشعرُ ببعضِ الاطمئنان، حتّى لو لَمْ يحدثْ شيء.
نظرت حولَها، وبدأت تُدركُ ملامحَ الغرفةِ تدريجيًّا.
ليست كبيرةً ولا صغيرةً، تمامًا كباقي غرفِ القصر، تفيضُ فخامةً من كلِّ ركن.
كانت جدرانُها تتلألأُ تحتَ ضوءِ الشموعِ الخافت، ممَّا أثارَ فيها نفورًا غريبًا.
لا يُمكنُها إخفاءُ الشمعدانات.
تمنَّت لو كان هناك شيءٌ صغيرٌ كريشةِ قلمٍ أو أدواتِ طعام، لكنَّها لَمْ تجدْ شيئًا من ذلك.
فتحت أدراجَ المكتبِ وأغلقتْها، ورفعتِ الستائرَ، لكنَّها لَمْ تجدْ شيئًا.
“ما الذي تبحثينَ عنه؟”
قفزت ليتيسيا من مكانِها فزعًا.
استدارت بسرعةٍ، فاصطدمت يدُها المعبّأةُ بالقلقِ بإحدى المزهريات، فتدحرجت على الأرضِ وأصدرت صوتًا مكتومًا وهي تنشطرُ.
“لا تتحرّكي.”
كان صوتُ كاليوس ماكسيس مختلفًا تمامًا عن صوتِه في النهار.
كان يبدو بلا قيودٍ في النهار، أمَّا الآن، وهو يرتدي فقط رداءً يُغطّي جسدَه العلويَّ، فقد بدا شخصًا آخرَ تمامًا.
بكلمةٍ واحدةٍ منه، جعل ليتيسيا تتجمّدُ في مكانِها، ثمَّ انحنى والتقطَ شظايا المزهريّةِ المحطّمة.
“أنا سأفعلُها.”
“لا داعيَ لذلك. ”
لم يكن ما فعلَه على ما يبدو من أجلِها.
كان صوتُه الخشنُ كافيًا لإثباتِ ذلك.
لذا تركتْه يُنهي الأمر.
رغم قلقِها من احتمالِ أن يُصابَ بجرح، إلَّا أنَّها كانت تعلمُ أنَّ هذا ليس وقتَ القلقِ عليه، بل على نفسِها.
“هل نقَعوكِ في العسل؟”
كم هو غريبٌ أن يستطيعَ قولَ مثلِ هذا الكلامِ بهذا الأسلوب.
لم تكن ليتيسيا تتوقّعُ هذا النوعَ من الحديث.
كان يُعلّقُ على رائحةِ الزيتِ العطريِّ التي غمرتْ جسدَها.
أرادت أن تُوضّحَ أنَّ هذا لَمْ يكن بإرادتِها.
“الخادماتُ هنَّ مَن وضَعْنَه من تلقاءِ أنفسِهنَّ.”
“وهل هناك شكٌّ في ذلك؟”
جمع شظايا المزهريّةِ كلَّها، ثمَّ مدَّ يدَه نحوَها.
نظرت إليه ليتيسيا متردّدةً، لا تدري ما يريدُ منها.
“أمسكي.”
“لو دُستِ على قطعةٍ لَمْ أرَها، فسيكونُ الأمرُ مزعجًا.”
كان هذا مشابهًا لما قالَه سابقًا، لكنَّ نبرةَ صوتِه الآن بدت مختلفةً، ربَّما بسببِ تأخّرِ الوقت.
مدَّت ليتيسيا يدَها بهدوءٍ، ووضعتْها في راحةِ يدِه.
“ماذا تفعل…!”
“قلتُ لكِ إنَّكِ قد تؤذينَ نفسَكِ.”
قبض على معصمِها وسحبَها نحوه، ثمَّ وضع يدَه خلفَ ركبتَيْها ورفعَها بين ذراعَيْه.
بدأت تتخبّطُ كسمكةٍ خرجت لتوِّها من الماء.
“حتّى لو قلتِ ألَّا أُنزلَكِ، سأنزلُكِ.
لذا ابقي هادئةً.
وإلَّا، هل ترغبينَ أن أُفلتَكِ هكذا؟”
“لقد كفى! أنزلني!”
لَمْ تكن ترتدي شيئًا تحت الرداء، فأثناء رفعِه لها، انكشفت ساقاها.
ظنَّت أنَّه سيُسكتُها بنبرةٍ قاسيةٍ كما فعل سابقًا، لكنَّه فاجأها بوضعِها على الأرضِ بهدوء.
كان قلقُها من رفضِه غيرَ مُبرَّر.
والآن وقد اقتربت منه، أصبح بإمكانِها رؤيةُ هيئتِه بوضوحٍ أكبر.
إنْ كانت الخادماتُ قد نقَعْنَ ليتيسيا في العسل، فإنَّ كاليوس ماكسيس بدا وكأنَّه مغطّى بندى الصيفِ العليل.
كان قد سرَّح شعرَه للأعلى في النهار، أمَّا الآن فقد تدلَّت خُصلاتُه لتُغطّي حاجبَيْه.
ومن بين رموشِه الطويلةِ ظهرت عيناهُ الذهبيّتان.
وكان لَهَبُ الشموعِ يلعبُ على وجهِه.
‘إنَّه قريبٌ… قريبٌ جدًّا.’
تراجعت ليتيسيا خطوةً إلى الوراء.
حينها فقط أدار كاليوس رأسَه.
كانت هذه ليلةَ الزفاف.
وقد وافقت على الزواجِ منه، ولو بالاسمِ فقط، لذا ما يحدثُ الآن لَمْ يكن غيرَ متوقَّع.
كانت ليتيسيا قبل فترةٍ وجيزةٍ طالبةً في أكاديميّة داميَن، الأشهرِ علمًا في القارّة.
صحيحٌ أنَّ انهيارَ عائلتِها حالَ دون تخرّجِها، لكنَّها كانت تختلفُ جذريًّا عن باقي النبيلاتِ اللواتي تعلَّمنَ فقط على يدِ المربّياتِ ما يجبُ أن تكونَ عليه المرأة.
كانت تعرفُ جيّدًا ما تعنيه “فضائلُ الزوجة” التي تحدَّثت عنها المربّية.
فأكاديميّة داميَن مختلطةٌ، وكانت فيها علاقاتٌ تُدعى “حبًّا”.
صحيحٌ أنَّها لَمْ تكن مهتمّةً بالعلاقاتِ العاطفيّة، لكنَّها لَمْ تكن جاهلةً بها أيضًا.
كانت تعرفُ تمامًا ما يحدثُ بين الرجلِ والمرأة…
…على الصعيدِ النظريِّ على الأقل.
لكنَّ ليتيسيا كانت ماهرةً في تطبيقِ النظريّاتِ عمليًّا.
وكان الأساتذةُ يُشيدون دائمًا بقدرتِها على ذلك.
ما من نظريّةٍ إلَّا وأتقنت تطبيقَها كما لو كانت مجرَّبةً من قبل.
ولهذا، ما يحدثُ بين الرجلِ والمرأة، لن يكونَ استثناءً.
رفعت بصرَها إلى كاليوس بنظرةٍ تحملُ نوعًا من التحدّي.
“تبدينَ كجنديٍّ خارجٍ إلى المعركة.”
كان كاليوس ماكسيس يبدو وكأنَّه يُمازحُها.
وكأنَّ تعجُّبَه ينبعُ من أنَّها تواجهُ هذه اللحظةَ بثقةٍ وهي لا تدري ما ينتظرُها.
لكنَّه كان مخطئًا.
ليتيسيا تعرفُ تمامًا ما سيحدث.
“إذا كان لا بُدَّ من هذا، فلننتهِ منه سريعًا.”
“…”
نظر إليها كاليوس بنظرةٍ يصعبُ تفسيرُها.
“وكيف تعلمينَ ما أنوي فعلَه؟”
“أعرفُ هذا القدر، يا ماكسيس.”
“أتعلمينَ؟”
نعم، لا شكَّ أنَّه تفاجأ.
فمن المعتادِ أن تكونَ النبيلاتُ جاهلاتٍ بهذه الأمور.
“عادةً، لا يُقالُ عن هذا ‘فلننتهِ منه’.”
“لكنَّهم قالوا إنَّه لن يستغرقَ ساعات.”
“مَن قال ذلك؟”
كان سؤالُه سريعًا، أشبهُ بردّةِ فعل.
كان بإمكانِها أن تذكرَ له أسماءَ زملائِها، لكنَّها لَمْ ترَ داعيًا لذلك.
“زملائي في داميَن.”
“آه، تقصدينَ أكاديميّةَ داميَن.”
نَطق اسمَ الأكاديميّةِ وكأنَّه يحملُ ضغينةً تجاهَها.
“ومَن منهم قال إنَّه لا يستغرقُ كثيرًا من الوقت؟”
“…”
لم يكن بحاجةٍ إلى ذكرِ اسمٍ بعينه.
فما أكثرُ مَن قالوا ذلك.
“لكنَّني لستُ من الذين يُنهونَ الأمورَ بهذه السرعة.”
كان صوتُه أشبهَ بالتهديد.
والأسوأ، أنَّه بنفسِه حملَ ليتيسيا من الطرفِ الآخرِ للغرفة، حتّى باتت ركبتاها تلامسان طرفَ السرير.
شعرت بأنَّها فريسةٌ محاصرة.
وندمت لأنَّها لَمْ تُسرعْ سابقًا في العثورِ على ما يحميها.
“هل ما زلتِ تظنّينَ أنَّكِ تعرفينَ ما سأنوي فعلَه؟”
اقترب منها أكثر.
ومع تسارعِ نبضاتِها، ازدادت رائحةُ الزيتِ حدَّةً.
عبس كاليوس، وكأنَّ الرائحةَ ضايقتْه.
“لا تُضيِّعي الوقتَ.”
فتح فمَه قليلًا وكأنَّه صُدم بكلامِها.
ثمَّ زفر تنهيدةً خافتة.
“…لا تقولي كلامًا كهذا في مكانٍ آخر.
أنتِ لا تعلمينَ شيئًا بعد.”
كان كلامُه يمسُّ كرامتَها.
لكنَّها لَمْ تُجادلْه.
“لو لَمْ نُكمّلْ هذا الزواجَ، فسيشكُّ الأميرُ في ولائِك.”
“…”
“وإنْ لَمْ أكن قد تعلَّمتُ شيئًا بعد، فسيكونُ ذلك دليلًا دامغًا له.”
ولهذا، إنْ كان لا بُدَّ لأحدٍ أن يُعلّمَها، فلا بُدَّ أن يكونَ هو كاليوس ماكسيس.
وليس لأنَّها تُريدُ إثارةَه أو استفزازَه.
بل لأنَّها كانت تُحاولُ النجاة.
“أعتقدُ أنَّ في كلامِكِ بعضَ المنطق.”
وبدا عليه الاقتناع، فتقدَّم منها من جديد.
كان عبيرٌ نديٌّ يشبهُ رائحةَ العشبِ الرطبِ يتصاعدُ منه.
أمسكَ بأصابعِها، وراحت ليتيسيا تُراقبُ ما ينوي فعلَه عن كثب.
‘من الأفضلِ أن أُبقيَ كلَّ لحظةٍ واضحةً في ذهني. سيكونُ ذلك أقلَّ رعبًا عندما أسترجعُها لاحقًا.’
أنفاسُه لامست سبّابتَها.
ثمَّ قبَّلَها.
كان ملمسُ شفتَيْه دافئًا وناعمًا.
انكمشت يدُها لا إراديًّا.
“قولي إنَّه قبَّلَكِ هكذا في كلِّ موضع.”
“…”
“هذا وحده سيكونُ كافيًا ليُقنعَ الأميرَ.”
ثمَّ أفلت يدَها.
كان صوتُ قلبِها يصمُّ أُذنَيْها.
“وانسي تلك الترهاتِ التي قالَها زملاؤكِ في داميَن.”
قالَها وهو يُداعبُها كطفلة.
ثمَّ فتح جارورَ الطاولةِ بجانبِ السرير، وكأنَّه يعرفُ ما بداخلِها.
أخرج منها شيئًا قبلَ أن تتمكَّنَ من منعِه.
كان بروشًا قديمًا حادَّ الطرف.
وبحركةٍ سريعة، خدش طرفَ إصبعِها.
سقطت قطرةُ الدمِ على الملاءةِ البيضاء.
ثمَّ وضع إصبعَها في فمِه ومصَّه.
[🦦🦦🦦]
وأعاد البروشَ إلى مكانِه.
“أعتقدُ أنَّكِ تعلمينَ جيّدًا لماذا أفعلُ هذا.”
كانت تلك كلُّ شروحِه.
وفقط عندما أدركت مغزى ما فعلَه، احمرَّ وجهُ ليتيسيا.
لقد ترك دليلًا على إتمامِ الزواج.
ثمَّ استلقى على الكرسيِّ الطويلِ عند طرفِ السرير.
كان أقصرَ من طولِه، فتدلَّى طرفا قدمَيْه منه بشكلٍ مضحك.
لكنَّه لَمْ يُبالِ.
وكأنَّ ما يهمُّه فقط هو النوم.
“أعرفُ أنَّكِ ما زلتِ مستيقظةً.”
قالَها بصوتٍ يُشبهُ تدليلَ الأطفال.
أغمضت عينَيْها مدعيةً أنَّها لَمْ تسمع.
ثمَّ غفت في النهاية.
في صباحِ اليومِ التالي، وبينما كانت الخادماتُ يدخلنَ الغرفةَ استعدادًا لحفلةِ الزفاف، كان كاليوس قد دخلَ الحمّام.
وفي خضمِّ تلك الفوضى، كانت ليتيسيا متأكدةً من شيءٍ واحد:
رأت الخادماتُ يبدّلنَ الملاءات، وعيونُهنَّ تتبادلُ النظرات.
ربَّما كان كاليوس ماكسيس وغدًا.
لكنَّه بالتأكيدِ لَمْ يكن أحمقَ.
وذلك وحده كان كافيًا ليُشعرَ ليتيسيا بالاطمئنان.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ6
بخلافِ حفلِ الزفاف، كان هناك استعدادٌ دقيقٌ لحفلِ الاستقبال.
على عكسِ التوقّعاتِ بأنَّ حفلَ الاستقبالِ سينتهي بسرعة، أولى ماثياس اهتمامًا بالغًا به. وسرعانَ ما تبيَّنَ السببُ.
“ليسَ هناك ما هو أسهلُ من أن يكتشفَ المرءُ مكانتَه عندما يقفُ أمامَ الناس. أظنُّ أنَّ من الأفضلِ لكِ أن تُراجعي وضعَكِ من حينٍ لآخر.”
“أشكرُك على اهتمامِك. يا صاحبَ السموِّ.”
أصبحت ليتيسيا الآنَ أكثرَ هدوءًا في تصرّفاتِها.
غيرَ أنَّ ذلك لَمْ يَرُقْ لماثياس.
فهو لَمْ يكن يجهلُ أنَّ خلفَ مظهرِ ليتيسيا الخاضع، كان هناك حقدٌ موجَّهٌ نحوه.
وبدلاً من أن يُنهيَ الأمر، بدأ ماثياس يختبرُ إلى أيِّ مدىً يمكنُ لليتيسيا أن تظلَّ مطيعةً.
وكانت الطريقةُ بسيطةً: من بينِ كلِّ ما يملكُه، كانت أغلى ما لديه “ميلونا”، زوجةُ الأمير، والتي كانت في الماضي صديقةً لليتيسيا.
إنَّ النهايةَ المتباينةَ لتلك الصداقةِ السابقةِ أصبحت مادةً دسمةً لأحاديثِ المترفين.
“ميلونا، إذًا سأذهبُ أنا أوَّلًا.”
“لا تقلق، اذهبْ. واتركِ الأمرَ لي هنا.”
بدت حياةُ ليتيسيا وميلونا كأنَّها انعكاسٌ ساخرٌ لبعضهما.
نسبٌ شريف، عبقريّتانِ من أكاديميّةِ داميان، والوحيدتانِ من دمهما في عائلتَيْهما.
لكنَّ الآن، أصبحت ميلونا زوجةَ الأميرِ بفضلِ بصيرةِ ماركيز هولدين، بينما سقطت ليتيسيا إلى مرتبةِ دُميةٍ يتسلّى بها الأميرُ بعدَ سقوطِ عائلتِها.
مهما يكن، فقد انتهت صداقتُهما منذ أن جلست ميلونا، من علياءِ مقامِها، تشاهدُ سقوطَ ليتيسيا بجانبِ زوجِها دونَ أن تُحرّكَ ساكنًا.
كانت ميلونا بشعرٍ أزرقَ وعينَيْن زرقاوَيْن، لها ملامحُ تُذكّرُ بجبلٍ جليديٍّ ضخمٍ يطفو وسطَ بحرِ الشمالِ البارد.
أقام ماثياس حفلَ الاستقبالِ من أجلِ كاليوس وليتيسيا، ثمَّ رحلَ لاستقبالِ الضيوفِ بنفسِه.
أمَّا مَن تولَّت مراقبةَ ليتيسيا اليومَ فكانت ميلونا.
ربَّما أراد ماثياس، بسببِ خصوصيّةِ هذا اليوم، ألَّا يُخاطرَ بفضيحةٍ وسطَ النبلاء، ففضَّلَ أن يُكلّفَ ميلونا بدلاً من الخدمِ بمرافقةِ ليتيسيا.
“إنْ بقيتِ هادئةً على هذا النحو، فسيأتي يومٌ تُصبحُ فيه كلُّ هذه الأمورِ مجرّدَ ذكرى قديمة.”
مرَّت عدَّةُ أسابيعَ منذ أن أصبحت ليتيسيا سجينةً في قصرِ الأمير.
لكنَّ حديثَها مع ميلونا الآنَ هو الأوَّلُ منذ ثلاثِ سنوات، منذ أن تركت ميلونا أكاديميّةَ داميان لتُصبحَ زوجةَ الأمير.
“ومَن يُمكنُه أن يُشكّكَ، يا جلالتكِ.”
“……”
رمقتْها ميلونا بنظرةٍ باردة. بدا صوتُ ليتيسيا مزعجًا لها.
“لو لَمْ يكن ماثياس، لكنتِ ميتةً منذ زمن.
أليسَ من الأفضلِ أن تشكريَه قليلًا؟”
لم يختلفْ صوتُ ميلونا كثيرًا عن أيّامِ أكاديميّةِ داميان.
صوتٌ متعجرفٌ لا يعرفُ الانحناء، تمامًا كما كانت دائمًا.
ولهذا، لَمْ تفهم ليتيسيا كيف قَبِلَت ميلونا أن تُصبحَ زوجةَ الأمير. منصبُ زوجةِ الأميرِ يبدو مهيبًا من الخارج، لكنَّه في الحقيقةِ مجرّدُ خردةٍ لا أحدَ يرغبُ بها.
وبما أنَّ الأميرَ الوحيدَ هو ماثياس، فسيظلُّ الوضعُ كذلك دائمًا.
ومع ذلك، ضحَّت ميلونا بنُبلِها من أجلِ ذلك القشرِ الهشِّ، فقط لأنَّ والدَها أرادَ ذلك.
اختارت أن تطيعَ والدَها، وقطعت علاقتَها بليتيسيا على هذا الأساس.
وكأنَّها تُخبرُها بأنَّ مَن لا يحترمُ قراراتِها لا يستحقُّ أن يكونَ صديقًا لها.
ليتيسيا أيضًا احترمت ذلك القرار، لكنَّها لَمْ تكرهْها بسببِه.
عبست ميلونا وكأنَّ ليتيسيا أهانتْها بشدَّةٍ بسببِ صمتِها.
“سقوطُ عائلةِ رييربون سببُه أخوكِ العاميُّ، لا أنا. فلماذا تُفرغينَ غضبَكِ في وجهي، يا ليتيسيا؟”
للوهلةِ الأولى، بدت ميلونا كأنَّها تُواسي ليتيسيا.
لكنَّ ليتيسيا لَمْ تَعُدْ تفهمُ ما الذي تُريدُ قولَه.
الجميعُ يعلمُ أنَّ ماثياس كان خلفَ سقوطِ رييربون.
صحيحٌ أنَّ زوجةَ الأب، إيزابيلا، جلبت ابنَها سيدريك هنتكه إلى رييربون، وكان له دورٌ كبيرٌ في الانهيار.
لكنَّ السببَ الرئيسيَّ هو الديونُ الهائلةُ التي تراكمت بسببِ سيدريك.
وذاك لَمْ يكن ليحدثَ لولا دعمُ ماثياس. فمن كان ليُقرضَ ذلك العاميَّ مالًا طائلًا لولا أنَّه محسوبٌ على الأمير؟
ولهذا، فإنَّ تصرّفَ سيدريك لَمْ يكن ممكنًا دونَ علمِ الأب، خاصَّةً أنَّه أقحمَ اللقبَ الأرستقراطيَّ في مقامرة.
ماثياس حرصَ على تجهيزِ مستنداتٍ رسميّةٍ لتغطيةِ ما حدثَ لاحقًا، حتّى لا يُثارَ الجدلُ حولَ خسارةِ اللقب.
لقد استدرجَ دوقَ رييربون بحنكةٍ إلى الحفرة، وحينَ خسرَ الأخيرُ اللقبَ والثروة، انتحر.
فمن غيرِ ماثياس يكونُ السببُ في هذا؟
لكنَّ ميلونا تتصرَّفُ وكأنَّ ليتيسيا تظلمُه دونَ وجهِ حقٍّ.
“لستُ غاضبةً منك، يا جلالتكِ.”
“……”
كانت ليتيسيا تُدركُ أنَّ لميلونا ظروفَها الخاصَّة.
لقد اختارت أن تُضحّيَ بنفسِها من أجلِ عائلةِ ماركيز هولدين، ولم تكن بحاجةٍ لموافقةِ ليتيسيا على هذا القرار.
لهذا لَمْ تَلُمْها ليتيسيا، لكنَّها لَمْ تتوقَّعْ أن تنظرَ إليها ميلونا اليومَ بتلك النظرةِ نفسِها التي يُلقي بها ماثياس.
تلقَّت ميلونا كلماتِ ليتيسيا ببرود، وكأنَّها لا تُصدّقُ ما تسمع.
“لقد فهمتُ مقصدَكِ تمامًا، يا جلالتكِ.”
نحنُ لسنا صديقتَيْن.
“لا تقلقي بعدَ الآن.”
أرادت ليتيسيا أن تقولَ: لا داعيَ لأن تقلقي من أنَّني سأطلبُ منكِ أيَّ مساعدة.
“……”
لم تُجبْ ميلونا على الفور.
كما لو أنَّها نالت الإجابةَ التي تُريد، فلم تَعُدْ تعبأُ بشيء.
“إنْ كنتِ تظنّينَ هكذا، فلن أُطيلَ الحديثَ. ثمَّ يا ليتيسيا،”
في منعطفِ الخريف، لمعَتْ عينا ميلونا ببريقٍ واضح.
حدَّقت ليتيسيا بها بهدوء.
النظرةُ البريئةُ التي جمعتهما قديمًا لَمْ تَعُدْ موجودةً.
“ابتسمي.
أليسَ اليومَ حفلَ استقبالِكِ أيضًا؟ تبدينَ وكأنَّكِ دابَّةٌ تُساقُ إلى الذبح.”
“……”
أمرت ميلونا بصفتِها زوجةَ الأمير، بكلِّ جلالِ مكانتِها.
“يا جلالتكِ، عليكم الآنَ التوجّهُ إلى قاعةِ لو دَيا.”
جاءت خادمتانِ متأخّرتَيْن لتُبلغا ميلونا.
كانت قاعةُ لو دَيا الآن، بلا شكٍّ، مليئةً بالوحوشِ التي تنتظرُ فريسَتَها.
والفريسةُ كانت ليتيسيا.
تنفَّست ليتيسيا بعمق، ثمَّ ترجَّلَت من العربة.
لكنَّ ما واجهتْه لَمْ يكن كما توقَّعت إطلاقًا.
“كييييييك!”
صرخت امرأةٌ ما بصوتٍ حادٍّ.
وفي تلك اللحظة، تحوَّلت أنظارُ الجميعِ من ليتيسيا إلى مصدرِ الصوت.
كان هناك رجلٌ واقف، وهو الآنَ زوجُ ليتيسيا.
على كتفِه، كان يحملُ شخصًا يتدلّى منه وكأنَّه ميت.
ثمَّ رمى كاليوس ماكسيس ذلك الجسدَ وسطَ القاعة.
وكأنَّه يرمي جثَّةَ حيوان.
وبعد لحظات، بدأ الجسدُ المُنهارُ على الأرضِ يتنفَّسُ ببطء.
“أنه حـ.. حي!”
صرخ أحدُهم.
لكن لَمْ يتقدَّم أحدٌ إليه.
وسطَ نظراتِ الذعر، تحدَّث كاليوس ماكسيس بنبرةٍ ثابتة:
“لقد أمسكتُ بالقاتلِ المتسلّلِ إلى قصرِ الأمير، يا صاحبَ السموِّ.”
كان وقوفُه صلبًا، لا يختلفُ عن وقوفِه أمامَ الإمبراطور.
دخل ماثياس وسطَ الحشودِ بعدَ فواتِ الأوان، نظر إلى القاتلِ ثمَّ إلى كاليوس، ثمَّ ابتسمَ بزاويةِ فمِه.
“…يا للعجب، لقد قدَّمتَ لي خدمةً عظيمة.”
“لقد قمتُ فقط بما يجبُ عليَّ فعلُه.”
في تلك اللحظة، أحسَّت ليتيسيا أنَّ هناك شيئًا غريبًا في تصرّفِ ماثياس.
ماثياس لَمْ يكن ذلك الشخصَ الذي يظلُّ هادئًا عندَ سماعِه عن متسلّلٍ دخلَ قصرَه.
بل كان من المفترضِ أن يُمسكَ بحارسِه من تلابيبِه ويصرخَ فيه.
لكنَّه الآن، بدلاً من ذلك، يضحكُ بكلِّ برود.
“لولا ماكسيس، لحدثت كارثة.”
“قاتلٌ في القصرِ الملكيِّ؟ تُرى مَن أرسلَه؟”
بينما كان الجميعُ غارقينَ في الأسئلة، مسح كاليوس الدمَ عن ذقنِه بظهرِ يدِه، ثمَّ نظر مباشرةً إلى ليتيسيا.
وفي تلك النظرة، خطرَ في بالِها لقبُ “كلبِ الإمبراطورِ الصيّاد”.
الكلبُ الذكيُّ الذي يعرفُ فريستَه مسبقًا ويُحضرُها بنفسِه.
مظهرُه الملطَّخُ بالدمِ لَمْ يكن إلَّا صورةً مثاليّةً لهذا الكلب.
اقتربت ليتيسيا منه بعدَ أن عزمت أمرَها. رائحةُ الحديدِ تزدادُ كلَّما اقتربت.
“ثيابُكَ مُلطَّخةٌ بالدم.”
“ليسَ دمي.”
كان جوابُه مرعبًا.
لكن ليتيسيا حافظت على هدوئِها.
“فلنعتبرْه دمَكَ.
هكذا يُمكنُنا التذرّعُ بالحاجةِ إلى علاجِكَ لنُغادرَ من هنا.”
“……”
تأمَّلَها كاليوس طويلًا.
ثمَّ أطلقَ ضحكةً خافتة.
“ليتيسيا.”
ما زال صوتُ اسمِها على لسانِه يبدو غريبًا لها.
وتوترَّت وهي تنتظرُ ماذا سيقولُ هذه المرَّة.
“من حسنِ الحظِّ أنَّكِ أذكى ممَّا كنتُ أظنُّ.”
رغم أنَّ عبارته بدت كإهانة، إلَّا أنَّ ليتيسيا قرَّرت أن تأخذَها على أنَّها مديح.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ7
“إيفان تشيستر، ألقِ القبضَ على ذلك الوغدِ واستجوبه.
وإنْ قالَ أيَّ شيءٍ مهمٍّ، فبلّغني في الحال.”
“أمرك، يا جلالتك.”
وفيما كان إيفان تشيستر يقتادُ القاتلَ المستأجرَ الذي فقدَ نصفَ وعيه، بدأت أجواءُ قاعةِ “لودَيا” تستعيدُ هدوءَها تدريجيًّا.
“جلالتك، هل لي أن أذهبَ لتطهيرِ جراحي سريعًا؟”
رغم أنَّه تخلَّصَ من عبءِ القاتلِ بإلقائه على عاتقِ إيفان تشيستر، حافظَ ماثياس على هدوئِه التامِّ.
“وما الذي يمنع؟ أأستدعي طبيبَ القصرِ لك؟”
ثمَّ راحَ يَتفقَّدُ جراحَ كاليوس بنفسِه وكأنَّه إمبراطور عطوف، وهو تصرّفٌ لم يكن من عاداتِه.
“أُقدِّرُ لك ذلك، لكنْ لا حاجة.
الإصابةُ ليست خطيرة.”
رفضَ كاليوس عرضَه بلُطفٍ وصرامةٍ معًا.
راقبَ ماثياس بتمعّنٍ كيفَ أنَّ ليتيسيا تُسندُ كاليوس.
“…تبدو مشهدًا جميلًا.
أنتما ثنائيٌّ يليقُ ببعضه.”
“شكرًا لك، جلالتك.”
وجدت ليتيسيا نفسَها تتساءل: ‘هل كنتُ دائمًا بهذه الوقاحة؟’
فما يخرجُ من فمِها هذه الأيّام لم يكن سوى أكاذيبَ صارخة.
“لكنْ لا يجبُ أن تطيلوا الأمر.
إنْ لم تَرَدا إبقاءَ الضيوفِ القادمينَ من بعيدٍ لتهنئتِكما في الانتظار، طبعًا.”
“بالطّبع.”
وإزاءَ ردِّ كاليوس الواضح، لم يُضفْ ماثياس أيَّ شيء.
بل أفسحَ لهما الطريقَ ليمضيا قُدمًا.
رافقت ليتيسيا كاليوس مُدّعيةً الحاجةَ لإسنادِه، رغم أنَّه لم يكن بحاجةٍ لذلك، ومضيا سويًّا عبرَ الستائر.
في الغرفةِ الداخليّة، لم يكن هناك أحد.
وما إنْ دخلا، حتّى ابتعدت ليتيسيا عنه على الفور.
“تبدينَ أكثرَ قسوةً ممَّا ظننت.”
قسوة؟
لكنَّها لم تطردْ مريضًا حقيقيًّا.
فهل يُعدُّ طردُ مريضٍ مزعومٍ قسوة؟
تجاهلت ليتيسيا هراءَه كليًّا.
“كيفَ عرفت؟”
“تعنينَ من؟”
بدا مظهرُ كاليوس مرتّبًا رغمَ بقعِ الدمِ التي لطَّختْه، ومع ذلك ظلَّ مظهرُه جذّابًا.
“القاتل.”
أغلقَ بابَ الشرفةِ المفتوحة، ثمَّ بدأ يخلعُ ملابسَه المُلطَّخةَ بالدّماءِ قطعةً تلوَ الأخرى.
“لكنْ لا يوجدُ هنا ملابس…”
“طلبتُ إحضارَها، فلا تقلقي.”
كيفَ علمَ أنَّ الخدمَ سيصطحبونَه إلى هذه الغرفة؟
تسلّلَ إليها هذا السؤال، لكنَّه لم يكن الأهمَّ في اللحظة.
نظرت إليه مطوَّلًا وكأنَّها تُطالبُه بالإجابة.
ارتجفَ ظلُّه فوقَ عينَيْها القرمزيّتَيْن.
“أهو أمرٌ مهمّ؟”
“نعم، هو كذلك.”
رغم أنَّه بدا كارهًا للإجابة، لم تُردْ ليتيسيا أن تدعَ الأمرَ يمرَّ مرورَ الكرام.
إنْ كان كاليوس أعظمَ ممَّا كانت تظن، فعليها أن تكونَ أكثرَ حذرًا في التعاملِ معه.
“لو كنتُ مكانَ ماثياس، لفعلتُ ذلك.”
جملتُه حملت معنىً مزدوجًا:
أوّلًا، القاتلُ أرسلَه ماثياس.
ثانيًا، كاليوس يعرفُ السببَ الحقيقيَّ خلفَ إرسالِ ذلك القاتل.
في تلك اللحظةِ فقط فهمت ليتيسيا تصرّفَ ماثياس الهادئَ خلافًا لعادته.
“وأنت؟ ماذا كنتَ ستفعل؟”
سألت، فارتفعَ حاجبُ كاليوس وكأنَّه لا يفهمُ سببَ سؤالِها.
“تتظاهرينَ بالجهل؟ مع أنَّكِ تعرفينَ جيّدًا ما الذي يريدُه ماثياس.”
“وما الذي لا أعرفه؟”
لم ترغبْ ليتيسيا بإضاعةِ الوقتِ في ألغاز.
توقَّفت يداهُ التي كانت تفكُّ أزرارَ قميصِه.
حاجباهُ الغليظانِ بقيا منحرفَيْن، في تعبيرٍ عن جدّيته.
“هو يريدُكِ أنتِ.
إرسالُ القاتل، لمن تعتقدينَ كان الهدف؟”
“لكنْ إنْ قتلَك، سيظنُّ الإمبراطورُ أنَّه فشلَ في ترويضِك.”
“صحيح.
إذًا، مَن برأيكِ كان المستهدفَ الحقيقيَّ؟”
قالَ ذلك بنبرةٍ ناعمةٍ تُشبهُ أسلوبَ مدرّسٍ يُربّتُ على طالبٍ أجابَ إجابةً صحيحة.
رغمَ كونِه مزعجًا، استطاعت ليتيسيا أن تدركَ الحقيقةَ بنفسِها.
القاتلُ استهدفَها هي.
لو أنَّها أُصيبت، لكان ماثياس اتَّهمَ كاليوس بأيِّ تهمةٍ ليُخرجَه من عينِ الإمبراطور، ولكان حصلَ على ذريعةٍ لاحتجازِها هنا إلى أجلٍ غيرِ معلوم.
“يبدو أنَّكِ فهمتِ أخيرًا.”
فقالَها وهو يُكملُ فكَّ بقيةِ الأزرار.
ماثياس، الذي لا يرى في حياةِ البشرِ سوى وسيلةٍ لتحقيقِ غاياتِه.
وذاك الرجلُ الذي يعرفُ تمامًا كيفَ يُفكّرُ ماثياس.
رغم أنَّها هي من بدأت بطرحِ الأسئلة، إلَّا أنَّ مجرّدَ فهمِها الكاملَ للموقفِ جعلَ قلبَها يغوصُ.
حينَ نزعَ قميصَه بالكامل، ظهرت بشرتُه المُحمَّرةُ كأوراقِ الخريف.
الآنَ عرفت ليتيسيا سببَ عدمِ مناداتِه بـ”فارس” رغمَ كونِه صيّادًا ماهرًا وجنديًّا بارعًا.
جسدُه مليءٌ بجروحٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى.
فارسٌ حقيقيٌّ، يعرفُ الشرفَ والحدود، لا يُقاتلُ حتّى يتحوّلَ جسدُه إلى حطام.
لكنَّ جراحَه لم تُذكِّرْ ليتيسيا بما تحمّلَه من ألم، بل جعلتْها تتخيّلُ كيفَ فتكَ هو بمن تسبَّبَ له بها.
ورغم ذلك، لم تُطِلِ التحديق.
بعضُ الجراحِ بدت لها شديدةَ الألم، فخشيت أن تشعرَ بالشفقةِ عليه.
“هل كانت إجابتي مُزعجة؟”
في الحقيقة، ما أزعجَها كانت جراحُه، لكنَّها لم تُنكر.
“قليلًا.
لكنَّني ارتحتُ لأنَّكَ تفهمُ جيّدًا كيفَ يُفكّرُ ماثياس.”
فهمُه لتفكيرِ ماثياس وقدرتُه على توقّعِ تصرّفاتِه، كان أمرًا في غايةِ الأهميّة.
لكنَّ مجرّدَ التفكيرِ بأنَّهما قد يكونانِ من طينةٍ واحدة، جعلَ معدتَها تنقبضُ.
ومع ذلك، كاليوس ماكسيس ليسَ ماثياس.
على الأقلِّ، لا يُحاولُ قتلَها في الوقتِ الحاضر. وهذا وحدهُ مكسبٌ كبير.
ورغم ذلك، ارتعشت وهي تتخيّلُ ما كانَ قد يحدثُ لها.
في المقابل، تحدَّثَ كاليوس وكأنَّ الأمرَ لا يعني له شيئًا.
وكان ذلك كافيًا لتُدرِكَ أنَّه لم يشعرْ حتّى بذرةِ اضطراب.
أحسَّت بقشعريرةٍ على طولِ عمودِها الفقريِّ.
الشفقةُ التي شعرت بها قبلَ قليلٍ بدأت تبرد.
مَن يُشفقُ على مَن؟
رؤيتُه يتأمّل: ‘لو كنتُ مكانَ ماثياس، ما الذي كنتُ سأفعلُه؟’
جعلَها ترتعدُ من الداخل.
حتّى هو، ليتيسيا لم تكن بالنسبةِ له سوى وسيلةٍ لتحقيقِ غاية.
“شكرًا لأنَّكَ أجبتَني.”
“لكنِّي لا أظنُّ أنَّها إجابةٌ تستحقُّ الشكر.”
“لقد جعلتَني أستفيق.”
في اللحظةِ التالية، استندَ كاليوس إلى عمودِ السريرِ وهو يُحدّقُ بها بصمت.
“أعتقدُ أنَّنا سنكونُ زوجَيْن ناجحَيْن أكثرَ ممَّا توقَّعت.”
زوجَيْن؟ أيُّ هراء.
ما هما إلَّا قشرةٌ هشَّةٌ تخفي سكّينًا في الوسادة.
وإنْ كانا يتشاركانِ السرير، فلا يُمكنُ أن يُسمَّيا “زوجَيْن”.
في تلك اللحظةِ بالذات، سُمِعَ صوتُ طرقٍ على الباب.
“ادخل.”
يأمرُ بالدخولِ دونَ أن يعرفَ الهويّة؟
رمقتْه ليتيسيا بنظرةِ تعجّبٍ من قلَّةِ حذرِه.
لكنَّ القادمَ كان مَن ينتظرُه.
“أحضرتُ القميصَ الذي طلبته، سيدي.”
مظهرُ القادمِ كان مظهرَ فارس، لكنَّ الفارسَ لم يكن رجلًا.
شعرُها الطويلُ لم يُقصّ، بل رُبطَ للأعلى في ذيلِ حصانٍ يتمايلُ مع كلِّ حركة.
نظرت إلى ليتيسيا نظرةً خاطفة.
“كريستين، ستكونينَ في خدمتِها من الآن.”
قالَها كاليوس وهو يُدخِلُ ذراعَيْه في القميصِ الذي سلَّمَتْه إيَّاه.
نظرت ليتيسيا بدهشةٍ إلى تلك المرأة.
“أُدعى كريستين، سيّدتي.
وسأُفديكِ بحياتي.”
تفديها؟ ومن طلبَ منها ذلك؟
لم تكن ليتيسيا لتظنَّ بأنَّ كاليوس قد أرسلَ حارسةً بدافعٍ نقيٍّ.
ثمَّ إنَّه موجودٌ هنا، فما حاجتُها لحراسة؟
وجودُ كريستين لن يكونَ حمايةً، بل قيدًا على تصرّفاتِها القادمة.
بل بدأت تشكُّ بأنَّ الإمساكَ بالقاتلِ لم يكن سوى ذريعةٍ ليزرعَ حولَها حارسةً شخصيّة.
“ألَمْ تُعجبْكِ الحارسة؟ لا تستهيني، فهي بارعةٌ للغاية.”
“أنا لا أشكّكُ في مهاراتِها التي لم أرَها أصلًا، لكنْ لا أظنُّ أنِّي بحاجةٍ إلى حراسةٍ الآن…”
“أتقولينَ هذا بعدَ أن رأيتِ القاتل؟”
زفرَ ساخرًا كأنَّ الكلامَ أدهشَه.
“كان يمكنُكَ أن تحميني أنتَ.”
كان يُغلقُ أزرارَ قميصِه الصغيرةَ بأناملِه الطويلةِ والماهرة.
توقَّفَ لحظة، والتقت عيناهُ بعينَيْها.
“أليسَ من أجلِ ذلك نُعيّنُ الحُرّاس؟”
“أقصد…”
“هل يعني هذا أنَّكِ لا تمانعينَ وجودي معكِ طَوالَ الوقت؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ8
تغيَّرَ صوتُه إلى البرودةِ في لحظة.
لم تستطعْ ليتيسيا أنْ تردَّ بكلمة، فأغلقت فمَها.
“بالطّبع، أعلمُ أنَّ ذلك لن يحدث.”
وحينَ أغلقَ الزّرَّ الأخير، عادَ مظهرُه أنيقًا من جديد.
وحينَ عقدَ ربطةَ العنق، بدا وكأنَّه قد عادَ إلى هيئةِ كاهنٍ.
بالطّبع، هذا إذا لم يفتحْ فمَه.
نظراتُه السّاكنةُ بدتْ كأنَّها تخترقُ أعمقَ أفكارِ ليتيسيا.
ثمَّ مالَ برأسِه إلى الجانب، كما لو كانَ يُشفقُ عليها،
لأنَّها لم تُدرِكْ بعدَ حِكَمَ هذا العالم.
‘هل هو بسببِ ذلك الوجه؟’
الوجهُ الّذي يبدو تقيًّا ما دامَ ساكنًا، هو ما كانَ يُربكُ عقلَ ليتيسيا.
تمنَّت ليتيسيا لو أنَّه يتحدَّثُ بلا توقّف،
فلن يكونَ هناك مجالٌ لسوءِ الفهمِ فيما يخصُّ تصرّفاتِه أو تعابيرَ وجهِه.
معرفتُها بكاليوس ماكسيس لم تتعدَّ بضعةَ أسابيع.
قبلَ ذلك، لم يكن لهذا الرّجلِ أيُّ وجودٍ في حياتِها.
ما مضى ليسَ سوى وقتٍ قصيرٍ لم يكتمِلْ فيه دورانُ القمر.
وعندما كانَ ينظرُ إليها، لم يكن هناك أيُّ تردّدٍ في عينَيْه.
في معظمِ الأحيان، كانَ كذلك.
لكنْ أحيانًا قليلة، كانت ملامحُ وجهِه، الّذي يعرفُ دومًا ما يريد،
والّذي يغمُرُه الثّقة، تتغيَّرُ فجأة، وكأنَّه ابتلعَ كأسَ سمٍّ.
وهذا ما كانَ يُربكُ ليتيسيا.
“على أيِّ حال، لا تفارقي كريستين ولو لحظةً واحدة. هذا ليسَ طلبًا.”
وحينَ لم تُجِبْه، أضاف:
“سأنقذُكِ.”
وقد باتَ واضحًا الآنَ أنَّه صادق، حتّى لو أُغمِضَتْ عيناه.
“وسأفعلُ أيَّ شيءٍ لتحقيقِ ذلك.”
كان صوتُه حازمًا لدرجةٍ أنَّ ليتيسيا كادتْ تظنُّ أنَّ ما يريدُه هو مجرّدُ إنقاذِها.
لكنْ كيفَ يكونُ ذلك؟
سخِرتْ من نفسِها لأفكارِها غيرِ المنطقيّة.
“سأبقى مع كريستين.”
“من الجيّدِ أنَّكِ تفهمينَ الكلام.”
أنهى كاليوس ارتداءَ ملابسِه، وغادرَ الغرفةَ أوّلًا.
وباتت الآنَ وحيدةً مع كريستين.
حينَ كانت تعيشُ كأميرةٍ في مملكةِ رييربون، لم تكن ليتيسيا بحاجةٍ لحارسٍ شخصيٍّ.
فلم يكن هناك ما يُهدّدُها.
ولكنْ بعدَ أن فقدت اسمَ رييربون، صارَ لها حارس.
وكأنَّها أغلقت الصّندوقَ بالقفلِ بعدَ أن خسرتْه.
“أُعَوِّلُ عليكِ، كريستين.”
“بل أنا مَن تُعَوِّلُ عليكِ، سيّدتي.”
على عكسِ انطباعِها الأوّلِ بأنَّها شخصٌ تقليديٌّ،
كانت عينا كريستين مليئتَيْن بالفضول.
ولم تكن تُجيدُ إخفاءَ ذلك الفضولِ عن ليتيسيا.
لكنَّ الوقتَ الآنَ لم يكن مناسبًا لإرضاءِ فضولِها.
فحتّى في هذه اللحظة، كانَ ماثياس على الأرجحِ يُعدُّ لها فخًّا يُقدِّمُها فيه للناسِ على طبقٍ من ذهب.
“إذًا، فلنذهبْ يا كريستين.”
“نعم، سيّدتي.”
كانت مناداةُ “سيّدتي” تُشعرُ ليتيسيا بشيءٍ من الحرج،
لكنَّها لم تُعلّقْ عليه.
أضاءت أضواءُ قاعةِ لو دَيا الفاخرةُ مجدَّدًا فوقَ رأسِ ليتيسيا.
وما إنْ ظهرت مجدَّدًا برفقةِ كريستين في القاعة،
حتّى بدأ النّبلاءُ يتفحَّصونَها بنظراتٍ علنيّة.
كانت تتوقَّعُ هذا الموقف.
لكنَّ ما فاجأها كانَ ردَّ فعلِ كريستين.
“نظراتُهم وقحة، سيّدتي.
إنْ أمرتِ، سأُعالجُ الأمر.”
“تعالجينه؟ كيف؟”
“فقط أعطيني الإذنَ، سيّدتي.”
أمامَ كلمةِ “عالج” هذه، دخلت ليتيسيا في دوامةٍ من التّفكير.
كانت تظنُّ أنَّ كريستين، كونَها تابعةً لكاليوس ماكسيس الّذي لا يفرّقُ بينَ الوسيلةِ والغاية، ستكونُ ماهرةً وحاسمة،
لكنَّها لم تتوقَّعْ أنْ يكونَ الأمرُ بهذه الحدّة.
رغمَ عينَيْها الواسعتَيْن والواضحتَيْن، جمعت كريستين حاجبَيْها بجديّة.
“كلا، لا تفعلي شيئًا.”
“…إنْ غيَّرتِ رأيكِ، فأخبريني.”
لم تكن ليتيسيا لتُصدرَ أمرًا كهذا.
بدأت تُفكّرُ إنْ كانت كريستين قد أساءت فهمَ أوامرِ كاليوس.
لم تكن في موقعٍ يسمحُ لها بالقلقِ على أحد،
لكنَّ عينَيْ كريستين الصّافيتَيْن جعلتا القلقَ أمرًا لا يُمكنُ تجنّبُه.
“كريستين، ما الأمرُ الّذي أُعطيَ لكِ؟”
“لم أَتَلَقَّ أيَّ أمرٍ حتّى الآن، سيّدتي.”
“ماذا تقصدين؟ ألم يُخبرْكِ كاليوس بأيِّ شيء؟”
سألتْها ليتيسيا همسًا، فنظرت إليها كريستين باستغراب.
“أمرٌ من معاليه؟”
“نعم. ألم تُقْسِمي له الولاء؟”
“كلا، سيّدتي.”
كلا؟
كادت ليتيسيا أنْ تصرخَ في وجهِها، وقد نسيت أنَّها لا تزالُ في قاعةِ لو دَيا.
“فما هو الأمرُ إذًا؟”
“أمرَني بأنْ أُطيعَكِ فقط، سيّدتي.”
“……”
“سأنفّذُ أوامرَكِ قبلَ أيِّ شيءٍ آخر. وإنْ رغبتِ، أُقسِمُ لكِ بالولاءِ الآنَ فورًا…”
بدت كريستين وكأنَّها تظنُّ أنَّ المشكلةَ تكمنُ في عدمِ أداءِ القسم،
فأمسكت بسيفِها لتستعدَّ للقسم.
لكنَّ ليتيسيا أوقفتْها بسرعةٍ لم تعهدها في حياتِها.
“لا حاجةَ لذلك الآن.”
“سأُحضّرُ المكانَ في أقربِ فرصةٍ إذًا.”
راودت ليتيسيا فكرةٌ أنَّ كريستين ربَّما تُخفي شيئًا،
لكنَّها سرعانَ ما استبعدت ذلك.
فمن الصّعبِ تصديقُ أنَّ خلفَ تلك العينَيْن الصّافيتَيْن يكمنُ خبث.
ظنَّت ليتيسيا أنَّها ستُهانُ ما إنْ تدخلَ القاعة،
لكنَّ ذلك لم يحدث.
ولا تدري إنْ كانَ ذلك بسببِ إشاعاتِ كاليوس، أم لأنَّ كريستين كانت برفقتِها.
‘في كلِّ الأحوال، هذا أفضل.’
قد يمكنُها تحمّلُ الإهانة، لكنَّ تجنّبَها هو الأذكى.
“إذًا، كريستين، هل يعني هذا أنَّكِ تُنفّذينَ أوامري أوّلًا؟”
“بالطّبع، سيّدتي.”
إنْ لم تكن تُراقبُها، فهذا خبرٌ سار.
“هذا مطمئن.”
“يسرُّني سماعُ ذلك.”
بدت خدّا كريستين وقد احمرَّا من السّرورِ فعلًا.
كانَ الأمرُ كما لو أنَّ حاجزًا غيرَ مرئيٍّ يمنعُ النّاسَ من الاقترابِ من ليتيسيا.
لكنَّها شعرت أنَّ أحدًا يُراقبُها عن كثب.
وجهٌ لا تعرفُه، لا يبدو مرحَّبًا به في القاعة.
‘من يكون؟’
ليتَ ما كانَ وجهًا مألوفًا، لكنَّه لم يكن كذلك.
“هل تُريدينَني أنْ أتحقَّق؟”
سألتْها كريستين وقد قرأت أفكارَها.
“هل يمكنُكِ ذلك؟”
“بالطّبع، انتظريني قليلًا.”
انحنت كريستين ثمَّ اختفت.
كانت مساعدةً غيرَ متوقَّعة.
وجدت ليتيسيا نفسَها تُصدرُ لها أوامرَ كما لو كانت إحدى خادماتِها.
ولم تكن متأكّدةً إنْ كانَ ذلك صائبًا، لكنْ لم يكن الوقتُ مناسبًا للتردّد.
سرعانَ ما عادت كريستين.
“تحقَّقتُ، سيّدتي.
اسمُه داميان غورسيت.
وهو نائبُ بارون. ماذا تودّينَ أنْ أفعل؟”
“…آه.”
داميان غورسيت؟
لم تعرفْ وجهَه، لكنَّ اسمَه كانَ معروفًا لدى كلِّ نبلاءِ الإمبراطوريّة.
كانَ العشيقَ السّرّيَّ للأميرةِ كالسيا.
كالسيا لم تتزوَّجْ، لأنَّها كانت ستُغادرُ القصرَ إنْ فعلت.
لكنَّ داميان كانَ بمثابةِ زوجٍ لها.
بمعنى آخر، كانَ يدَها اليمنى.
وكالسيا كانت الخصمَ الوحيدَ لماثياس.
لم تتردَّدْ في مواجهتِه علنًا.
لم يكن هناك مَن يُشاركُ ليتيسيا أفكارَها أكثرَ منها،
على الأقلِّ في الظّاهر.
رغمَ اتّفاقِها مع كاليوس، لم تكن قادرةً على تجاهلِ كالسيا تمامًا.
لكنْ إنْ اقتربتْ منها، قد تخسرَ صفقتَها مع كاليوس.
لذلك، لن تبادرَ بالتّقرّب، لكنْ إنْ اقتربَ داميان منها، فلن ترفضَه تمامًا أيضًا.
“شكرًا لكِ، كريستين.”
رغم أنَّ كريستين قالت إنَّها لم تُقسِمْ الولاءَ لكاليوس،
فما زالَ من غيرِ اللّائقِ التّواصلُ مع داميان أمامَها.
“كريستين، أشعرُ بالعطش. هل يمكنُكِ إحضارُ بعضِ الماء؟”
“على الفور، سيّدتي.”
ابتعدت كريستين،
وما إنْ ابتعدت، حتّى صارت نظراتُ الآخرينَ أكثرَ وضوحًا وجرأة.
أرادت مغادرةَ المكانِ حالًا،
لكنَّ ذلك سيكونُ بمثابةِ دعوةٍ لماثياس للعثورِ عليها.
فاتَّجهت نحوَ طاولةٍ مليئةٍ بالحلويّاتِ الّتي لم يقتربْ منها أحد.
وبينما كانت تتظاهرُ بالتّمعّنِ بها،
اقتربَ منها شخصٌ ما.
شعرت بوجودِه خلفَ عمودٍ قريب.
“لديكِ حارسةٌ بارعة، على ما يبدو.”
قالَها رجلٌ اختبأَ بينَ الظّلال.
وكانت ليتيسيا على يقينٍ أنَّه داميان غورسيت.
“سررتُ بلقائِك، نائبَ البارونِ غورسيت.”
كانَ انعكاسُ صورِته على الزّجاجِ يُظهرُ رجلًا بشعرٍ بنيٍّ فاتحٍ ووجهٍ ودود،
أشبهَ برجلِ أدبٍ لا فارس.
وقيلَ إنَّه المستشارُ السّرّيُّ لكالسيا.
لكنْ مهما يكن، لم يهمَّها ذلك.
“…يبدو أنَّكِ تعرفينَني مسبقًا.”
قالَها وقد بدا عليه شيءٌ من الدّهشة.
“هل لديكَ ما تودُّ قولَه لي؟”
“ليسَ أنا، بل سموُّ الأميرةِ ترغبُ في لقائِك.”
في الماضي، كانت لتُرحّبَ بهذه الدّعوةِ دونَ تردّد،
لكنْ ليسَ الآن.
فمن الخارج، بدت ليتيسيا كوحشٍ حُشِرَ بينَ فخَّيْ ماثياس وكاليوس.
وفي هذا الوضع، لم تكن كالسيا قادرةً على مساعدتِها.
بل على العكس، ليتيسيا هي من قد تساعدُ كالسيا.
إذْ لا أحدَ في ذلك القربِ من ماثياس ومثلُها عرضةٌ للخيانة.
كانت نيَّتُهم واضحة،
ولعلَّ كسبَ ثقتِها عبرَ المساعدةِ أوّلًا قد يكونُ مجديًا،
لكنْ ليسَ الآن.
ففي هذه اللّحظة، كانَ وعدُها لكاليوس هو أولويَّتُها.
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ9
“ليتيسيا، أليسَ الآنَ وقتُ حاجتِكِ إلى صديقٍ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى؟”
بالطّبع، لم يكن القصدُ من دعوتِها إلى اللقاءِ أنْ يكونا أصدقاءً فقط.
وكلُّ هذا لم يكن من أجلِ ليتيسيا وحدها.
لم تكن ليتيسيا ساذجةً لتصدّقَ مثلَ هذه الكلماتِ اللاذعة.
“لذلك لا يمكنُني أنْ أختارَ أيَّ شخصٍ ليكونَ صديقًا بشكلٍ متهوّر.”
“كلامٌ منطقيٌّ.”
كانَ نائب البارون يتفقُ مع كلامِ ليتيسيا.
كانَ صوتُه اللطيفُ المُحبَّبُ يُشعرُ بالخبرةِ والحنكة.
“كاليوس ماكسيس سيقتلُكِ.”
لكنَّ الكلامَ التالي كانَ خامًا غيرَ مكررٍ، فكانَ التناقضُ أكثرَ وضوحًا.
كانت ليتيسيا هادئةً إلى حدٍّ ما.
هو لا يعلمُ عن الصفقةِ بينَها وبينَ كاليوس.
أجابتْ دونَ تأخير:
“هل هذا كلُّ ما تريدُ قولَه لي؟”
عندما سألت ليتيسيا كأنَّها تُعلنُ نهايةَ الحوار، لم يجبِ نائب البارون على الفور.
لم يكن من المفترضِ أنْ يُهدِّدَها بشكلٍ واضح، فقد جاءَ ليتكلَّمَ سرًّا.
حينها، حينَ همَّت ليتيسيا بخيبةِ أملٍ، أصبحَ صوتُ نائب البارون أكثرَ خفوتًا:
“قريبًا سيكونُ هناك إشارةٌ من صاحبةِ السموِّ الأميرة.”
كانت عبارةُ “إشارةٌ” غامضةً، فالإشارةُ يمكنُ أنْ تكونَ بأيِّ شكلٍ كان.
“على سبيلِ المثال؟”
“ستعرفينَ حينَ تستلمينَها. وإذا أعجبتْكِ، فأرجو أنْ تردّي على اتّصالي القادم.”
كانَ هذا العرضُ لا بأسَ به بالنسبةِ إلى ليتيسيا، بشرطِ أنْ يُعجبَها الأمر.
حتّى وإنْ كانت هناكَ صفقةٌ مع كاليوس ماكسيس، لم يكن من الضارِّ أنْ يكونَ لديها مثلُ هذه الخطةِ السريّةِ.
ابتعدَ عنها.
حدَّقت ليتيسيا طويلًا في الحلوى التي لم تذقْها.
لم تضعِ الزينةَ الحمراءَ والبيضاءَ في فمِها، لكنَّها شعرت بالحلاوة.
كم سيكونُ الإنسانُ جميلًا لو كانَ كذلك!
لو استطاعَ المرءُ أنْ يعرفَ أفكارَ الآخرِ بمجردِ النظرِ إليه، لما كانَ الأمرُ محبطًا هكذا.
لكنَّ الإنسانَ يختلفُ عن الحلوى، فلا يعرفُ إنْ كانت مرَّةً حتّى يبتلعَها.
—
وجهُ ماثياس المحمّرُ كانَ كالمعدنِ الساخنِ الخارجِ من فرنِ الصهر.
كانَ في ميتروديا، حيثُ لا يزالُ الشتاءُ لم ينتهِ بعد، تهبُّ رياحٌ جافةٌ وباردة.
ومع ذلك، لم يكن وجهُ ماثياس يبرُدُ.
“حتّى المناجمُ تختلفُ.
مناجمُ ريتز لم يعدْ فيها ما يُستخرج.”
أكبرُ مصدرِ دخلٍ لرييربون كانَ منجمَ الذهبِ المملوكِ لرييربون.
ماثياس، الذي استولى على ممتلكاتِ رييربون، أصبحَ يملكُ الآنَ أكبرَ منجمِ ذهبٍ في ميتروديا.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ على الاستيلاءِ ولم يحصدْ بعدُ عائداتٍ حقيقيّة، لكنَّ الأمرَ مسألةُ وقتٍ فقط.
كَرَّسَ دوقُ رييربون حياتَه لبناءِ طرقٍ لتوزيعِ الذهبِ المُستخرج.
الآنَ سينتشرُ الذهبُ المختومُ بختمِ ماثياس في أرجاءِ ميتروديا بدلاً من ختمِ رييربون.
ماثياس، الذي امتلكَ ثروةً بينَ ليلةٍ وضحاها، بدأ يتحدَّثُ عن المناجمِ كأنَّه ثريٌّ جديد.
ولم يلحظْ احتراقَ وجهِ ميلونا بسببِ ذلك.
“بالطّبع، لا يمكنُ مقارنةُ مناجمَ جلالةِ الملك.”
“سأدعوكَ قريبًا مرةً أخرى.
يبدو أنَّ هناكَ الكثيرَ لنناقشَه حولَ الإنتاج.”
رغمَ أنَّه كانَ في حفلِ استقبالٍ، لم يفعلْ ماثياس شيئًا لتهنئةِ الآخرين.
لم يكن هناكَ أيُّ دعاءٍ لحياةِ زواجٍ سعيدة، ولا هدايا.
بل ظلَّ يتحدَّثُ بلا نهايةٍ عن مدى صعوبةِ الحياةِ القادمة.
“اسمُ سيسكريك مبالغٌ فيه.
كانَ ذلكَ مكانًا ذا سمعةٍ في الماضي، لكنَّه الآنَ أرضُ خرابٍ.”
الأرضُ التي مُنحت لكاليوس اسمُها سيسكريك.
كانَ هذا المكانُ مهجورًا منذُ زمنٍ طويلٍ بعدَ انقطاعِ السلالةِ السابقة.
لم يرغبْ أحدٌ في الاستحواذِ على تلك الأرضِ لأنَّها بلا قيمة.
لهذا السببِ لم يخسرِ الإمبراطورُ شيئًا حينَ منحَها.
عندما استلمَ كاليوس الأرض، سخرَ النبلاءُ منه باعتبارِه غريبًا لا يعلمُ شيئًا.
كانت ضريبةُ ميتروديا تعتمدُ على مساحةِ الأرضِ لا عددِ السكان.
قبلَ ذلك، كانَ النبلاءُ يُشنّونَ الحروبَ باستمرارٍ لتوسيعِ أراضيهم، فتمَّ وضعُ القانونِ لتجنّبِ الهدرِ في المواردِ والعمالة.
سخروا منه لأنَّه لم يعرفْ هذا الأمر.
“أنا راضٍ لأنَّها الأرضُ التي منَّ بها صاحبُ الجلالة.”
“نعم، من الجيّدِ أنَّكَ راضٍ.”
لم يكنْ أحدٌ يجهلُ أنَّ ماثياس كانَ يسخر.
لكنَّ كاليوس كانَ هادئًا غيرَ مهتمٍّ.
“متى تنوي العودةَ إلى الجزيرة؟”
“سأعودُ متى دعا صاحبُ الجلالة.”
تغيَّرَ وجهُ ماثياس بشيءٍ من الغضب.
كانَ كاليوس يبدو كالكلبِ المدرَّب، لكنَّ ولاءَه كانَ واضحًا.
ماثياس لم يكن هو من يمتلكُ ذلك الولاء.
“ردُّ كلبٍ صالح.”
تجمَّدَ الجميعُ في مكانِهم.
وقفَ كاليوس في الوسطِ يتذوَّقُ خمرَه.
كانت ليتيسيا تتساءلُ عما سيجيبُه.
كانت تعرفُ الآنَ أنَّه ليسَ رجلًا يُفسدُ الأمورَ بسببِ إهانةٍ صغيرة.
لم يكن رجلًا حصلَ على عطفِ الإمبراطورِ بمحضِ الحظّ.
إنْ أرادَ أنْ يرتقيَ أكثر، لم يكن ماثياس خيارًا سيئًا لإيقافِه.
على الأقلّ، كانَ الإمبراطورُ يحاولُ بإصرارٍ أنْ يخفيَ فسادَه بطلاءِ الذهب.
“سأعتبرُ ذلكَ مدحًا، يا صاحبَ الجلالة.”
كانَ ردُّ كاليوس بعدها بسيطًا.
لم تؤثّرْ استفزازاتُ ماثياس عليه.
ثمَّ خفَّ اهتمامُ ماثياس، وابتعدَ الناسُ عن انتظارِ المشهد.
“لا تتأخَّرْ كثيرًا.”
“هل هناكَ خيارٌ آخر؟”
بدت تلك الكلماتِ وكأنَّها موجَّهةٌ إلى ليتيسيا.
نظراتُه البيضاءُ المضيئةُ كانت موجَّهةً إليها وسطَ وجهِه المحمرّ.
للأسفِ، أصبحت ليتيسيا تدركُ بوضوحٍ هوسَ ماثياس الغريبَ تجاهَها.
—
عندما عبرت بوابةَ القصر، لم تشعرْ ليتيسيا بشيءٍ خاصٍّ.
كانت عودتُها إلى الجزيرةِ بسببِ نظامِ أكاديميةِ داميان، والتي تمتدُّ أربعَ سنوات.
في السنة، كانت فترةُ راحةٍ شتويةٍ لمدةِ شهرين، والباقي يُقضى في الأكاديمية.
لهذا، قضت ليتيسيا في الجزيرةِ مؤخرًا فقط فصلي الشتاء.
لم تكن تشعرُ بحنانٍ نحوها قطّ، لكنَّها شعرت فجأةً وكأنَّها لن تستطيعَ العودةَ إليها مجدَّدًا.
لم يكن لها مكانٌ تعودُ إليه في الجزيرةِ الآن.
وكانَ هذا الأمرُ محزنًا إلى حدٍّ ما.
كانت تخافُ من حقيقةِ أنَّه لم يعدْ هناكَ مكانٌ تعودُ إليه.
“كنتِ صامتةً منذُ فترةٍ.”
كانَ صوتُه مفاجئًا في ذلك الصمت.
لم يكونا يتحدَّثانِ كزوجينِ مقربين.
“ليسَ لديَّ الكثيرُ لأقولَه.”
كانَ إخفاءُ المشاعرِ أفضلَ.
إظهارُها بتهورٍ قد يُعرّضُها للضعف.
أجابت ليتيسيا بهدوء.
في العربةِ، كانا يجلسانِ جنبًا إلى جنبٍ وينظرانِ عبرَ نوافذِ الجانبِ المعاكسِ لبعضِهما البعض، وكانت محادثتُهما بلا مضمون.
“كنتُ أعتقدُ أنَّكِ ستكونينَ مليئةً بالأسئلة.”
كانَ كاليوس ماكسيس غريبًا اليوم.
فورَ عبورهما البوابةَ، بدا كما لو أصبحَ شخصًا مختلفًا.
أم أنَّ الوحدةَ في المساحةِ الضيقةِ جعلتْه يشعرُ بالملل؟
“تتحدَّثُ كما لو أنَّكَ ستجيبُ على كلِّ سؤال.”
“هل سبقَ أنْ رفضتُ الإجابة؟”
عندما فكَّرت، كانَ كلامُه صحيحًا.
رغمَ أنَّه كانَ أحيانًا يتهرَّبُ أو يمازحُ، إلَّا أنَّه دائمًا ما كانَ يعطي جوابًا.
سواء أعجبَ ذلك ليتيسيا أم لا، كانَ هناكَ جوابٌ.
حدَّقت في الخارجِ بلا كلمة، وشعرت بموجةٍ من التفكيرِ الفارغ.
قرَّرت أنْ تتحدَّثَ حتّى وإنْ كانَ الكلامُ بلا معنى، من أجلِ نفسِها.
“هل هي بهذا السوء؟”
“ما الذي تقصدينَه؟”
“سيسكريك. إقليمُك.”
لم يكن هناكَ الكثيرُ المعروفُ عن سيسكريك.
كانت أرضًا مهجورةً لفترةٍ طويلة.
آخرُ مالكِها انتحرَ بعدَ أنْ خضعَ لإمبراطورِ ميتروديا.
كانَ بعضُ الناسِ يشعرونَ بالريبةِ تجاهَها لأنَّها مسكونةٌ بدماءِ أسلافِها.
بالطّبع، لم يكن كاليوس ماكسيس يهتمُّ بهذا.
“يعتمدُ ذلكَ على وجهةِ النظر.”
“ما هي وجهةُ نظرِك؟”
في الحقيقة، لم تكن ليتيسيا مهتمةً بمعرفةِ ذلك.
طرحت السؤالَ عشوائيًّا لتنسى شعورَها بالفراغِ والحزنِ المتزايد.
كانَ سؤالًا متوترًا، لكنَّ الردَّ جاءَ بعدَ قليلٍ وكانَ جيّدًا.
“إنَّها مثالية.”
ما معنى ذلك؟
التفتت لمواجهتِه.
كانَ كاليوس ماكسيس يرتدي زيًّا مرتبًا ومتكئًا كلوحةٍ فنية.
كانَ جوابُه مفاجئًا، لكنَّه لم يكن مؤثّرًا بما يكفي ليجعلَ قلبَ ليتيسيا الجافَّ يلين.
كما قال، الأمرُ يعتمدُ على النظرة.
ربَّما بالنسبةِ إليه، وهو نبيلٌ ساقطٌ استطاعَ أنْ يستحوذَ على هذه الأرض، هي المكانُ الأمثلُ في العالم.
لكنْ بالنسبةِ إلى ليتيسيا، هي أرضٌ فقيرة مهجورةٌ بلا شيءٍ يُذكر.
“هذا خبرٌ سار.”
“ماذا تعنين؟”
كادت أنْ تديرَ وجهَها، لكنَّه سألَ مباشرة.
“هل تحبّينَ الأرضَ التي مُنحتْ لكِ؟”
“ستحبّينَها أيضًا.”
قالَها وكأنَّها حقيقةٌ لا تقبلُ الجدل.
استحضرت ليتيسيا مقاطعةَ رييربون، التي كانت خضراءَ طوالَ العام، وهي أرضٌ جميلةٌ يُحسدُ عليها الجميع.
كلُّ شيءٍ فيها نقيٌّ وشفاف، حتّى أُطلقَ عليها اسمُ “مكانِ الجنيات”.
مقارنةً برييربون، لم يكن لأيِّ مكانٍ آخرَ أنْ يكونَ مثاليًّا.
لم تُجادلْه، بل أرجعت رأسَها مرةً أخرى.
وصلوا إلى نُزُلٍ هادئٍ في وقتٍ متأخّرٍ من الليل.
يبدو أنَّهم استأجروا النُزُلَ بأكملِه، وكانَ صاحبُ النُزُلِ يبتسمُ ابتسامةً عريضةً وهو يرحّبُ بهما.
“يا لها من مفاجأةٍ سارة! سيدُ ماكسيس!”
“كودليا.”
احتضنَ صاحبُ النُزُلِ العجوزُ كاليوس بحرارةٍ ثمَّ أطلقَ سراحَه.
على الرغمِ من قوةِ اليد، بقيَ كاليوس واقفًا بثباتٍ.
“إذًا هذه هي سيدةُ ماكسيس.
سررتُ بلقائِكِ، أنا كودليا.”
“…سررتُ بلقائِكِ، كودليا.”
صافحت ليتيسيا المرأةَ بحيرةٍ.
على الرغمِ من تحيةِ المرأةِ القويةِ، اهتزَّ جسدُ ليتيسيا كأنَّها تعرَّضت لهزةٍ أرضية.
لكنْ كودليا لم تبدُ مهتمة.
بعدَ التحية، أمرَ صاحبُ النُزُلِ الخدمَ بتقديمِ الطعام.
كانَ الطعامُ لذيذًا مقارنةً بما يُقدَّمُ عادةً في النُزُلِ.
بدأ الظلامُ يحلّ، وكانَ الطعامُ على وشكِ الانتهاء.
“سيدي ماكسيس، هل أجهّزُ لكَ الماءَ للاستحمام؟”
نظرَ كاليوس، الذي كانَ يشربُ الخمرَ، إلى ليتيسيا بدلاً من الإجابة.
“يبدو ذلكَ جيّدًا.”
“سأجهّزُه.”
تضاءلت أصواتُ الأواني تدريجيًّا.
مرَّ وقتٌ يمكنُ فيه افتراضُ أنَّ الماءَ أصبحَ جاهزًا.
“سأذهبُ أوّلًا.”
“الغرفةُ في الطابقِ العلوي، في المنتصف.”
أومأت ليتيسيا ببطء.
لم تتحرَّكْ كثيرًا، لكنَّها شعرت بتعبٍ شديد.
“أراكَ غدًا، سيدي ماكسيس.”
“ماذا تعنين؟”
وضعَ كاليوس كأسَه الفارغَ ومسحَ شفتَيْه بحركةٍ نبيلةٍ.
“نحنُ زوجان، فهل من الطبيعيِّ ألَّا نشاركَ غرفةً واحدة؟”
︶ ⏝ ︶ ୨୧ ︶ ⏝ ︶
ⵌ10
كتمت ليتيسيا سؤالَ “لماذا؟” الذي كادَ أنْ يخرجَ من حلقِها.
كانَ الزّواجُ عذرًا فقط ضمنَ النظام، ولم يكن هناكَ داعٍ للتظاهرِ بأنَّهما زوجان حتّى عندما لا تكونُ عيونُ ماثياس عليهما.
“مثابرةُ ماثياس لا تقلُّ عن كلبِ الصيد.”
رغمَ أنَّ ماثياس كانَ يطاردُ ليتيسيا، لم يكن عليها أنْ تدخلَ معهُ في مواجهةٍ مباشرة.
لم تفهمْ ليتيسيا كاليوس، الذي تصرَّفَ وكأنَّه نسيَ تمامًا أنَّه أرفقَ كريستين لحمايتِها منه.
“كريستين موجودة، أليسَ كذلك؟” قالت، مشكّكةً في قدرتِها كما فعلت من قبل.
“هل ستُبقينَ كريستين واقفةً خارجَ البابِ طوالَ الوقت؟”
“هل الفارسُ الوحيدُ هو كريستين؟” ردَّت ليتيسيا دونَ تراجع.
قامَ كاليوس من مكانِه، فارتجفت شمعةٌ واحدةٌ بقوة، وتحرَّكت الظلالُ بشكلٍ مضطرب.
“بالطّبع لا.”
“إذًا…”
“لماذا تظنّينَ أنَّني سأواجهُكِ من أجلِكِ؟”
‘ليسَ فقط لحمايتِكِ من القتلةِ يجبُ أنْ أقاتل،’ فهمت ليتيسيا المعنى الكامنَ في كلامِه.
“لن أهرب.”
“من لا يستطيعُ الكلام؟” قالَ بنبرةٍ ساخرة، لكنَّها غاضبةٌ من اتّهامِه لها دونَ معرفةٍ حقيقيّة.
كانَ مزعجًا أيضًا أنَّها كانت متأكّدةً جدًّا من أنَّ ليتيسيا لن تشكّلَ تهديدًا له.
“لا تفكّري في إيذائي أبدًا، حتّى في أحلامِكِ، إنْ كانَ ذلكَ ممكنًا.”
زادَ استغرابُ ليتيسيا، وظهرَ ذلكَ واضحًا على وجهِها.
اقتربَ كاليوس منها قليلًا.
“على أيّةِ حال، أنتِ بحاجةٍ إليَّ أيضًا، فهل سأقتلُكِ؟”
كانَ الجوُّ حولَ كاليوس مختلفًا عما كانَ عليه في النظام.
رغمَ أنَّه وصفَ ماثياس بكلبِ صيدٍ مثابر، بدا وكأنَّه قد تخطَّاه تمامًا ويستمتعُ بالأمر.
قبلَ قليلٍ كانَ يبدو كما لو كانَ يستهزئُ بليتيسيا بخفة.
لم تستطعْ ليتيسيا التكيّفَ مع مظهرِه الجديدِ ووقعت في استفزازِه.
“لماذا أنتَ واثقٌ بهذا الشكل؟”
حتّى هي لم تكن واثقة، فلماذا كانَ هو كذلك؟ سألت بصوتٍ مرتعشٍ قليلًا.
لم تكن كاذبةً إذا قالت إنَّها لم تكن متوترة.
كانَ الرجلُ الذي يزيدُها طولًا برأسٍ يقرّبُ جسدَه منها، لكنَّها لم تحاولِ الابتعاد.
اقتربَ منها حتّى ضاقَ الفضاءُ بينَهما كما في أولِ ليلةٍ بينَهما.
“لقبي لم يُورَّث بعد.
جلالتُه دائمًا يستعدُّ للأسوأ.”
كانت هذه أولَ معلومةٍ تعرفُها.
هذا يعني أنَّه إذا قتلتُه، فلن أُورّثَ لقبَه، بل سأعودُ لا شيء.
“هل قرَّرتِ الآنَ أنَّه لا يجبُ قتلي؟”
كانَ كلامُه صحيحًا لكنَّها لم تجبْ، بل تراجعت للخلف.
تلاشى العطرُ المنعشُ الذي كانَ حولَها.
كانت لا تزالُ تواجهُ كاليوس وتتبادلُ النظرات.
قالت لكريستين التي كانت تراقبُ الموقفَ من الخلف:
“كريستين، إذا متُّ، اقتلي كاليوس.”
لم تكن تصدّقُ أنَّ كريستين ستفعلُ ذلك، لكنْ كانَ من الجيّدِ وجودُ خطةٍ احتياطيّة.
“بالطّبع، سيّدتي.”
نظرَ كاليوس بدهشةٍ إلى مؤامرةِ القتلِ التي دُبّرت أمامَ عينَيْه بينَ ليتيسيا وكريستين.
كانت إجابةُ كريستين بلا تردّد.
“إذا لم تقتليني، فلن تموتي.”
“هذا يبعثُ على الطمأنينة.”
قالَ ذلكَ بسخرية، لكنَّ ليتيسيا تجاهلتْه.
—
كانت مياهُ الاستحمامِ دافئةً بما يكفي، ولم تشعرْ بالبردِ حتّى مع انخفاضِ الحرارةِ خلالَ الليل.
كانت الغرفةُ الأكبرَ في النزل.
كانَ هناكَ حطبٌ كافٍ في الموقدِ ليبقى مشتعلًا طوالَ الليل.
استغرقت ليتيسيا في الاستحمامِ لتزيلَ التعب.
كانت هذه المرةَ الأولى منذُ شهورٍ تحظى بالهدوءِ والسكينة.
أغمضت عينَيْها، ثمَّ خرجت من الحوضِ قبلَ النومِ ومسحت جسدَها.
حضرت خادمةُ النزلِ لمساعدتِها لكنَّها أُبعدت بسببِ الفوضى.
عصرت الماءَ من شعرِها ولبست ثوبَ النومِ قربَ الموقد.
جاءَها النعاسُ فجأةً بشكلٍ لا يُقاوم.
كم مرَّ من الوقت؟
نامت لفترةٍ ثمَّ فتحت عينَيْها، ولا يزالُ الموقدُ ينبعثُ منهُ الدفء.
لم يكن كاليوس موجودًا.
ربَّما كانَ كلامُه عن مشاركةِ الغرفةِ مجرَّدَ تهديد.
الليلُ قد مضى كثيرًا لكنَّه لم يظهر.
عندما حاولت النومَ مجدَّدًا، شعرت بالعطش.
فتحت عينَيْها قليلًا لكنَّها لم تجدْ ماءً.
جلست.
‘هل ما زالَ يشرب؟’
آخرَ مرةٍ رأتهُ كانَ في الطابقِ السفلي يشربُ مع صاحبِ النزل.
حملت شمعةً بيدها وتوجَّهت ببطءٍ نحوَ الباب.
كانَ الممرُّ هادئًا جدًّا، لا ضوضاءَ من الطابقِ السفلي.
تردَّدت قليلًا لكنَّها كانت عطشانةً جدًّا لتعودَ للنوم.
خطت خطوة، وصرَّت الأرضُ تحتَ قدمِها بصوتِ صرير.
“لماذا قمتِ؟”
صوتٌ منخفضٌ وصلَ إلى أذنِها فجأة، كادت تسقطُ الشمعة.
استدارت لتجدَ كاليوس يقفُ أمامَ بابِها بتعبيرٍ مخيف.
“…لماذا تقفُ هناك؟”
لم يكن هذا كلَّ شيء.
رأتهُ يحملُ سكينًا يلمعُ بضوءِ الشمعة.
كما لو أدركَ ذلكَ فجأة، أخفى السكينَ بسرعةٍ خلفَ ظهرِه.
كانَ في رأسِ ليتيسيا إنذارٌ قويّ.
‘لماذا يقفُ حاملًا سكينًا أمامَ بابي؟’
كانَ عليها أنْ تعترفَ بأنَّه بالغَ في ثقتِه بأنَّه لا يمكنُه قتلَها “حتّى الآن”.
“سألتُكِ لماذا خرجتِ؟”
قالَ بصوتٍ بارد، فشدَّت يدَها التي تحملُ الشمعة.
“…كنتُ عطشانة.”
“سأحضرُ لكِ ماءً.”
كانَ ينبغي أنْ تقولَ لا حاجة، لكنَّ الجوَّ كانَ مخيفًا جدًّا.
هزَّت رأسَها بخفةٍ وتراجعت.
وقفَ حارسًا على البابِ يتأكَّدُ من إغلاقِها بإحكام.
كانت عيناهُ تلمعانِ من خلفِ الفتحة.
عندما أغلقَ الباب، تنفَّست ليتيسيا الصعداء.
“…ها.”
كانت محاصرةً في عينَيْه، لا تستطيعُ الحركة.
فقط فكرةُ أنَّه ربَّما كانَ ينوي قتلَها أزاحت عنها النومَ تمامًا.
—
غطَّت كريستين فمَها بقوة.
لم يُصدرْ صوتًا، لكنْ عندما فتحت ليتيسيا الباب، صُعقت تمامًا.
لم تكن وحدها المندهشة، كانَ كاليوس كذلك.
لو لم يكن كذلك، لكانَ قد أخفى السكينَ مبكرًا.
“سيّدتُي ستسيءُ فهمَ الأمر.”
“أعلم.”
كانَ صوتُ كاليوس هادئًا بشكلٍ مخيف، كأنَّه لا يمانعُ سوءَ الفهم، أو يعتبرُه طبيعيًّا.
لم تستطعْ كريستين فهمَ نواياه.
كانَ عقلُه غامضًا كما كانَ عندما أتى بها.
كانَ هناكَ نظرةُ مظلومٍ في عينَيِ القاتلِ الذي لم يستطعِ الفرار.
كانَ ما فعلَه فقط دخولُه إلى النزل.
لكنْ كاليوس وجدَ السكينَ وسمومَ الاغتيالِ في حوزتِه وطردَه.
حينَ فتحَ بابَ ليتيسيا فجأة.
“ألا يجبُ تهدئتُه؟”
“لا حاجة.”
كانَ كلامُه حازمًا جدًّا، حتّى شعرت كريستين بالخذلان.
كانَ كاليوس يعلمُ جيّدًا ما يجبُ أنْ يفعلَ وما لا يفعل.
على الأقلِّ الآن، تهدئةُ ليتيسيا المذعورةِ لم تكن من مهامِه.
رأى بوضوحٍ نظرةَ الخوفِ في عينَيْها.
‘مزعجٌ حقًّا.’
لكنْ حتّى لو كانَ ذلك، لكانَ الأمرُ مختلفًا لو لم تصلِ الأمورُ إلى هذا الحدّ.
أيقظتْه كلمةُ كريستين من تفكيرِه.
“ماذا نفعلُ بهذا؟”
“تخلَّصي منه.”
أمرُه القصيرُ دفعَ القاتلَ إلى محاولاتٍ يائسةٍ قبلَ أنْ تضغطَ كريستين بقوةٍ على نبضِه وتجعلَه يفقدُ الوعي.
كانَ الباقي سهلًا.
لوَّحت كريستين بلسانِها وهي تنظرُ إلى ظهرِ كاليوس.
“حقًّا، لا أستطيعُ فهمَه.”
لو كانت مكانَها، لكانت أوّلَ ما تعتني به هو تهدئةُ سيّدتِها.
اعتقدت أنَّ كاليوس ماكسيس لن يصبحَ أبدًا رجلًا شهمًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 11 - من الفصل الحادي بعد المائة إلى الفصل الخامس بعد المائة «النهاية». 2025-09-08
- 10 - من الفصل الحادي والتسعين إلى المائة. 2025-09-08
- 9 - من الفصل الحادي والثمانين إلى التسعين. 2025-09-08
- 8 - من الفصل الحادي والسبعين إلى الثمانين. 2025-09-08
- 6 - من الفصل الحادي والستين إلى السبعين. 2025-09-08
- 5 - من الفصل الحادي والأربعين إلى الخمسين. 2025-09-09
- 5 - من الفصل الحادي والخمسين إلى الستين. 2025-09-08
- 4 - الفصل الحادي والثلاثين إلى الأربعين. 2025-09-05
- 3 - من الفصل الحادي والعشرين إلى الثلاثين. 2025-09-05
- 2 - من الفصل الحادي عشر إلى العشرين. 2025-08-21
- 1 - من الفصل الأول إلى العاشر. 2025-08-21
التعليقات لهذا الفصل " 1"