5
الفصل الخامس
ملاحظة خفيفة، غيرت في اسماء المنظمات زي لاشبالين بقت راشوفالن فهتلاقوا إختلافات.
**
“لماذا كتمتَ كونك تستطيع استعمال السحر؟”
“أنا رجل يهاب الاختلاط بالناس، فلا أبوح بشأني لأحد.”
“صدقتَ. فأنا، وأهل القرية جميعاً، ما عرفنا عنك إلا النزر اليسير. وما كان في استطاعة قوتي وحدها أن تصون هذه القرية، فلما كانت المَسُوخ تغزونا احتجنا إلى امرئ يحسن إطلاق طاقة السيف، لذلك لم أسألك قط: من تكون يا آيريس؟ كنتَ تبدو كمن يُخفي في صدره كثيراً من الأسرار، ولو افتُضح بعضها بين القوم لربما اضطُررتَ لمغادرة هذه الديار.”
“فبكلام آخر: أما الآن فقد زال احتياجك إليّ؟”
لم تُجبه ليزيل، بل اكتفت بأن ابتسمت ابتسامة رقيقة.
“أين هو الوسيطُ المُضاعِف الذي تستعمله حين تطلق السحر؟”
“أي هراء هذا الذي تنطقين به…؟”
حاول آيريس أن يتملص، غير أن ليزيل أجابته بصوت واثق حاسم:
“أترغمني أن أشرح مثل هذا أيضاً؟ سواء كان حجراً سحرياً أو شيئاً غيره، فلا بد لك من وسيط يُضخِّم قواك لتطلق السحر. فأين هو؟”
“ومن يدري؟ لعلّه في مكان ما.”
قهقهت ليزيل بسخرية على قوله.
“ولم لا تشرح إذن؟”
“أيُعقل أن يُصرِّح امرؤ بما قد يُتَّخذ عليه مأخذاً وضعفاً؟”
“لا، ليس ذلك السبب. بل لأنك لا تملك وسيلةً مُضاعِفة كهذه، لذا عجزت عن الجواب، أليس كذلك؟”
“ما الذي ترمين إليه؟”
“كفى، يا آنسة ليزيل. تنحّي جانباً.”
عندها تقدّم رجل ضخم الجثة ووقف أمام ليزيل.
“أنا لوكام، قائدُ فرسان الهيكل التابعين لهيكل الصقيع.”
“قائد؟”
لم يُعر لوكام انتباهاً لتمتمة آيريس، بل صدع بصوت مهيب:
“أظهِر حقيقتك، أيها العدو الأكبر للرهبنة. إن مجرد وجودك خطيئة، وأنت كيان دنِس شرير، أشنع من الشياطين أنفسهم، أيها الدركايد النجس. في هذا الموضع نفسه سأُنزل بك العقوبة.”
ظل آيريس شاخص البصر، يصغي إليهم، حتى انفلت منه ضحك قصير ساخر.
“لا تخشون قذف التهم في وجهي مباشرةً، ها؟ أما زلتم تصطادون الدركايد؟ أوتعلم راشوفالن بهذا؟ لقد رأيتُها اليوم تصحبكم.”
“إذن، بقولك هذا تقرّ أنك دركايد؟”
ولمّا كان لوكام لا يسمع إلا ما يوافق غرضه، احتدم آيريس وردّ بغضب:
“أيعني إقراري أو إنكاري شيئاً؟ أنتم في الأصل لا تسمعون كلمتي ولا تُصدّقونها! هكذا كنتم دوماً، لا تُصغون لأحد!”
لكنهم ما ردّوا عليه، بل سحبوا سيوفهم وضربوه بها.
وكان جميعهم أولئك الذين رآهم في النهار. رجال يزعمون أنهم مخلصون للناس، وما إن دخلوا بحجة جلب المؤن حتى كشفوا نواياهم.
الدركايد.
إن كل بني الإنسان يعيشون تحت بركة سيدة الصقيع. وهذه السيدة، التي اتخذوها حامية لهم، ما فتئت تُفيض على الناس همساتها كي يعيشوا في سلام وخصب.
فكان البشر يسلكون حياتهم بحسب وصاياها.
غير أنّه قبل مائة عام ظهر كائن لم تذكره قط.
أولئك هم الوحوش التي فجأة هاجمت، وسُمّيت لاحقاً “المَسُوخ”.
وفي ذات الحقبة ظهر أيضاً بشر أجنحة نبتت في ظهورهم. فأطلق عليهم هيكل الصقيع اسماً غامضاً: “دركايد”، أي “المجهول”.
كان الدركايد بشراً، لكنهم تحرروا من القيود المعهودة، وأمكنهم إطلاق سحر جبار بلا وسائط أو مضاعفات.
حتى الحارسات اللواتي لم يقدرن على التنبؤ بمستقبلهم.
فبشرٌ هُم، لكنهم ليسوا تحت سلطة فيزياء البشر. ولهذا السبب مقتهم الهيكل ونفر منهم الناس الذين فزعوا من قوّتهم. فظلّ الدركايد خلال مائة سنة يعيشون في الظلال، قلّةً قليلة تكشف عن وجودها.
ومَن امتلك قوة تخالف الناس كان عُرضة للاستغلال. ثم إنهم كانوا قلّةً نادرة، فلا يستطيعون مجابهة قوة الجماعة ولا الرأي الغالب. وزاد البلاء أنّ في الهيكل من كان متطرّفاً يخرج “ليصطاد” الدركايد. وظنّ آيريس أنّ هذه الأفعال خفّت في الآونة الأخيرة، فإذا بهم يعودون لممارستها في الخفاء.
‘ما العمل؟ لا سبيل للعيش هنا بلا سحر.’
هكذا لام آيريس نفسه في سرّه.
‘فحتى أنا لا أستطيع مواجهة غابة تضجّ بالمسوخ بسيف وبندقية فحسب.’
كان انكشاف أمره على ليزيل مسألة وقت، غير أنّه لم يظن أن تجلب الحارسة فرسان الهيكل معها حتى هذه القرية المنيعة.
“كنتُ أظنكِ حارسةً طيبة لا غير.”
ضحك آيريس بمرارة متذكّراً اجتهاد ليزيل في تولي أمور القرية صغيرها وكبيرها.
“صدقتَ، فأنا أعين البشر. وذلك عهدي على نفسي. أما أنت فَلستَ بشراً.”
“بل أنا بشري.”
“وأجنحتك التي لا تقربنا في شىء ، ما لونها يا دركايد؟”
“قلتُ لك… أنا بشري.”
“ها، عليّ أن أشكرك على أمر واحد. فقد تجاهل الهيكل إستغاثتي طويلا، حتى إذا بُحتُ لهم بقصتك أرسلوا الفرسان سريعاً. وهكذا صرتُ قادرة على مغادرة هذه القرية.”
رمقته ليزيل بنظرة باردة، ورفعت يدها. فأشار لوكام بدوره، وعادت المعركة بين آيريس والفرسان بعد هدنة قصيرة.
صدّ آيريس ضرباتهم، متذمّراً. فلو استعمل السحر الآن لكان ذلك خطأً قاتلاً، إذ لو ظهر جناحاه أمام الناس لوجب أن يقتلهم جميعاً ليكتم السر.
“تذكّرتُ. يوم دخلت عميلة راشوفالن إلى القرية صدفةً… لو علمت هي أيضاً بحقيقتك، ألا يُصبح الأمر بالغ الحرج؟ لهذا أرسلتُها وحدها إلى الغابة لتُقتل، غير أنّها عادت حيّة. فنجوتَ أنت أيضاً بفضلها.”
‘فإذاً أليس الأجدر أن تُتَّهم تلك المرأة بأنها دركايد؟ ما هذا الظلم؟’
هكذا خطرت الفكرة في بال آيريس وهو يصدّ الضربات.
ثم صرخ وهو يشير بإصبعه إلى لوكام:
“معذرةً، سؤال صغير. هل القائد أنت وحدك؟”
“أجل، لأنّها مطاردة دركايد وجب عليّ الحضور بنفسي…”
“لا، لا. قصدي: إذا كان قائد واحد ومعه عشرون فارساً نخبوياً فقط، أليس هذا تسرعاً؟”
وقبل أن يستفهم لوكام عن قصده، دحرجت على الأرض أسطوانة حديدية تُصدر طنيناً معدنيا.
“؟!”
جذب ذلك أنظار الجميع. وفجأة انفتحت من جانبيها، فانبعث منها دخان خانق كالسيل. تلاشت الرؤية، وأخذت الأعين تدمع والأنوف تسيل. وفي تلك اللحظة اختطف أحدهم ذراع آيريس وجذبه بعيداً.
“هلمّ إلى هذا الطريق!”
لم يعرف آيريس من هو أو ما غرضه، غير أنه تبعه بلا مقاومة ليتفادى الخطر.
“أأنت بخير؟”
وما زالا يعدوان طويلاً حتى وصلا إلى هواء نقي. هنالك فقط تبيّن آيريس ملامح منقذه.
“ميريا… كَح… يا جانستر؟!”
ناولته ميريا قِربة ماء ليمسح وجهه، فاستعاد بصره. وكانت في هيئة قريبة من التي رآها في النهار، غير أنها الآن تحمل سيفين، وتُخفي مسدساً في صدرها، وتحمل أسلحة أخرى.
كان موضعهما تحت حافة حقول القرية.
“الحمد لله أنك بخير. أحسستُ أنّ القوم من الهيكل يُدبّرون أمراً خطيراً، لذا كنتُ متربصةً، فوقع كما توقعت. لا أقصد أنّ ما حصل خير، بل أن حدسي أصاب.”
حدّق آيريس فيها بصرامة.
“من تكونين؟ وما مقصدك؟”
“أهكذا تكافئ من أنقذك؟”
وأشارت إليه بطرف سيفها هازّةً رأسها.
“لا تخشَ، فما أنقذتك إلا لأعينك. أنت الآن في مأزق، أليس كذلك؟ سأساعدك.”
لكن آيريس ضرب نصلها بخفة بسيفه، وصاح:
“ولِمَ أنتِ؟”
فلما طرح الألفاظ المؤدبة جانباً، غيّرت ميريا لهجتها مثله.
“أيمكن أن أرى الهيكل يصطاد دركايد وأقف متفرجة؟ نسيتَ أنّي من راشوفالن؟ أي: الرابطة الكونية للكائنات العاقلة. وأنت دركايد، كائن عاقل، أم لستَ كذلك؟ إن كانت لك عقلانية الإنسان فدعني وشأني.”
“أتعاونينني لأجل هذا فقط؟”
“أتقول ‘فقط’؟ منذ متى كان إعانة الإنسان للإنسان أمراً حقيراً؟”
وقد بدت على ميريا غصة حين ردّت، كأنها أصيبت في مقتل. غير أن آيريس لم يبالِ بكلمتها.
“حسناً، فما الذي تستطيعين فعله لأجلي؟”
أومأت ميريا برأسها، وتطلعت من فوق الجرف تراقب حركة الفرسان. بدا أنّ تأثير القنبلة الدخانية قد زال.
عادت وجلست بجانب آيريس تفحص تضاريس الأرض.
“أستطيع أن أفتح لك طريق هروب.”
“الهرب لا ينفع. لا ينبغي أن يبقى شهود. يجب أن يُباد الفرسان جميعاً.”
تنهدت ميريا طويلاً وقالت:
“كنتُ واثقة أنك ستقول هذا. لذلك جئتُ معهم وحدي، مجبرةً نفسي على مرافقتهم. لكن بالله عليك، أهو ضروري؟ لا تقتلهم.”
التعليقات لهذا الفصل " 5"