4
قالت له:
“أولئك هنالك يزدحمون، وأنت وحدك في ناحية، وكأنهم قد هجروك، وهذا منظر لا يليق.”
ثم أردفت:
“وعلى كل حال، أيليق بك أن تخاطب من أنقذ حياتك بذلك الجفاء؟ نحن قد تبادلنا التعارف، فهلا دعوتني باسمي؟”
فقال:
“ومذ متى غدوتِ، يا مِرِيَا، منقذة حياتي؟”
قالت في حدة:
“ومهما يكن، فقد كان إنقاذي لك إنقاذًا شئت أم أبيت. وعلى أية حال، وكما قلت لك، فأنا أتصرف وحدي، فالأَولى بك أن ترعى أمر رجال الهيكل الديني أولًا. أنظُر، تلك السيدة الكاهنة تعمل وحدها!”
فقال باستخفاف:
ـ “سيجدون لأنفسهم مأكلًا، فدَعْهم.”
ثم ألقى آريس ببصره يعدّ رجال الجماعة الكهنوتية، فرأى أن المسلحين منهم وحدهم يزيدون على خمسة عشر رجلًا، ومعهم زهاء خمسة آخرين، فالمجموع نحو عشرين نفسًا. ولا ريب أن عبورهم غابة الوحوش الملوّثة حملهم على إحكام العُدّة. وأما فريقه هو…
قالت ميريا ساخرة:
“أهذا رجل راشد؟ حتى الطعام لا يستطيع أن يأكله وحيدًا!”
ثم حلّت من خصرها حزامًا يعلّق عليه سيفان، ووضعتهما إلى جوارها، وجلست جلوسًا أريَح. أما آريس، فقد ألقى نظرة على سيفيها بطرف عينه. كان هو أيضًا يفضل السيف، غير أنه لما دخل الغابة، أخذ معه بندقية عتيقة تحسبًا، فذلك خيرٌ من لا شيء.
وإن كان عبوره غابة الوحوش المفسَدة وحده لا يدل على عجزه عن الأكل منفردًا، إلا أن ترك الضيف يأكل وحده أمر لا يليق بالعرف، خصوصًا في أرض “مايْرِيَن” التي يُعظّم فيها إكرام الضيف حتى لو بلغ الأمر البكاء الجماعي إن أهمل أحدهم.
قالت:
“على كل حال، فإن طعام هذا البلد لذيذ، فإني إن وُهِبته أكلته شاكرة.”
فتناولت الملعقة والقصعة، وألقت تحية مقتضبة، ثم أخذت تأكل بنشاط.
قال آريس:
“ومتى تنوين العودة؟”
ابتلعت ما في فمها وقالت:
“سأرحل مع جماعة الهيكل حين يرتحلون، وسمعت أنهم لن يغادروا الليلة، بل غدًا.”
فاطمأن في نفسه لأنها لم تذكر أنها سترجع وحيدة. ثم أخذ يفكر: لم كان عليه أن ينشغل بأمنها أصلًا؟
قال:
“نعم، فالمضي وحدك في هذا الوقت خطر…”
قالت:
“ثم إن سيري مع القافلة الكهنوتية ربح محض؛ فالناس يخدمونني وإن جلست ساكنة.”
قال:
“لكنّك تقولين إنك لست على صلة بهم!”
قالت مبتسمة ببرود:
“ولهذا أرافقهم. أما إذا كنا أصدقاء، فحينها يلزمني أن أساعدهم.”
ثم سألها:
“أوجَدتِ مأوى لليلة؟”
قالت:
“أنا أنام في أي مكان.”
فأطرق برهة وقال:
“الأفضل أن تبيتِي في مكان صالح، فهذه القرية ـ وإن بدت لك هادئة ـ ليست ممن يضيّق على الضيف. وإن شئتِ، فبيتي مفتوح لك، وإن كانت الغرفة تضيق على شخص واحد.”
قالت:
“لا أريد أن أثقل عليك. ثم إنك إن أسكنتني، فأين ستنام أنت؟ أما أنا فسأنام في صندوق شاحنتي، فرأسي على متاعي، ومتاعي عندي.”
أفرغت ميريا قصعتها ورتبت أوانيها، وكذلك فعل آريس. ثم بادرت تسأله:
“وما عملك هنا، يا آريس؟ لست من أهل هذه الديار، فلا بد أن العيش لم يكن يسيرًا.”
قال:
“أصطاد في الغابة، وأحيانًا…”
ولم يُتم الجملة، إذ لم يجد ما يضيفه. فإن ما كان يفعله في القرية لا يُعَدّ عظيمًا، بل هو جهد يسير يكفيه قوت يومه. وقد كان، في بادئ الأمر، يعلّم بعض الصغار شيئًا من الدروس، لكنه أدرك أن مثل هذه المعارف لا تنفع في مثل هذا الموضع، فانقطع عنها.
فالتزم الصمت، وفهمت ميريا، فلم تُلحّ، بل سألت:
“هل مكثت هنا طويلًا؟”
قال:
“كلا، جئت لأنوي قضاء فصل واحد.”
قالت:
“والآن قد أطلّ الخريف…”
قال:
“نعم… وقد آن أوان الرحيل.”
قالت:
“أتغادر إذن؟ فهلا رافقتني غدًا؟”
قال:
“لا.”
قطعها بحزم، لكنها لم تُبدُ الخيبة، بل هزّت كتفيها. ثم قام وجمع الأواني، وجعلها مع أوانيها، وأومأ لها أن تبقى وتستريح.
قال:
“أكرر، لا تبيتي في العراء، فالقرية أأمن لك.”
قالت:
“ليس امتناعًا عن كرمك، ولكن متاعي في الشاحنة عزيز عليّ، وأخشى أن أتركه.”
فلم يُلحّ عليها. ولوّحت بيدها، ومضت إلى حيث أوقفت شاحنتها في طرف القرية.
—
حلّ الليل، وخمدت أصوات القرية التي كانت قد ضجّت بقدوم الضيف الغريب. وغرقت الأرجاء في السكون، لا يقطعه إلا عواء الوحوش المفسَدة من حين لآخر.
أطفأ آريس المصباح، وتمدد في فراشه دون أن ينام. ثم التفت على جنبه، وضَمّ ركبتيه، وسرح في خاطره:
“أإلى حدود المملكة أذهب؟…”
فانطلقت من أنامله شرارات زرقاء، وأخذ يرسم في ذهنه خريطة.
“لعلّي إن سرت بمحاذاة الأراضي الملوثة، سلمت من المتاعب.”
تنقّل البرق بين أصابعه محدثًا طقطقة خفيفة، وأخذ يتمتم:
“إن أحسنت إخفاء قوتي السحرية، استطعت أن أتحمل حتى دون درع القوى المقدسة.”
كان يُعمل فكره في ما بعد خروجه من القرية، لكنه لم يكن على بيّنة مما آل إليه حال المناطق الملوثة في غيابه. ورأى أن خير ما يصنع هو أن يستقي الأخبار من رجال هيكل الصقيع الذين وفدوا حديثًا، وإن لم يكن ينوي مرافقتهم.
ثم جال في خاطره سؤال: أهو محض مصادفة أن يجيء “راشوفالين” وهيكل الصقيع معًا إلى هذه القرية؟ لم يستبعد أن وراء الأمر مكرًا خفيًّا. فأيقن أن ساعة الرحيل قد أزفت.
وإذ به يسمع طرقًا على الباب. وكان قد شعر بقدوم أحدهم، فلم يُجب، إذ لم يكن من عادته أن يُزار في مثل هذه الساعة.
جاء صوت “ليزيل” من الخارج:
“آريس، أأنت هنا؟”
ثم طرقت ثانية وثالثة، وقالت:
“إن كنت هنا، فاعذرني على الإزعاج ليلًا، ولكن أيمكنني أن أراك قليلًا؟”
ورأى ظلًا يمر قرب النافذة. وإن كان الصوت صوت الكاهنة، إلا أنه شعر بوجود آخرين معها؛ ربما من أهل القرية أو من رجال الهيكل. فقد يكون الأمر شأنًا طارئًا… وربما لا.
مدّ يده تحت الفراش، وأمسك بسيفه، وانسحب من فراشه بهدوء، مخفضًا قامته.
ثم خفت صوت خطواتها وهي تبتعد عن الباب. فتنفس بعمق، وأرخى قبضته عن مقبض السيف… غير أن النافذة تحطمت، وتدحرجت إلى الداخل كرة حديدية صغيرة.
قال في نفسه:
‘سحقا!’
ولم يسعفه الوقت لردّها، فغطّى رأسه بذراعيه، وإذا بها قنبلة تنفجر، فيدوّي صوتها، ويطنّ أذناه، وتتناثر الشظايا في الجدران والأثاث، ويُقتلع الباب. ولو كان إنسانًا عاديًا، لهلك في الحال.
غير أن الغبار لمّا انقشع، كان آريس واقفًا، سالم الأطراف، ينفض عن نفسه الحطام، وقد تلاشت حوله هالة سحرية كان قد مدّها كدرع ليتقي بها الانفجار.
قال ساخطًا وهو ينظر إلى ثوبه الممزق من الجانب:
“أي جرأة هذه؟ لقد أفسدتُم ثيابي.”
فجاءه صوت مألوف:
“آه، كما توقعت.”
وكانت ليزيل واقفة إلى جانب ما تبقى من الباب، تحدّق فيه ببرود:
“أنت لست مجرد مبارز، بل تستعمل السحر أيضًا؟”
وتقدّم رجلان مسلحان بالسيوف، واندفعا نحوه. لكنه لم يتصدَّ لهما، بل قفز من النافذة المكسورة إلى الخارج، فإذا هو محاط برجال مدججين بالسلاح. وجاءه هجوم من جانب، فصدّه بسيفه الذي كان يخفيه وراء ظهره.
وكان خصمه من رجال الهيكل الذين رآهم على مائدة العشاء. ثم هجم آخر، فتقاطع السيفان في صراع قوة، واندفع سيف ثالث من جهة أخرى، فتراجع آريس متفاديًا.
قال ساخرًا، وهو يصدّ الضربات:
“أيها الحارسة، أهذا طقس الترحيب الجديد في هيكل الصقيع؟ إلقاء القنابل على النائمين، ثم طعنهم بالسيوف؟”
ثم أضاف، وهو يلوّح بسيفه مزلزِلًا هجمات خصومه:
“لكنني، لا أجد في ذلك متعة!”
وفي لحظة، ضرب بسيفه ضربة قوية أطاحت بعدة سيوف دفعة واحدة، فتراجع المهاجمون خطوة، وصاروا في حال مواجهة. عندها رفعت ليزيل يدها فأشارت إليهم أن يكفّوا.
꧁꧁꧁꧂꧂꧂
للإنضمام لقناتي على التيليجرام يرجى مراسلتي
@Thefighterprincess
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"