لقد اسودت السماء من دون أن تنتبه، وعلت في منتصفها قمر أبيض، بينما النجوم بقيت محافظة بإخلاص على مواقعها.
لم تعد جايين إلى مقرها إلا بعدما جنّ الليل، وأفلت منها تنهيدة دون وعي.
الوعد الذي قطعه دان تيمو، بأنه سيتركها ترتاح بمجرد أن تلقي التحية على والد الملك، صار كلامًا في الهواء.
فقد كان أحد الوزراء الكبار، ومعه زوجاته اللواتي يحملن الهدايا الفاخرة، في انتظار الاثنين.
لم يفعلوا سوى الجلوس بلا كلام، لكن ذلك وحده كان كافيًا لأن تشعر جايين وكأن روحها تغادر جسدها من شدة الإرهاق.
ربما يكون عدد الأشخاص الذين قابلتهم اليوم وحده أكبر من عدد من قابلتهم طوال حياتها.
أرخَت جايين كتفيها المتصلبين طوال النهار، وشعرت بجسدها يثقل ويترهل.
هل سأستطيع فعل ذلك حقًا؟
لم يكد السؤال يخطر ببالها حتى خيّم على ملامحها ظل من الكآبة.
أوه…
لكنها سرعان ما انتبهت لوجود وصيفات القصر حولها، فأعادت بسرعة قناعها الخالي من التعبير.
المقر المنعزل الذي كانت تعيش فيه كان دائمًا هادئًا، لا يزوره سوى بضع وصيفات مسنات.
لم تقف يومًا أمام جمع من الناس، ولم تحضر مناسبات القصر الكبيرة والصغيرة مثل باقي الأميرات.
ذلك لأن الإمبراطور الطموح كان يخفيها بعناية شديدة.
وكلما فعل ذلك، ازدادت الشائعات حول “الأميرة المحتقرة”، لكنها لم تكن تكترث.
كانت متعتها الوحيدة هي الإصغاء لتهويدات أمها، أو قراءة الكتب التي تجلبها لها الوصيفات.
وأحيانًا، حين يشتد بها الملل، كانت تتمشى في الفناء الأمامي،وحين تفيض بما تريد قوله، كانت تتحدث مع عصفور صغير على الغصن أو مع شجرة عنيدة.
لكن على عكسهم، كان الناس هنا كثيري الكلام.
كان على عقل جايين أن يعمل أكثر من المعتاد لتفهم المعاني الخفية في أقوالهم،
وكان مجرد محاولتها لإخفاء ارتباكها ينهكها حتى حافة الانهيار.
برد…
هواء بارد لامس مؤخرة عنقها، فضمّت كتفيها لا إراديًا.
في الإمبراطورية كانت نسائم الربيع قد ملأت الجو بالفعل، لكن هنا ما زالوا على أعتاب أوائل الربيع.
ربما لأن هذه البلاد تقع في الشمال أكثر بكثير.
ومع غروب الشمس، انخفضت درجة الحرارة فجأة.
جعلها البرد النافذ إلى العظم تنكمش غريزيًا، لكنها بعد لحظة اعتدلت في جلستها عمدًا.
كان من المحرج أن ترتجف وحدها بينما الوصيفات بثيابهن الأخف يبدين غير مباليات.
عضّت جايين شفتها السفلى بإحكام.
عليّ أن أصبح قوية… لا وقت لارتجاف كهذا من البرد.
كانت الوصيفات قد فككن زينة شعرها بخبرة، ومددن أيديهن نحو لباسها.
“انتهت تحضيرات الحمام، سنساعدك في خلع ثيابك.”
في تلك اللحظة—
طَق.
أبعدت جايين اليد الممدودة بشكل تلقائي.
“!”
اتسعت عينا الوصيفة المصفوعة على يدها بذهول، وساد الغرفة صمت محرج.
عضّت الوصيفة شفتها وخفضت يدها، لكن الشخص الأكثر ذهولًا كان جايين نفسها.
لم تكن تنوي ذلك، فقد ارتعبت فقط من يد اقتربت منها بلا إنذار.
أخفت بسرعة ملامح الذهول، وتحدثت ببرود مصطنع:
“لا بأس. سأكمل الباقي بنفسي، يمكنك الانصراف.”
“لكن…”
حاولت إحدى الوصيفات قول شيء، لكن جايين كانت قد بدأت تتحرك مبتعدة، كأنها تهرب.
وقفت عند مدخل الحمام الملحق بالغرفة، واستدارت نحوهن:
“أفضل أن أستحم على راحتي بمفردي، لذا أرجو أن تتركن الغرفة.”
وأغلقت الباب خلفها.
الوصيفات اللواتي بقين يحدقن بذهول تبادلن التذمر أخيرًا:
“لا تريد منا مساعدتها في تبديل ملابسها، ولا حتى في الحمام… يبدو أنها لا تحتمل لمسنا.”
“إنها ابنة الإمبراطور، لا بد أنها ترى نفسها أرفع من ذلك.”
رغم أنهن خفضن أصواتهن، إلا أن جايين، الواقفة خلف باب الحمام، سمعت كلماتهـن بوضوح.
لم يكن لديها رغبة في تبرير نفسها، ولا في توبيخهن.فهي لم تتوقع أي شيء من هذا المكان ولا من أهله— فالتوقع لا يجلب سوى الخيبة.
“في النهاية، لا أحد يستطيع حمايتي غيري. لا تحاولي الاعتماد على أي شخص آخر.”
لم يكن هناك من يحب فتاة لم يتبقّ منها سوى حقد قبيح ملتف كجذع شجرة ملتوية.
إذًا، عليها أن تصبح قوية بنفسها.
وقفت جايين للحظة، ثم بدأت ببطء في خلع ملابسها.
سَررر…
سقطت قطع الثياب واحدة تلو الأخرى، وانكشف جسدها الأبيض الخالي من الشوائب.
لكن ما إن استدارت، حتى ظهرت على ظهرها بوضوح آثار الجروح القديمة والجديدة—
ندوب باهتة، وأخرى ما زال الاحمرار فيها لم يزُل.
علامات الجلد الطويلة الأمد كانت سرًا لا تريد لأحد أن يكتشفه،لأنها كانت الدليل على أنها ليست شخصًا عاديًا.
تَشَلّب.
مدّت ساقيها إلى حوض الاستحمام، وعندما غمرت جسدها في الماء الدافئ، بدأ التوتر يتلاشى تدريجيًا.
أسندت ظهرها إلى حافة الحوض وأغمضت عينيها، حتى أن ندوبها التي كانت تنكمش وتتقلص ارتخت قليلًا.
تَشَلَب… تَشَلَب…
رفعت يدها برفق ونقرت بأطراف أصابعها سطح الماء،فتناثرت قطرات صافية، تتقافز بخفة كأنها تغني.
“لو أن الذكريات يمكن أن تُمحى كما يغسل الغبار، لكان الأمر رائعًا.”
تلاشى حديثها الموجه إلى نفسها، الذي لم يكن ليستمع إليه أحد، وسط صوت المياه المتلاطمة.
فتحت “جايين” عينيها بعد أن كانتا مغمضتين، ومسحت وجهها بيد مبللة،وكأنها تحاول غسل الذكريات التي ترغب في نسيانها، مرة تلو المرة.
لكن تلك الذكريات التي التصقت بعناد لم تتحرك من مكانها قيد أنملة.
……………
كان “دان تيمو” يسير في الممر حين لمح أربع وصيفات مجتمعات أمام إحدى الغرف، فبطأ خطواته.
لم يكنّ يدرين أنه يقترب، إذ كن مشغولات بالثرثرة.
“ما الأمر هنا؟”
التفتت الوصيفات بسرعة بعدما أدركن وصوله، واصطففن في خط مستقيم منحنِيات الرأس.
“سموك ولي العهد.”
“لماذا تتركن سيدتكن وحدها وتقفن أمام الباب للدردشة؟”
لم تكن نبرته توبيخية، بل جاء سؤاله هادئًا، بل وفيه لمحة ود.
إحدى الوصيفات، وقد تذكرت لطف ولي العهد، تجرأت قليلًا وقالت:
“يبدو أن سموّ وليّة العهد لا ترغب في أن نقوم بخدمتها.”
غزتها الوصيفة التي بجانبها بكوعها في خاصرتها.
فرمقتها تلك نظرة مستاءة وكأنها تقول: “وهل قلتُ شيئًا خاطئًا؟” وهي تبرز شفتها السفلى.
ألقى “دان تيمو” نظرة فاحصة عليهن واحدة تلو الأخرى. كن جميعًا يرتدين الجاكيت الأخضر.
الوصيفات في القصر يرتدين ورديًا باهتًا أو أخضر أو أزرق وفقًا لسنوات خدمتهن، وهذا اللون كان يخص الوسطيات منهن.
وكان من المتوقع أن تكون هناك وصيفة عليا ترتدي الأزرق الداكن لخدمة وليّة العهد، لكن “دان تيمو” استبدلهن جميعًا في اللحظة الأخيرة.
فلو كانت الملكة ذات الطبع الحريص، لأدخلت إحدى وصيفاتها المواليات إلى خدمة وليّة العهد.
ولهذا السبب لم تكن الوصيفات اللواتي تم إرسالهن فجأة إلى جناح وليّة العهد يمتلكن خبرة الوصيفة العليا.
حتى إنهن تجرأن على التحدث عنها أمام ولي العهد.
“لا ترغب في أن تُخدَم؟ ولماذا تظنين ذلك؟”
“حاولنا مساعدتها في تبديل ثيابها لكنها قالت إنها ليست بحاجة، وحتى حين عرضنا مساعدتها في الاستحمام، طلبت منا المغادرة. يبدو أن سمو وليّة العهد القادمة من الإمبراطورية لا ترغب حتى بلمسة منّا.”
“أون جينا!”
نادت الوصيفة التي بجوارها اسمها بنبرة لوم،
لكن “أون جينا” اكتفت بإبراز شفتيها متجاهلة نصيحة زميلتها.
ظل “دان تيمو” يحدّق بصمت في الباب المغلق.
حتى في وقت سابق من اليوم، كانت قد صرفت الوصيفات وبدّلت ملابسها وحدها.
لماذا؟
تملكه فضول مفاجئ. ضيق عينيه قليلًا غارقًا في التفكير، قبل أن يقول بنبرة لينة:
“يبدو أن هناك سوء فهم. ربما أرادت بعض الوقت بمفردها لأنها متوترة في هذه البلاد الغريبة. سأدخل وأتحدث معها.”
“… نعم، سموك.”
حتى “أون جينا” التي كانت ترد ببرود قبل لحظات، انحنت له باحترام.
ابتسم “دان تيمو” ابتسامة خفيفة للوصيفات ومضى بخطواته. بدا أنه سيتعين عليه جلب وصيفة عليا لإدارة شؤونهن.
لكن، هل هناك من يناسب ذلك؟
وحين دخل الغرفة، فُتح باب الحمام في الداخل وخرجت “جايين”.
كانت تجفف شعرها المبلل بقطعة قماش، لكنها توقفت لحظة حين رأت “دان تيمو”.
التعبير الذي كان قد لان قليلًا على وجهها تجمّد من جديد.
انزلقت عيناه ببطء من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها، وارتفع حاجب واحد.
“يبدو أن هذا زي نوم من الإمبراطورية؟”
كان بصره قد وصل إلى قدميها ثم توقف عند ثياب النوم.
كانت ترتدي ثوب نوم من بلدها، ضيقًا ويلتصق بجسدها، بدلاً من الثوب الفضفاض الخفيف الخاص بـ”ليو”.
استأنفت “جايين” خطواتها بصمت، وراقبها “دان تيمو” بعينين يملؤهما ابتسام واهٍ.
كانت الوصيفات يمتدحن لطفه، لكن ذلك لم يكن سوى قناع صُنع بإتقان.
في الواقع، كان أكثر برودة من أن يكون ودودًا، وأكثر قسوة من أن يكون مهذبًا، وأشد لامبالاة من أن يكون رحيمًا.
وقد ظن أن “جايين” أمامه تحمل من الأسرار ما يوازي أسراره هو.
لم يكن من الممكن قراءة ما يدور في ذهنها خلف ذلك الوجه الخالي من التعبير.
“منذ اليوم الأول، وأنتِ تستخدمين زي النوم الإمبراطوري… يبدو أنك تشتاقين إلى الوطن بالفعل. أجل، فمن الطبيعي أن تشعري بذلك وأنتِ وحيدة في أرض غريبة.”
ارتسمت على شفتي “جايين” ابتسامة ساخرة باردة. لم يكن الأمر كما قال.
بل على العكس، كانت ترغب في أن ترقص فرحًا لخلاصها من تلك الأرض البغيضة.
“لم أعتد سوى على ملابس النوم من موطني.”
في الحقيقة، كانت ملابس النوم في “ليو” رقيقة للغاية، لكنها ابتلعت تلك الكلمات وتصنعت اللامبالاة.
لم ترغب أن تبدو ضعيفة، ولهذا تكيفت مع البرد القارس بارتداء ثوب نوم سميك بدلًا من طلب إشعال المدفأة.
اتكأ “دان تيمو” على الحائط بكتفه، وذراعاه معقودتان، وعيناه تراقبانها كما لو كان يزن صدق كلامها.
كانت عيناه العميقتان حد البُعد تعكسان دفئًا غريبًا لا يتلاءم مع الموقف.
ثم تحدث أخيرًا بنبرة هادئة:
“سمعت أنك رفضت خدمة الوصيفات وأمرتِ بطردهن، ويبدو أنهن انزعجن من ذلك.”
ارتجفت ملامح “جايين” قليلًا.
ولم يفت “دان تيمو” التقاط ذلك. لمع بريق حاد في عينيه للحظة.
ذلك بالضبط ما كان يثير فضوله… ذلك التناقض بين برودها الظاهر والهنات الصغيرة التي تكشف هشاشتها.
ومع ذلك، ابتسم وكأنه لم يلحظ شيئًا.
“… كما قلتُ، لست معتادة على تلقي خدمة أحد. كنتُ أفعل كل شيء بمفردي سابقًا.”
“آه، أتذكر… قيل إنكِ كنتِ أميرة مُهمَلة، أليس كذلك؟”
قال “دان تيمو” ذلك ببرود.توسعت عيناها للحظة قبل أن تعود وتخفي
هما خلف قناع من اللامبالاة.
“نعم، لم يكن هناك من يخدمني في القصر الإمبراطوري.”
“لكن، بغض النظر عن الماضي، يجب ألا تنسي أنكِ الآن وليّة العهد.”
رفعت رأسها ببطء وسألت:
“هل يعني ذلك أن وليّة العهد لا يحق لها تبديل ملابسها أو الاستحمام بمفردها؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات