4
جاي إن أدارت رأسها ببطء وهي تعقد حاجبيها بخفة.
فكرت في سبب مجيء ذلك الذي يُلقب بـ”سيف الإمبراطور” إليها.
“… تفضل بالدخول.”
ظلّ الحارس ينظر إليها بوجه خالٍ من التعبير، كما هو الحال دائمًا.
“جلالة الإمبراطور يستدعيكِ.”
عاد جبين جاي إن ليتجعد مرة أخرى.
منذ أن علم والدها بأن قدراتها قد اختفت، لم يعد يطلبها بعد الآن.
بالطبع، لم يكن يصدق كلامها منذ البداية.
كان رجلاً كثير الشك، وقد انهال عليها بالسياط بلا رحمة على مدى عدة أيام.
وسط ألمٍ رهيبٍ جعل فقدان الوعي يبدو خيارًا أفضل، كانت جاي إن تبذل كل ما في وسعها لتتمسك بوعيها المتلاشي.
وفي كل مرة، كانت ترى نفس المشهد.
وجه الرجل البارد الذي يقطع عنق والدها، ووجه الإمبراطور وهو يغلق عينيه بهدوء، كما لو أنه يخلد إلى النوم.
“هذه المرة أيضًا… لم أرَ شيئًا. لا أرى… شيئًا، يا جلالة الإمبراطور.”
جاي إن لم تفصح عمّا رأته حتى النهاية.
وبعد مرور شهر تقريبًا، بدأ الإمبراطور أخيرًا يتوقف عن إظهار اهتمامه بها.
إذا ما صبرت قليلاً فقط، فستصبح شخصًا لا يخطر على بال الإمبراطور أبدًا.
وحينها فقط، ستكون قادرة على أن تحيا حياتها الخاصة.
ولكنه الآن استدعاها.
رغم أن جراح ظهرها لم تلتئم بالكامل بعد… لماذا؟
“جلالة الإمبراطور بانتظارك.”
وعندما لم تتحرك جاي إن الغارقة في التفكير من مكانها، أسرع الحارس في استعجالها مرة أخرى.
عندها فقط، نهضت جاي إن من مقعدها ببطء. وفجأة، خطرت ببالها فكرة أنها لم تخرج منذ وقت طويل.
في الأصل، لم يكن بإمكانها مغادرة القصر المنعزل دون إذن من الإمبراطور، لكنها بالكاد تتذكر آخر مرة خرجت فيها من هذا المكان.
وأثناء اتباعها الحارس بلا مبالاة، أخذت تتلفت حولها بوجهٍ متعجب.
“هذا الطريق…؟”
“جلالة الإمبراطور في القاعة الكبرى.”
“هل قلتَ القاعة الكبرى؟”
بدأت جاي إن تفقد قدرتها على فهم ما يحدث.
لقد بذل الإمبراطور جهدًا لإخفائها عن أعين الناس.
حتى بعد أن حصلت سونهوا على رتبة محظية، لم تدخل القصر الداخلي،
وظلت في القصر الخارجي المنعزل داخل القصر الإمبراطوري — وهذا وحده كان كافيًا للدلالة على نيّته.
كان الإمبراطور الطمّاع يخشى أن تقع قدراتها في يد أحدٍ آخر، وكان دائم القلق من ذلك.
وبفضل ذلك، أُطلق على جاي إن لقب “الأميرة المُهانة”.
لكن في الحقيقة، كان الإمبراطور يطلبها أكثر من أي شخص آخر.
ومع ذلك، فجأة… القاعة الكبرى؟
“أسرعي.”
استعجلها الحارس مجددًا. لم تجد جاي إن بدًّا من التحرك مجددًا بعد أن توقفت.
وحينما كانت شكوكها تتضخم ككرة الثلج، وصلت إلى القاعة الكبرى.
“من هؤلاء…؟”
توجّه نظر جاي إن نحو الموكب الطويل المصطف أمام القاعة الكبرى.
كان من الواضح أنهم ليسوا من الإمبراطورية، لكنها لم تستطع تحديد إلى أي دولة ينتمون.
وعندما تعرّف أحد الجنود على الحارس، فتح باب القاعة الكبرى.
كيييك—
“……”
ومن خلال الشق الذي بدأ يتسع ببطء، ظهرت القاعة المغطاة بالحرير الذهبي.
السقف العالي والأعمدة الضخمة كانا يبعثان على رهبة من يشاهد.
عينا جاي إن، التي كانت تحدّق في السقف بشرود، تحوّلتا أخيرًا إلى الأمام.
رأت الوفد الأجنبي الواقف في منتصف القاعة، وكبار الوزراء مصطفين على الجانبين.
وفجأة،
“لقد وصلت ابنة جلالتي العزيزة. تعالي إلى هنا.”
قال الإمبراطور ذلك وهو يفتح ذراعيه بحنان. فارتجف جسد جاي إن فجأة وتصلب.
كان ينظر إليها بعين مملوءة بالعطف، كما لو كان ينظر إلى ابنته المحبوبة.
وقفت جاي إن مكانها، غير قادرة على تحريك قدميها بسهولة. وفي تلك اللحظة، بردت نظرات الإمبراطور فجأة.
“تعالي إلى هنا.”
“… ن-نعم، يا جلالة الإمبراطور.”
بلعت جاي إن ريقها الجاف دون أن تدري.
وبشكل غريزي، بدأت قدماها تتحركان أولًا.
فهي لا تزال تخشى الإمبراطور، ولا تستطيع عصيانه.
كان ذلك خوفًا منقوشًا في جسدها كله.
وبينما كانت تعبر القاعة الكبرى ببطء، برأس مطأطئ، قبضت على طرف تنورتها بكلتا يديها لإخفاء ارتجاف يديها.
“……”
نظرات الوزراء كانت تخترق جسدها كالأشواك.
“أليست هذه الأميرة المُهانة؟”
“لماذا هي هنا؟”
ترددت همسات منخفضة كأنها رعد في أذنيها.
الطريق كان طويلًا لدرجة أنها أطلقت تنهيدة دون وعي.
أخفت جاي إن تعابير وجهها قدر الإمكان، وسارت بصمت في طريقٍ مليء بالأشواك.
وفي تلك اللحظة، شمّت رائحة الرياح.
وبالتزامن، ظهر حذاء رجل في مجال رؤيتها، التي كانت مثبتة على الأرض.
ربما كانت رائحة الرياح قادمة منه.
لكن جاي إن لم يكن لديها حتى وقت لتلتفت وتنظر إليه.
فقط السير بهدوء وسط تلك النظرات الحادة القادمة من كل صوب كان بحد ذاته أمرًا مرهقًا.
مرت جاي إن بجانبه دون أن تلتفت، وتوقفت خطواتها الثقيلة فقط عندما وصلت أمام الدرج.
رفعت رأسها الذي كان مطأطئًا منذ البداية بتردد، وراحت نظراتها المترددة تبحث عن الإمبراطور.
“اصعدي، يا جاي إن.”
ارتعد بدنها مجددًا من صوته الحنون.
لكن جاي إن أطاعته هذه المرة أيضًا دون تردد.
وعندما وقفت أخيرًا أمام العرش، فتح الإمبراطور فاه قائلًا:
“يا ولي عهد مملكة ريو.”
كانت عيناه شبه مغمضتين، وتبدوان مرتاحتين إلى حد ما.
“نعم، يا جلالة الإمبراطور.”
“من أجل توطيد السلام بين الإمبراطورية ومملكة ريو، آمر بزواج ابنتي العزيزة بولي عهد ريو.”
“!”
في تلك اللحظة، عمّت الهمهمة القاعة الكبرى.
تبادل الوزراء نظراتٍ متفاجئة، وبلع الوفد الأجنبي صمتهم المصدوم.
جاي إن، التي لم تستوعب ما قيل، نظرت إلى الإمبراطور بوجه مشوش،ثم فجأة اتسعت عيناها.
زواج من ولي عهد مملكة ريو؟!
فجأة، خطرت على بالها مواكب المبعوثين الذين مرّت بهم للتو.
إن كان الأمر كذلك، فهل هؤلاء هم مبعوثو مملكة ريو؟
ترددت جاي إن للحظة ثم أدارت جسدها ببطء. كانت عيناها البنيتان الفاتحتان تتلمسان الفضاء.
وحينما رأت أخيرًا وجه الرجل الذي يقف في المقدمة—
“!”
توقفت أنفاس جاي إن في الحال.
بـيـيـيـك.
رنّ في أذنها طنينٌ حاد.
كأن العالم خلا إلا من ذلك الرجل، أصبحت الخلفية المحيطة به ضبابية، ووجهه أكثر وضوحًا.
تجمّع الدم الذي كان يدور في جسدها في مكانٍ واحد.
دق… دق…
نبض قلبها بقوة.
كان رجلًا تراه لأول مرة، وفي ذات الوقت، لم يكن كذلك.
كان هو، الرجل نفسه، الذي رأت جاي إن في رؤاها المستقبلية يقطع عنق الملك مرارًا وتكرارًا.
“آه……”
خرج تنهيدة منخفضة من بين شفتي جاي إن.
لقد ظهر الرجل الذي كانت تتوق إليه بشدة، أخيرًا، أمام عينيها. وكأنه قدر محتوم.
غـررررغ.
بدأت العجلات، التي كانت متوقفة، بالدوران.
أدركت جاي إن أن ما يتحرك الآن هو عجلة المصير التي ستقود الإمبراطور إلى الهلاك.
وفي نفس اللحظة،
ها.
نظر دان تاي مو إلى المرأة الواقفة بجوار الإمبراطور، وانفرجت شفتيه عن ابتسامة باردة وساخرة.
“أمر الإمبراطور، إذًا…”
همس لنفسه بصوت خافت، تبخّر في الهواء قبل أن يصل إلى أذن أحد.
من الواضح أن الإمبراطور لا يرى دان تاي مو ورفاقه كمبعوثين، بل كخدم جاؤوا لمبايعته والانحناء لسلطته.
ومع ذلك، لم يستطع دان تاي مو أن ينبس ببنت شفة أمام القوة الساحقة التي يمتلكها الإمبراطور.
حسنًا، هكذا إذن.
تحركت نظرته الباردة قليلاً إلى الجانب.
كانت المرأة التي تُدعى ابنة الإمبراطور تنظر إليه من علٍ، بعينين واسعتين.
“……”
جسد نحيل، وبشرة شاحبة كالجثة، وعينان خاويتان من الحياة… بدت أشبه بدمية صُنعت بإتقان، لا بابنة إمبراطور.
كانت عيناها المغروستان في وجهها الصغير بارزتين على نحو غير عادي.
أو ربما، لأنها كانت قد اتسعتا دهشة، بدتا بذلك الحجم.
في تلك اللحظة، بدا وكأن عينيها البنيتين الفاتحتين قد لمعتا بلون ذهبي.
وبسبب غرابة ذلك، ضيّق دان تاي مو عينيه مراقبًا إياها بتمعّن.
ظنّ أنه ربما سيتمكن من رؤية اللون الخفي بداخلهما بشكل أوضح.
لكن ربما كان ما رآه مجرد انعكاس لأشعة الشمس.
غير أن ذلك الضوء اختفى فجأة، وكأنه كان وهْمًا في ذهن دان تاي مو. وفي اللحظة نفسها، اختفت التعابير عن وجهها أيضًا.
وكأنها دمية من الثلج واقفة تحت أشعة الشمس.
وانتهى تأمله عند هذا الحد.فهي ابنة الإمبراطور، مجرّد حجر شطرنج وُضع لإذلاله، لا أكثر ولا أقل.
وضع لا يُحسد عليه.
رغم أنه موقف مهين، لم يكن قادرًا على رفض أمر الإمبراطور.
لو أنه انسحب من هنا، لكان عليه الاستعداد للحرب ضد الإمبراطور.
إمبراطورية أخضعت ثماني دول، ومملكة ريو التي تعاني من اضطرابات داخلية—لم يكن من الضروري حتى التفكير في مَن ستكون له الغلبة في الحرب.
نظر دان تاي مو إلى وجه الإمبراطور المتغطرس، وقبض على يده بقوة.
“ما بال ولي عهد مملكة ريو لا يجيب؟ هل يعني هذا أنك لا تستطيع تنفيذ أمري؟”
سأل الإمبراطور بنبرة لا مبالية.
كتم دان تاي مو غضبه بصمت، وفتح فاه أخيرًا:
“كيف لي أن… أجرؤ على رفض أمر جلالتكم، يا مولاي.”
كان صوته الذي دوّى في القاعة الكبرى خاليًا تمامًا من المشاعر
قبض يده بهدوء مرة أخرى.لن ينسى أبدًا هذا الذل والغضب الذي شعر به اليوم.
“هاهاها.”
انفجر الإمبراطور ضاحكًا.ارتدت ضحكاته من السقف العالي وانتشرت كأصداء بعيدة.
“آههاهاها.”
في تلك اللحظة، رأت جاي إن السخرية في عيني ذلك الرجل.وفي الوقت ذاته، تخيلت مدى الإهانة التي يشعر بها.
لكنها لم تكن ستتراجع.
في الرؤى التي رأتها، كان الرجل يغرس سيفه في عنق الإمبراطور.لم تكن تعرف إن كان ذلك لأن الإمبراطور أعلن الحرب، أم لأن الرجل يكره الإمبراطور بقدر ما تكرهه هي.
لكن السبب لم يكن مهمًا.
المهم هو شيء واحد فقط—أنه سيقتل الإمبراطور.
إن كان الأمر كذلك—
“……”
شدّت جاي إن على شفتيها ورفعت رأسها بثبات.
إن كان الأمر كذلك، فستكون إلى جانبه، تشاهد موت الإمبراطور.
ستستغل ذلك الرجل، الذي اختاره القدر، كقطعة في لعبة انتقامها.
وإن كان عليها أن تتزوج زواجًا لا يريده هو، فلن تتردد لحظة في ارتداء لباس العرس.
حتى إن اضطرت إلى مواجهة بروده طوال حياتها، فلن يهمّها الأمر على الإطلاق.
طالما استطاعت أن تنتقم من الإمبراطور، فالباقي لا يهم.
انعكست في عيني جاي إن، وهي تنظر نحو الإمبراطور الجالس على العرش، لمعة باردة تشبه جليدًا ممتدًا تحت ضوء الشمس.
…….
انتشرت دقات آلات الإيقاع الثقيلة في السماء الصافية.
وبدأت الموسيقى التي تحتفل بالزفاف على إثرها.
اجتمعت أصوات آلات النفخ القوية، والآلات الوترية الناعمة، والإيقاع الصاخب لتخلق جوًا مهيبًا.
جاي إن أدارت رأسها بلا وعي عندما سمعت الموسيقى الغريبة القادمة من بلد أجنبي.
المشهد خارج النافذة كان مثاليًا بكل معنى الكلمة.
السماء كانت زرقاء، والرياح باردة باعتدال، والأشجار مشرقة، والهواء عطِر.
كانت عينا جاي إن تتأملان المنظر بلامبالاة، كما لو أنها تنظر إلى لوحة معلقة على الحائط،
ثم تحركتا قليلاً إلى الجانب.
رأت شجرة واقفة وحيدة في الزاوية.
“……”
لم تكن تعرف لماذا وقعت عيناها على تلك الشجرة بالتحديد.
ربما لأنها كانت الوحيدة الملتوية بين الأشجار المستقيمة،أو ربما لأنها الوحيدة التي لم تُزهر شيئًا وسط الأشجار التي أطلقت براعم خضراء.
أغصانها الممتدة بشكل مائل كانت تتجه نحو الأرض لا السماء،وأغصانها ال
جافة الرفيعة كانت تحتوي ظل السقف بدلًا من أوراق خضراء.
كانت شجرة لا مظهر لها، ولم يكن بالإمكان تحديد نوعها.شجرة لا تستطيع الإزهار حتى بعد قدوم الربيع.
“تشبهني تمامًا.”
سقطت همسة مليئة بالمرارة عند قدمي جاي إن.بدت الشجرة المحتضرة وكأنها تجسيد لها.
لم تعد قادرة على النمو باستقامة، ولم يتبقَ فيها سوى حقد ملتوي للانتقام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"