3
“اللعنة!”
قطب الإمبراطور حاجبيه وتراجع بجسده إلى الوراء.
راح يرمق جايين بنظرة غاضبة، ثم سأل بصوت مشكك:
“أمتأكدة أنكِ لا تكذبين عليّ؟”
“أقسم على جثمان والدتي. جلالتك، أنت تعرف جيدًا من كانت والدتي بالنسبة لي. لو كنت أكذب، لكنت اعترفت قبل أن تصبح أمي هكذا.”
خفضت جايين رأسها بهدوء، تخفي تحت الحزن المتعفن غضبًا أزرق وحقدًا أحمر قانٍ.
وفي النهاية، نقَر الإمبراطور لسانه بوجه غير راضٍ.
“لا فائدة منك.”
ومع نهاية كلماته، استدار مبتعدًا.
أدركت جايين أن ذلك كان التصريح الأخير بشأنها.
لقد أصبحت أخيرًا حرة. مقابل روح أمها.
كما استعادت سونهوا اهتمام الملك ذات يوم، بتقديم ألم ابنتها كضمان.
“أمي… هه… أهه…”
في الغرفة الفارغة، كانت جايين تحتضن جثمان والدتها وتنتحب بمرارة.
حتى تحول ذلك الجسد الدافئ إلى بارد، وتصلب اللحم الذي كان يومًا طريًا.
“ههه…”
شهقت أنفاسها المرتعشة، ولم تعتدل بظهرها المنهار إلا عندما بدأ ضوء الصباح يغمر السماء.
ثم نظرت نحو الظلام الشاحب، وقد رسمت عيناها عزمًا حادًا.
“لا بد…”
خرج صوتها الجاف بين شفتيها المتشققتين.
عضّت على أضراسها، وتلفظت بكل كلمة كما لو كانت تلوكها بأسنانها:
“أقسم… سأدمّرك بيدي. سأُهديك نفس نهاية أمي. لا بد من ذلك.”
لا أحد يعرف كم بقيت على تلك الحالة.
رقبتها تيبّست، وظهرها تصلب. وحين بدأت تفقد الإحساس في أطرافها—
وجدت جايين نفسها واقفة في وسط غرفة لم ترَ مثلها من قبل.
الغرفة الواسعة، المزينة بالذهب، كانت فاخرة، لكنها تبعث في النفس رهبة وضيقًا.
“أين أنا؟”
وقد ارتسمت على وجهها دهشة من المكان الغريب، وقعت عيناها على جمعٍ يحيط بسرير من كل الجهات.
من صمتهم بدا الحزن جليًا.
“لن يشعر بألم.”
هز الطبيب رأسه، وكأنه لم يعد هناك ما يمكن فعله.
كان الحاضرون يتنهدون بحسرة، على وجوههم تعابير أسى.
تقدمت جايين خطوة دون وعي. كأنها مسحورة، مشت ببطء نحو السرير.
وفكّرت، “من الذي يموت؟ من الذي يحزنون عليه بهذا الشكل؟”
حتى مع اقترابها، لم يلاحظ وجودها أحد.
انتقلت بخطوة إلى الجانب، وانكشفت لها الرؤية أخيرًا. رأت بوضوح من كان ممدًا فوق السرير.
‘!’
اتسعت عيناها على آخرهما.
الوجه الذي ينتظر الموت بسلام كان مألوفًا إلى حد الصدمة.
“مستحيل…”
الإمبراطور.
كان أكثر شيخوخة ووهنًا مما تتذكر، لكنه لم يكن أحدًا سواه.
وفي لحظة ما، أغمض الإمبراطور عينيه ببطء. تدلّى رأسه، وتوقف تنفسه نهائيًا.
“جلالتك!”
“يا مولاي!”
صرخ الناس منتحبين باسمه. ومن خارج النوافذ، شقّت الأبواق الهادئة صمت السماء الجافة.
وفي الوقت نفسه، ضجّ الباحة الأمامية الممتلئة بالوزراء بالنحيب الجماعي.
‘……’
حدقت جايين نحو الإمبراطور بنظرة ذاهلة.
كانت على شفتيه ابتسامة خفيفة. ابتسامة رجل أنجز كل شيء.
“هاه!”
اهتز جسد جايين. أطلقت الزفير الذي كانت تحبسه، وحدّقت في الفراغ أمامها.
“ما الذي يحدث؟”
كانت مشوّشة، ومصابة بالحيرة. لم يسبق لها أن رأت مستقبليْن متناقضين.
في الرؤية الأولى، رجل قطع عنق الإمبراطور بسيفه، وفي الثانية، مات الإمبراطور بسلام بعد أن عاش عمرًا طويلًا.
“……”
وما زالت في حضنها جثة والدتها المتجمدة.
مسحت جايين دموعًا جافة من وجنتيها، وعضت شفتيها.
في أي من المستقبلين، لم تكن والدتها حية. لذا لم يتبقّ أمام جايين سوى خيار واحد.
أن تُهدي والدها نهاية تشبه نهاية أمها. أن تنتقم لأمها.
ولهذا، ستجعل المستقبل الأول واقعًا. مهما كلّفها الأمر.
…….
كان الإمبراطور يسند ذقنه على ظاهر يده الموضوعة على مسند الذراع.
تصرفه الممل جعل الوزراء يخفضون أنفاسهم بصمت.
“يقال إن مملكة ريو أرسلت وفدًا تطلب التحالف؟”
“نعم، جلالتك.”
“هممم.”
كانت مملكة ريو آخر الممالك المتبقية في القارّة. الدولة الوحيدة التي لم تخضع كدولة تابعة.
“التحالف، إذًا.”
عبس الإمبراطور وكأن الكلمة لا تروق له.
“لو شننتُ الحرب، لأجبرتهم على الركوع عند قدميّ فورًا، وهم الآن يطلبون التحالف بوقاحة.”
أحد الوزراء، وهو يراقب تعبير وجه الإمبراطور، تحدث بحذر:
“لو خضنا حربًا مع ريو الآن، فإن خسائرنا لن تكون ضئيلة، جلالتك. إنهم شعب محارب منذ طفولتهم، يجيدون الفروسية من سن مبكرة.”
وكأنهم كانوا ينتظرون هذا، بدأ الوزراء الآخرون يضيفون آراءهم:
“صحيح أن توحيد القارة هدف نبيل، لكن الحرب طالت لأكثر من عشر سنوات. الشعب منهك، وفي كل مكان يشكون من فقدان الرجال اللازمين للزراعة.”
“أيعني هذا أن علينا قبول عرض ريو بالتحالف، رغم أنهم لا يعرفون حجمهم؟”
أجاب الوزير بهز رأسه عند رد الإمبراطور المتعالي.
“حتى وإن كانت ريو تعاني من اضطرابات داخلية بسبب صراع على العرش، لا ينبغي الاستهانة بقدرتهم، جلالتك.”
“كما تعلمون، التمرد في الدول التابعة بدأ بالتنامي. وإن خضنا حربًا مع ريو الآن، فسيكون ذلك فرصة ذهبية للمتمردين.”
ومع ازدياد استياء الإمبراطور، سارع أحد الوزراء الماكرين إلى المديح:
“جلالتك هو الإمبراطور الوحيد على وجه القارة. سواء غزونا ريو الآن أم لا، سيأتون زحفًا تحت قدميك يومًا ما. الفارق فقط في التوقيت.”
“صحيح، جلالتك. لا داعي لغزو الشمال القاحل الآن.”
لم يقل الإمبراطور شيئًا، فقط عبس بوجه متضايق.
“هممم.”
أطلق تنهيدة طويلة، ثم سأل بتردد:
“هل هذا رأي الجميع؟”
“نعم، جلالتك.”
أجاب الوزراء، المتعبون من الحرب الطويلة، بصوت واحد.
تقلصت حدقة عين الإمبراطور تدريجيًا.
“إذًا، أين وفد مملكة ريو الآن؟”
في تلك اللحظة، صرخ الحارس الواقف عند باب القاعة بصوت عالٍ:
“ولي عهد ريو، دان تايمو، قائد الوفد، قد وصل!”
بدأ باب القاعة يُفتح ببطء. وخلفه، وقف رجل.
كان شامخًا كجبل، ووقف بفخر تحت سيل من الأنظار.
خطوة… خطوة…
بدأ الرجل يمشي إلى الداخل بخطى واثقة.
نظر الإمبراطور إليه وعبس لا إراديًا.
ذلك الرجل الذي يسير وخلفه الشمس، بدا مهيبًا للغاية.
كيف يجرؤ؟ أمام إمبراطور القارة؟
توقف الرجل أخيرًا عند منتصف القاعة.
توقّف أعضاء الوفد الذين كانوا يسيرون خلفه واحدًا تلو الآخر في أماكنهم.
كان الإمبراطور مستندًا إلى ظهر كرسيه بشكل مائل، يحدّق بثبات في الرجل الواقف في المقدمة.
ولي عهد مملكة ريو، يُدعى دان تايمو، أليس كذلك؟
حتى وهو محاطٌ برجال دولة من بلدٍ آخر، بدا مرتاحًا للغاية. أشبه بذئبٍ داخل قنّ دجاج، يبعث فيمن حوله شعورًا بالهيبة المطلقة.
وذلك لم يعجب الإمبراطور.
تسف.
نقر الإمبراطور لسانه داخل فمه بضيق. لم يكن هناك وقت أحسّ فيه بالأسف لزوال قدرة جايين على رؤية المستقبل أكثر من هذه اللحظة.
لو كانت لا تزال تملك تلك القدرة، لغزا ريو رغم معارضة وزرائه.
فقد كانت سترى إلى أين يتحركون، وأين يخفون جنودهم، وتكشف كل مخططاتهم.
ولو حدث ذلك، لما استطاع ذلك ولي العهد المتغطرس أن يجرؤ حتى على النظر إليه بهذه العينين الواسعتين.
لا فائدة منها.
عبس الإمبراطور بوجهه بخفة.
وفي تلك الأثناء، رفع دان تايمو أيضًا نظرته الهادئة نحو الإمبراطور.
رجل أخضع ثماني ممالك باستثناء مملكة ريو.
كانت نظراته المتعبة متعجرفة، وهيئته المتراخية تنضح بالغرور.
“…….”
“…….”
حلّ صمت ثقيل بين الاثنين.
توتّرت الأجواء، وتمايل التوازن بينهما على خيطٍ رفيع.
رغم أن المناسبة كانت بغرض التحالف، إلا أن جو التوتر كان كافيًا لأن يرفع أحدهما سيفه دون أن يبدو ذلك غريبًا.
في تلك اللحظة—
“ولي عهد مملكة ريو، دان تايمو، قدّم آداب التحية لجلالة الإمبراطور!”
صرخ أحد الوزراء بصوت غاضب.
رفع دان تايمو حاجبه بخفة، كاتمًا ابتسامة كادت تنفلت من بين شفتيه.
لقد بدا له هذا الوزير النابح ككلب يتقرب إلى سيده بتذلل.
ولي العهد، إذًا.
ارتسمت على شفتي دان تايمو ابتسامة باردة. ذلك الذي كان يُدعى ولي العهد، أصبح في لحظةٍ ما مجرّد أمير.
لأن مملكة ريو لم تعد تُعامل كمملكة مستقلة، بل كدولة تابعة للإمبراطورية.
عندها، ارتفع شيءٌ حار من أعماقه. كان يرغب في أن يخرج سيفه فورًا.
لكن الوضع لم يكن مناسبًا.
فوالده كان شخصًا مترددًا جدًا ليكون ملكًا بحق.
لا يملك الجرأة لنزع لقب ولاية العهد من ابن زوجته السابقة، دان تايمو، ولا الشجاعة لحمايته من الملكة الحالية.
الملكة الحالية كانت طموحة إلى حدّ لا يرحم، ولم تكن لتسمح أبدًا أن يرث دان تايمو العرش.
بسببها، كان يتلقى زيارات متكررة من القتلة، ويتجاوز محاولات اغتيال لا تُعد ولا تُحصى.
في ظل هذه الاضطرابات الداخلية، أراد تجنب الحرب بأي ثمن.
لأنه لو خرج إلى ساحة المعركة، فلا أحد يعلم ما الذي قد تفعله تلك الملكة الماكرة من وراء ظهره.
“سيدي.”
ناداه الحارس الذي اقترب بهدوء خلف ظهره.
عندها فقط، ابتسم دان تايمو بابتسامة رسمية مهذبة.
“ولي عهد مملكة ريو،”
انخفض صوته قليلًا عند هذه النقطة، لكن أحدًا لم يلحظ ذلك.
“دان تايمو يقدّم تحياته لجلالة إمبراطور الإمبراطورية.”
“سررت بلقائك.”
رد الإمبراطور بصوت مرتخٍ وهو يسند ظهره إلى الكرسي.
كان أسلوبه الفجّ كافيًا ليُفهم الجميع بأنه يعتبر نفسه في موقع السلطة العليا.
وأثناء انشغال الوزير بتلاوة عبارات التحية وفقًا للبروتوكول، لم يُبعد الإمبراطور نظره عن دان تايمو.
الوقت غير مناسب… غير مناسب تمامًا. كنت لأكسر عنق ذلك الشاب المغرور بنفسي لو كان الزمان مختلفًا.
“!”
في تلك اللحظة، خطرت له فكرة جيدة. ارتسمت ابتسامة باهتة على طرف شفتيه، وحرك أصبعه إشارةً خفيفة.
اقترب الحارس الواقف خلف العرش، وانحنى بجسده.
همس الإمبراطور في أذنه ببضع كلمات.
هزّ الحارس رأسه، واختفى بسرعة الريح.
ثم استرخى الإمبراطور أكثر في كرسيه، متأملًا حيلته العبقرية التي ستُمكّنه من التخلّص من عبءٍ عديم الفائدة دفعة واحدة.
…………
تجوّلت نظراتها الفارغة في أرجاء الغرفة ببطء.
خزانة قديمة، وكرسي بلا صاحب، وسرير بارد يسوده الجمود.
لم تكن والدتها في أيّ مكان.
لا صوت هادئ يهمس، ولا لحن دافئ يُغنّى. كل شيء اختفى.
المنزل المنعزل كان صامتًا، والهواء الذي كان دافئًا قد أصبح باردًا. وكأن الفصول تغيّرت بمجرد غياب شخصٍ واحد.
“الآن أصبحتُ وحدي حقًا.”
ابتلعت جايين المرارة التي ارتفعت من حلقها، ورفعت زاوية فمها محاولةً التماسك.
لكن تلك المحاولة تحطّمت قبل أن تصبح ابتسامة. وسرعان ما تهاوت جهودها بلا جدوى.
لم يكن ذلك حزنًا. بل كان أقرب إلى الفراغ. إلى ذلك الإحساس الذي يشعر به من فقد هدف حياته.
“لا، ليس كذلك.”
هزّت جايين رأسها بهدوء.
لم تكن قد فقدت هدف حياتها، بل على العكس، أصبح أوضح من أي وقت مضى. فقط اتجه في طريق مختلف.
“أمي… أقسم أنني سأُدمّر ذلك الرجل. أقسم أنني سألقي له رقصة على جثته، وأغني بأعلى صوتي أمام قبره.”
في تلك اللحظة، حيث كانت كلماتها الباردة تتساقط فوق الأرض المتجمدة—
“إنه أنا.”
صوت مألوف جاء من خلف الباب.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"