“لسنا مقربين جدًا، لكنني استمعت مؤخرًا إلى هموم السيدة الصغيرة وساعدتها قليلًا.”
شبكت كاليوبي أصابع يديها، وأسندت خدها إلى راحة يدها، ثم أمالت رأسها قليلًا في وضعٍ بدا متصنَّعًا ومثيرًا للضيق، حتى إن فيرتشي صكّت لسانها بانزعاج.
ولأنها لم ترفض كلامها مباشرة، سارعت كاليوبي بطرح ما في ذهنها.
“في الحقيقة، هو ليس طلبًا بل صفقة. ستشاركين في حفل تنصيب فرسان القصر الملكي القادم، أليس كذلك؟”
“والدتي مشغولة، لذا سأذهب أنا ووالدي بدلًا عنها.”
“حينها، هل يمكنك أن تلقي التحية على خطيبي؟”
“أن… أُلقي التحية؟”
“نعم، فقط اقتربي منه وتبادلي معه بعض الكلمات. فنحن في النهاية من أنصار الملك، أليس كذلك؟ ليست مطالبة مبالغًا فيها.”
“وإن فعلتُ ذلك؟”
“سأُرتّب لك لقاءً طبيعيًا مع أوتيس غلايدَرت.”
بمجرد أن أنهت كاليوبي حديثها، عقدت فيرتشي حاجبيها بضيق.
أي شخص آخر كان ليرتعد من نظرتها تلك، لكن كاليوبي كانت تعلم جيدًا أن هذا ليس رد فعلٍ سيئًا.
“…سأفكر في الأمر.”
أي أنها وافقت ضمنًا.
حرّكت كاليوبي نظراتها قليلًا إلى الجانب، كانت تدرك أنه حتى لو ساعدتْها، فاحتمال أن ينجح الأمر بينهما يكاد يكون صفرًا.
“شكرًا لك. آه، إن كان الأمر يسبب لك حرجًا، يمكنني أن أُرتّب لقاءً بينكما وبين خطيبي مسبقًا.”
“لا أعتقد أن هناك داعيًا لذلك.”
“ولِمَ لا؟ خطيبي أفضل مبارزٍ بين أبناء جيله، لا أحد يستطيع مجاراته.”
“ماذا؟”
ارتفع حاجبا فيرتشي بدهشة.
كانت، بصفتها ابنة دوق دايلَس، مشهورة بمهارتها الفائقة في فن المبارزة.
ورغم أنها لم تُظهر قدراتها علنًا، إلا أن من يمكنهم التغلب عليها في القتال لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
وأحد أولئك القلة النادرة كان خطيب كاليوبي، إيزاك.
ففي المستقبل، سيُعرف بأنه “سيف المملكة الأول”، لذا لم يكن غريبًا أن يكون في هذا المستوى.
عبقري أطلق طاقة سيفه في سن العشرين.
لكن كاليوبي كانت تظن أنه فعل ذلك في سنٍّ أصغر بكثير، لكنه أخفى الأمر حتى بلغ من القوة ما يكفي ليحمي نفسه.
متى حدث ذلك بالضبط؟ لم تكن تعرف على وجه الدقة.
“إن راق لك الأمر، فقط أخبريني. أما الآن، فزيارتي انتهت، عليّ مقابلة أشخاص آخرين.”
قالت كلماتها الأخيرة بخفة، وغادرت كأنها نسمة هواء مرت واختفت.
بعد ذلك، صعدت مرة أخرى إلى العربة، وهذه المرة كانت وجهتها قصر آل إستيفان.
لكن الشخص الذي جاءت لرؤيته لم يكن إيزاك، بل شقيقه الأكبر إيرفِن.
صحيح أنه أصبح الآن في الحضيض بعد أن فقد ثقة والده، لكنه لا يزال يملك بعض الذكاء، ولولا إدمانه المقامرة لكان له شأن آخر. ومع ذلك، لم تستبعد كاليوبي أنه سيحاول التسلل بأي وسيلة لحضور الحفل الرسمي القادم.
“لماذا جئتِ لرؤيتي؟ لماذا لا تذهبين إلى إيزاك؟”
نبرته كانت لاذعة ومليئة بالمرارة، وهذا طبيعي، فهي كانت آخر من أهان كبرياءه ثم اختفت كأن شيئًا لم يكن.
“هل تظن أنني جئت لرؤيتك لأنك تعجبني؟”
نظرت كاليوبي إلى الطاولة الفارغة، التي لم يُحضّر عليها حتى الشاي، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة.
“أعلم أنك لن تشارك في الحفل القادم، لكن جئت لأتأكد فحسب. أريد أن أتجنب أي تشويش على الأنظار، فهذه أول مرة يظهر فيها خطيبي رسميًا أمام الجميع.”
قالت ذلك وهي تعقد ساقيها فوق بعضهما، باتخاذ وضعية واثقة، متعجرفة، بل فظة عن قصد.
“أنت ذكي، وأعلم أنك بارع في إيجاد الحجج والمبررات. لذلك جئت لأذكّرك ألا تحاول التسلل إلى الحفل بأي ذريعة كانت.”
“هل… تظنين أنني سأحاول مثل هذه الحيلة؟”
“كفانا حديثًا، لم آتِ لأستمع إلى مرافعاتك. سأقولها بإيجاز، فأنا امرأة مشغولة:
إن لم تكن ترغب بتقديم موعد سداد ديونك نصف عام، فابقَ في القصر بهدوء أثناء الحفل واعتنِ بصحتك.”
اهتزت يد إيرفِن الموضوعة على مسند الكرسي، وكان واضحًا أنه يبذل جهدًا كبيرًا لكبح غضبه.
صحيح أن قدرته على تمالك نفسه تدل على أنه ليس غبيًا تمامًا،
فمن الصعب على رجلٍ ناضجٍ أن يتحمل تهديدًا من فتاة أصغر منه بكثير دون أن ينفجر. لكن كاليوبي لم يكن يعنيها صبره في شيء.
“أظن أن إيزاك قد أخبرك بالفعل، لكن فقط لتوضيح الأمر: أنا لا أطمح إلى مكانك في هذه العائلة.
هذه العائلة صارت مقززة بالنسبة لي بقدر ما هي كذلك بالنسبة له.”
“…بالنسبة لإيزاك أفهم، لكن ما الذي يجعلك تكرهين عائلة الكونت إلى هذا الحد؟”
“أوه، أليست عائلة الزوج دومًا كريهة؟ فقط بالنظر إلى شخصية والدك وشخصيتك،
يمكنني بسهولة تخيل نوع الحياة التي تنتظرني بعد الزواج. لذا من الطبيعي أن أؤمّن لنفسي طريقًا للنجاة مسبقًا، أليس كذلك؟”
ثم أطلقت تنهيدة قصيرة كما لو أنها تذكرت أمرًا بسيطًا وقالت:
“آه، صحيح. بعد زواجي من إيزاك، لن أنتقل إلى بيت عائلة الكونت،
بل هو من سيأتي إلى بيت آل أناستاس ويعيش هناك. لقد تحدثت بالفعل مع والدي حول هذا،
ولم يبقَ سوى مناقشة التفاصيل مع والدك.”
“سيأتي إلى بيت آل أناستاس؟”
“أجل، وهذا لا يضرك بشيء في الواقع، أليس كذلك؟”
“…”
ساد الصمت للحظة.
حتى لو كان قد لوّث شرف العائلة بسبب المقامرة، فإن موقعه كوريث كان ثابتًا لا يتزعزع.
صحيح أن إيزاك يمتلك المؤهلات اللازمة كوريث، لكن بالمقارنة معه، لم يكن حتى في مستواه.
ومع ذلك، هناك أمور تظل مزعجة رغم كل شيء.
فلو أنه، بمجرد أن خُطِب، انفصل عن منزل العائلة وعاش باستقلال، فلن يكون ذلك أمرًا سيئًا على الإطلاق. بل ربما كان الأفضل.
تسللت نظرة من إيرفين نحو كاليوبي، بعينين ضيقتين تمتلئان بالضجر.
مجرد كون تلك المرأة المتعجرفة لن تدخل إلى العائلة، يُعد نعمة بحد ذاته.
وبوجه يحمل ملامح منتهية الحسابات، تكلّم بنبرة توحي بالكرم والتنازل:
“حسنًا، سأحاول إقناع والدي بشأن هذا الأمر.”
ارتسمت على وجه كاليوبي ابتسامة ساخرة وهي ترد:
“لا تتحدث وكأنك تقدم معروفًا. هذا يثير الاشمئزاز. ألا تدرك من الذي يمسك بزمام الأمور الآن؟”
عيناها الحمراوان اللامعتان كانتا تحدقان به ببراءة مخادعة، بينما هو يمسح تعابيره عن وجهه ويعضّ باطن خده في غضب مكتوم.
يجب أن لا تدخل تلك المرأة هذا المنزل أبدًا.
نهضت كاليوبي من مقعدها وهي تبتسم ابتسامة مشرقة:
“إذن، اعتنِ بنفسك جيدًا يا شقيق زوجي. هل ما زلت تلعب بتلك الأحجية التي أهديتها لك؟ عندما أزورك المرة القادمة، سأرى إلى أي حد تمكنت من حلّها.”
أما إيرفين فبقي جالسًا مذهولًا، يمرر يده بين شعره بعصبية.
“من أين أتت هذه المرأة بحق الجحيم؟”
كان رأسه يؤلمه بشدة، لكن ما زاد الطين بلّة هو تلك الأحجية اللعينة.
لقد رماها في زاوية الغرفة ولم يلقِ عليها نظرة منذ ذلك اليوم، والآن عليه أن يخرجها ويبدأ بحلها.
فالسيدة الصغيرة من بيت الماركيز لا تبدو من النوع الذي يتراجع عما يقوله، وغالبًا ستتفقده بالفعل لتتأكد من تقدمه.
“اللعنة… اللعنة على هذا كله.”
لو اكتشفت أنه لم يلمسها أصلًا، فستسخر منه طويلًا بلا شك.
نهض يجر نفسه إلى غرفته وهو يأن من الضيق والعار.
في تلك الأثناء، عادت كاليوبي إلى قصر الماركيز وبدأت تفتش غرفة الملابس التي رتبتها إيلان.
اختارت فستانًا يناسب تمامًا البدلة الزرقاء الداكنة التي سيرتديها إيزاك، ثم أمرت سوزان بنزع جميع الزخارف غير الضرورية.
“ألن يبدو الفستان باهتًا جدًا بدونها؟”
أجابت كاليوبي وهي تقف أمام المرآة:
“مراسم تنصيب الفرسان في القصر الملكي أشبه بطقس مقدّس. لا يليق بنا الظهور بمظهر مبهرج. تلك رفاهية تخص بيوت الدوقات فقط. أما نحن، فنسعى حاليًا للانضمام إلى فصيل العائلة الملكية دون إثارة الأنظار، لذا الأفضل أن نبدو متواضعين.”
كانت متأكدة أن الحفل سيمر بسلام، فلو كان ثمة أمر جلل سيحدث، لكانت سمعت به مسبقًا.
كل ما أرادته هو أن تُرسخ في أذهان الناس صورة أول ظهور رسمي لإيزاك.
أغمضت عينيها، وسرعان ما غلبها النعاس.
✦✦✦
12. الوهم
وأخيرًا، جاء اليوم المنتظر — يوم تنصيب الفرسان.
ركبت عائلة الماركيز أناستاس العربة، متألقة حتى تكاد وجوههم تشع من شدة الزينة.
وكانت كاليوبي أيضًا أنيقة إلى حدّ مدهش.
كانت قد خططت للظهور بمظهر بسيط وهادئ، لكن كيركي أصرّت بعبارة واحدة: “يجب أن تكوني متألقة دون نقاش.”
وفي النهاية، كان لا مفر.
اضطرت سوزان أن تعيد جميع الزخارف التي أزالتها وهي على وشك البكاء.
بسبب البريق على وجهها أصبحت جفونها ثقيلة، وكلما حاولت لمس رموشها صفعتها كارولي بخفة على يدها مزمجرة، مما جعل كاليوبي تتساءل من منهما الأخت الكبرى.
رفعت كاليوبي رأسها وسألت وهي داخل العربة الهادئة:
“هل سيكون هناك أي حدث خاص بعد حفل التنصيب؟”
التفتت العائلة كلها نحوها في آن واحد.
أجاب أحدهم:
“بعد الحفل يُقام حفل استقبال للفرسان الجدد، فرصة مهمة لهم ليتعرفوا على النبلاء ويكسبوا دعمهم.”
أضافت الأم بنبرة عملية:
“لكن والدك وأنا سنغادر بعد انتهاء المراسم مباشرة، لدينا عمل، وكارولي وكابير ما زالا صغيرين.”
ابتسمت كاليوبي بلطف.
“إذن يمكنني البقاء قليلًا بعد الحفل، فخطيبي سيكون معي على أي حال.”
جاء صوت كيركي محذرًا:
“لم تحظي بعد بظهور رسمي كامل، لذا حاولي ألا تبقي طويلًا.”
أومأت كاليوبي برزانة.
في الحقيقة، لم يكن إيزاك يحب الأماكن المزدحمة، لذلك لم تكن تنوي البقاء طويلًا أيضًا.
“بالطبع، سأتصرف كما يليق.”
ردت كيركي بابتسامة خفيفة:
“أعرف أنك فتاة تعتمدين على نفسك دائمًا.”
عندها لم يستطع إيلان أن يصمت أكثر فأضاف:
“نعم، أنت دائمًا تعرفين ما تفعلينه.”
رفعت كاليوبي زاوية شفتيها بابتسامة باهتة، دون رد، ووجهت نظراتها نحو النافذة.
كان القصر الملكي يلوح في الأفق، قلبها يخفق بشدة.
‘ذلك المكان… حيث تركني في الماضي.’
ومع ذلك، ارتسمت على وجهها ابتسامة مشرقة.
ففي هذه الحياة، لن يتمكن أبدًا من تركها مجددًا. لأنها ببساطة، لن تسمح له بذلك.
اقتربت العربة بسرعة من القصر.
كانت الساحة تعجّ بعربات النبلاء، ومع ذلك عبرت عربة الماركيز بوثوق من البوابة الرئيسية، كما يليق بمن يملك النفوذ.
راقبت كاليوبي المشهد بابتسامة خفيفة وهي تنزل من العربة بمساعدة إيلان.
وما إن وطئت قدماها الأرض حتى انصبت عليها عشرات النظرات.
من يعرفون الأخبار رمقوها بفضولٍ متفهم، ومن لم يسمعوا عنها عبسوا باستغراب وهم يهمسون لبعضهم متسائلين عن هوية تلك السيدة الجديدة التي رافقت بيت الماركيز.
التعليقات لهذا الفصل " 59"