“حتى لو تظاهرتِ بالهدوء ونجحتِ بطريقة ما في التقرب منه، لن تستطيعي إخفاء حقيقتك للأبد.”
“قلتُ لكِ من قبل، أريد فقط تجربة علاقة قصيرة قبل أن يتم عقد خطوبتي. ثم على أي حال…”
توقفت بيرتشي قليلًا عن الكلام، ثم تابعت بصوت منخفض:
“أنا من النوع الذي يملّ بسرعة، لذا على الأرجح سأنسحب بعد فترة.”
تجولت نظراتها بلا معنى فوق فنجان الشاي، وفي صوتها وميض إرادة ضعيفة كأنها تحاول إقناع نفسها بوجوب التوقف لاحقًا. رغم حديثها عن لقاءات سرّية وخطط متهورة، إلا أنها — في قرارة نفسها — كانت تدرك جيدًا أن عائلتها وعائلة غلايدرت لا يمكن أن تمتزجا أبدًا.
“لذا أفكر أن أتوقف قليلًا عن دروس المبارزة وأخرج أكثر، عليّ أن أنجح قبل أن أبلغ الثامنة عشرة.”
“واو، تتحدثين عن الحب وكأنه مهمة رسمية.”
“وما الفرق بينهما؟”
“طريقة تفكيرك مثيرة للإعجاب، لكن ماذا لو لم تنجحي؟ فأوتيس غلايدرت ليس شخصًا يسهل التعامل معه.”
نظرت كاليوبي إلى فنجان الشاي الفاتر أمامها، ثم أسندت مرفقها إلى مسند الكرسي وقالت:
“ذلك مستحيل.”
(ها هي مجددًا، تلك الثقة التي لا تشبه الثقة بقدر ما تشبه الكبرياء).
كان أوتيس غلايدرت، رغم صغر سنه، من النوع الذي يحكم بعقلانية تامة، لا بعاطفة. ولهذا السبب، لن يحاول أبدًا الارتباط بابنة عائلة دايلروس. فكرت كاليوبي في ذلك بينما تحاول ألا تقلّل من شأن الفتاة أمامها، بل تابعت في عقلها أفكارًا أخرى.
(بما أنه لم يُذكر في المستقبل أي شيء عن مهاراتها في المبارزة بعد سن الثامنة عشرة… فلا بد أنها تركت السيف تمامًا بعد ذلك).
كان ذلك مؤسفًا برأي كاليوبي، فمهارتها في المبارزة كانت لافتة للنظر فعلًا، حتى بالنسبة لشخص لا يفهم كثيرًا مثلها، كانت تبدو كموهبة حقيقية تلمع.
(لكن من أنا لألومها؟ أنا أيضًا ألقيت بنفسي إلى الموت من أجل الحب، فكيف أجرؤ على تسميتها غبية؟)
ابتسمت بسخرية خفيفة، وهي توبّخ نفسها في سرّها.
إن كانت بيرتشي قد تخلّت عن موهبتها بدافع الحب، فكاليوبي نفسها كانت قد وهبت حياتها كلها له، بلا تردد.
ربما بدت تلك الأفعال حمقاء في عيون الآخرين، لكن من يعيشها يشعر بأنها أهم شيء في العالم. وربما كانت كاليوبي تحاول، بتلك الأفكار، تبرير حماقاتها الماضية أيضًا.
عيناها الحمراوان اللتان كانتا تحملان عادة دفئًا خافتًا، تلألأتا بلون بارد لوهلة قصيرة. لقد كانت مرهقة بما يكفي من شؤونها الخاصة.
كانت تعرف حدودها جيدًا، ولم تكن ترغب في إهدار طاقتها على ما لا يمكنها تغييره أو السيطرة عليه.
لذلك، سواء استمرت بيرتشي في حبها اليائس أو تخلّت عنه، لم يكن الأمر يعنيها كثيرًا. لكن ما كان مؤسفًا فعلًا في نظرها هو شيء واحد فقط.
“يا آنسة.”
كانت تقصد مهارتها في المبارزة، ذلك الشيء الوحيد الذي يُفترض ألّا تخسره.
“الأمير أوتيس غلايدرت يحب الأشخاص الموهوبين في أي مجال.”
كانت تلك كلمات تشبه القليل من التشجيع، يرسلها الأحمق إلى الحمقاء.
“حقًا؟”
“سمعتُ هذا منه شخصيًا، فخذي كلامي على محمل الجد.”
قالت كاليوبي ذلك وهي تنهض من مقعدها.
“إن فكرتِ جيدًا في ما تتقنينه، ستجدين ما يمكنك إبرازه أمامه. أما الآن، فسأرحل، لدي موعد بعد درس المبارزة.”
ظنّت أن هذه النصيحة الصغيرة لا بأس بها، ثم خرجت من الشرفة بهدوء. لكن بيرتشي أوقفتها فجأة.
“ومن أين سمعتِ ذلك؟”
ابتسمت كاليوبي وأجابت ببساطة:
“لأنه صديقي.”
ثم غادرت المكان من دون رغبة في إطالة الحديث أكثر.
جلست بيرتشي في مكانها للحظة، تنظر إلى فنجان الشاي الذي برد تمامًا.
“صديقه؟ أوتيس غلايدرت؟”
ذلك الذي لا يسمح لأي امرأة بالاقتراب منه، يملك صديقة؟
شعرت بيرتشي بجفاف في حلقها، فرفعت الفنجان وشربت كل ما تبقى دفعة واحدة.
لكن الماء البارد لم يُطفئ اضطرابها، بل زاد شعورها بعدم الارتياح.
نهضت أخيرًا وغادرت إلى غرفتها، غير مدركة تمامًا ما الشعور الذي يملأ صدرها.
✦✦✦
أما خطوبة عائلة ماركيز أَنَستاس وعائلة الكونت إستيفان، فقد جرى التحضير لها بسرعة.
ورغم أن عائلة إستيفان لم تكن فقيرة، إلا أنها لم تكن تضاهي الثراء الفخم لعائلة أنستاس، ولذلك تولّت الأخيرة كل ترتيبات الحفل تقريبًا.
وبينما كانت كاليوبي تفحص بنفسها تفاصيل الزينة واحدة تلو الأخرى، قالت وهي تتذكر أمرًا ما:
“أما عن حفل الخطوبة فلا مشكلة، لكن بعد الزواج، من الأفضل أن يعيش هو في منزل عائلة الماركيز.”
رفع إيلان رأسه من فوق الأوراق التي كان يوقّعها.
كان قد مرّ وقت طويل منذ أن رأت والدها آخر مرة.
جلست كاليوبي أمامه على طاولة الضيوف في مكتبه، تراجع معه كل تفاصيل القائمة الخاصة بالخطوبة.
“لا مانع، فهو الابن الثاني على أي حال، لكن ما السبب؟”
“حال عائلتهم فوضوي جدًا، ولا أرغب في العيش هناك. وبما أننا سنستقلّ لاحقًا على أي حال، فأفضل أن نقيم مؤقتًا في قصر الماركيز حتى ذلك الحين.”
“افعلي كما تشاؤين.”
“كنت واثقة أنك ستوافق.”
من بين ابنتين أو ربما ثلاث، لم يكن لذلك السيد أي اهتمام يُذكر بكيفية عيش ابنتها الكبرى، لذا فالأمر بالنسبة لها سواء كان هكذا أو هكذا، لا فرق عندها.
أنهت كاليوبي كلامها بنبرة ساخرة، ثم وضعت الأوراق على الطاولة، وفركت عينيها المتعبة، وحدّقت في السقف.
“في الحقيقة، كنت أود أن آخذه معي فور إعلان الخطوبة.”
“هذا غير ممكن.”
“نعم، نعم، كنت أعلم أنك لن تسمح، لذلك أجلت الأمر لما بعد الزواج.”
“حتى وإن كنتما مخطوبين، لا يجوز لرجل وامرأة غير متزوجين أن يعيشا تحت سقف واحد.”
“لم أقل أننا سنعيش في الغرفة نفسها.”
“لا تلعبي بالألفاظ. في النهاية، إن بدأتما بالعيش تحت سقف واحد، فسيرى الناس ذلك وكأنكما تتقاسمان الغرفة نفسها.”
“حقًا، كم هم فضوليون هؤلاء الذين يتدخلون في شؤون الآخرين.”
تمتمت كاليوبي بنغمة خفيفة، ثم نهضت من مكانها.
جميع الأوراق التي كانت تقرؤها كانت مرتبة بعناية على طرف الطاولة.
نظر إيلان إلى جانب وجه ابنته وهي تهمّ بمغادرة المكتب، وقال:
“…وربما، إن تغيّر قلبك يومًا ما.”
“هاه؟”
ضحكت كاليوبي ضحكة ساخرة، أكبر من أي مرة سابقة.
“أرجوك، لا تقل إن مشاعري قد تغيّر هذا الزواج.”
رغم أن عينيها كانتا منحنِيَتَين بابتسامة لطيفة، إلا أن بريقهما الأحمر كان بارداً حدّ الصقيع.
“أعرف جيدًا أن الأمر ليس كذلك، لكن يبدو أنك صرت تجيد قول الأكاذيب اللطيفة مؤخرًا.”
في الماضي، لم يكن يقول لها حتى جملة مجاملة كهذه.
حقًا، إن من يظل صامتًا يُعامَل كالأحمق فقط.
الآن بعد أن أصبحت تُظهر نفسها بوضوح وتتحرك بحرية، صار أخيرًا يعاملها كإنسان.
استدارت كاليوبي لتغادر المكتب، لكن إيلان أوقفها مجددًا.
“هذا الأسبوع، قررت حضور الحفل الذي سيُقام في القصر الملكي.”
“حفل في القصر الملكي؟”
توقفت كاليوبي وسألته.
تساءلت في نفسها عمّا يكون الحفل، لكن الجواب جاء قبل أن تتذكر.
“حفل تنصيب الفرسان الجدد المنضمين إلى فرسان القصر الملكي.”
“آه…”
ذلك هو الحفل الذي سيشارك فيه ايزاك مع الكونت إستيفان.
في الأصل، كان من المفترض أن يشارك شقيقه الأكبر، لكن بتدخّلها تغيّر الأمر وأصبح إيزاك هو من سيحضر هذه المرة.
مهما يكن، فذلك أول ظهور رسمي له، لذا يجب أن تراه بعينيها.
“في الماضي… أعتقد أنهم ذهبوا بدوني، أليس كذلك؟”
تذكّرت فجأة بعد أن قال ذلك.
كان الانضمام إلى فرسان القصر الملكي يُعد من أعلى مراتب الشرف في المملكة، لأنهم يمثلون القوة العسكرية للملك نفسه.
لذلك كان حفل التنصيب يُقام دومًا بشكل مهيب.
في العادة، لا حاجة لعائلة نبيلة مثل عائلة أناستاس لحضور الحفل بأكملها، لكنهم فعلوا ذلك حينها لإظهار ولائهم للملك وتأكيد انضمامهم لجبهة الملكيين.
أما هي، فلم تكن من ضمنهم.
وقتها كانت تتجنب الظهور أمام الناس، فشعرت بالارتياح أكثر من الإهمال.
ويبدو أن لا شيء مميزًا حدث في ذلك الحفل، لأن شيئًا آخر لم يعلق في ذاكرتها.
“حسنًا، فهمت.”
“جيد.”
خرجت كاليوبي من المكتب بخطوات هادئة، ثم ما لبثت أن بدأت تمشي بخفة تكاد تشبه الركض.
شعور الترقب لِما ستُلبس إيزاك في أول مناسبة رسمية ملأ صدرها حماسة.
في أي مكانٍ يذهب إليه، الصورة القديمة عن كونه الابن الثاني ذو العيون الغريبة الذي تُهمّشه العائلة ستُمحى في هذه الحياة الجديدة.
فهو بالنسبة لها أسمى من كل شيء، ومن حقها وحدها امتلاكه، لكن هذا لا يعني أن الآخرين يحق لهم معاملته باستخفاف.
عادت كاليوبي إلى غرفتها وقفزت فوق السرير.
كانت تسمع صوت سوزان توبّخها في الخلفية، لكنها تجاهلته ونادت على جاك.
التعليقات لهذا الفصل " 58"