رأى أوتيس وجه كاليوبي المبتسم ابتسامة مشرقة، وظن للحظة أنه أساء السمع. رمش بعينيه بضع مرات مثل بقرة بلهاء، ثم أطلق ضحكة جافة، ضحكة تشبه ضحكة رجل مسن.
“ولماذا عليّ أن أفعل ذلك؟”
“لقد أخبرتك قبل قليل، أليس كذلك؟ هذا الرسام تدعمه شقيقتي.”
“صحيح، من الأدب أن نترك الأسبقية لمن اكتشف أولًا. لكن ينبغي أن يُمنح الرسام أيضًا فرصة الاختيار.”
“كارولي ستجيد الأمر. فلا تقلق أكثر من اللازم.”
الرسامة التي تدعى ليونا كانت قد تلقت دعم كارولي في البداية، لكنها بعد أول معرض لها قبلت عرض غلايدرت بسرعة وغادرت جانبها. كارولي حاولت جاهدة استعادة قلبها، لكن بما أن غلايدرت كان قادرًا على توفير دعم أكبر، فإن الرسامة لم تعد إليها. حتى بعدما أصبحت راشدة، ظلت كارولي تتحسر على خسارتها، لذا كانت كاليوبي تفكر:
لو تدخلت الآن ربما لا تغادر هذه المرة. فمقدار الدعم المالي سيزداد مع مرور الوقت، وإذا حصلت على إذن العائلة فبإمكانها زيادته على الفور. حينها حاولت كارولي وحدها وفشلت، ففقدت الرسامة.
“على أية حال، أنت لا تقدم سوى الدعم المادي.”
“وهل على الراعي أن يقدم أكثر من ذلك؟”
“لا، لا حاجة. لكن كارولي ستقدم ما لا داعي لتقديمه.”
في الأساس، السبب في أن رسامة مغمورة وامرأة تمكنت من إقامة معرض في مبنى جمعية الفنانين هذه، كان نفوذ كارولي، أي عائلة أناستاس. تركت كاليوبي أوتيس بلا رد وسارت نحو داخل المبنى. خلفها كان يسمع وقع خطوات تتبعها.
“ماذا تقصدين بذلك؟”
“دعني أرى… مثلًا، أن توفر لها بيئة مناسبة للعمل.”
“ورشة عمل أو ما شابه يمكنني توفيرها بسهولة.”
“ليس هذا ما أعنيه.”
وأثناء مرورها بعدة لوحات فكرت: لا يوجد من يضاهي الرسامة التي اختارتها كارولي.
“حماية الرسامة، تعريفها بالأشخاص المناسبين… تهيئة البيئة تشمل ذلك أيضًا.”
“لكن هذه أمور على الراشد أن يقوم بها بنفسه.”
“صحيح. لكن تلك الرسامة التي رأيتها قبل قليل… إنها امرأة، وفوق ذلك من العامة.”
سكت أوتيس عند كلام كاليوبي. أن تكون من العامة لم يكن مشكلة، فأغلب الفنانين الذين يحتاجون دعمًا كانوا من العامة. لكن بفضل الملك قبل جيلين، صار في هذه المملكة كثيرون لا يستسيغون أن ترث النساء الألقاب أو يصبحن فرسانًا أو حتى يعملن بالفن. حتى في جمعية الفنانين التي يدعمها، كان يوجد عدد غير قليل من هؤلاء الشيوخ المتحفظين.
“ما أعنيه أنها ستتلقى اهتمامًا إضافيًا بقدر محبتها. أما أنت، صحيح أنك قادر على تقديم دعم مالي أكبر من كارولي، لكنك رجل مشغول، فهل ستولي مثل هذا الاهتمام؟”
لم يجد أوتيس ما ينقض به كلامها، ومع ذلك لم يتفوه بالاستسلام. كان يشعر بأن الإقرار بذلك يعني خسارة أمامها. فتكلم بعناد:
“الأمر يجب أن يترك لقرار الرسامة نفسها.”
“عناد…”
ضحكت كاليوبي بسخرية كما لو كانت تتوقع جوابه، فغمر أوتيس شعور وكأنه عاد طفلًا في الخامسة.
بعد قليل وصلا إلى أعمق قاعة في المعرض. هناك تواجد بعض الزوار وعدد من الرسامين، وكذلك كارولي. أسرعت كاليوبي بخطواتها لتقف بجانب الطفلة بشكل طبيعي.
“أين كابير؟”
“ذهب ليتحدث قليلًا مع رئيس الجمعية.”
“هكذا إذًا؟”
“أعتقد أنه رأى أن من الأفضل أن يظهر بصورة جيدة أمام الذكور لا الإناث، حتى لو كان صغيرًا. قال إنه سيعرّفه بفنان جيد وأخذه معه.”
“حقًا…”
لم تخف كاليوبي امتعاضها، أما أوتيس الواقف بجانبها فقد عقد حاجبيه قليلًا. كارولي، غير آبهة بردة فعلها، أمسكت بطرف تنورة كاليوبي بلطف.
“انظري، لدي رسامة أدعمها. هل تريدين أن تعرفيها؟”
“طبعًا.”
ومع انتقالهما، تبعهما أوتيس تلقائيًا. رفعت كارولي نظرها إليه باستغراب.
“هل حضرت أيضًا يا سموّ غلايدرت؟”
فجأة أدرك أوتيس أنه كان يسير خلف كاليوبي بشكل طبيعي تمامًا، فشعر بالارتباك داخليًا. لم يكن ثمة سبب يدفعه لمرافقتها. لكنه لم يُظهر شيئًا، وأومأ برأسه ببرود.
“حدث ذلك صدفة.”
“لقد التقينا عند المدخل.”
“أها، فهمت.”
لحسن الحظ لم تبدُ كارولي مهتمة كثيرًا، واكتفت بتصديق الأمر بسهولة، ثم اتجهت نحو الرسامة ليونا.
ليونا كانت فتاة أصغر مما توقعت كاليوبي. بل لم تكن امرأة بحق، بل أشبه بطفلة. ربما لم تبلغ الرابعة عشرة بعد. أليست صغيرة جدًا؟
“آه، لقد جئتم يا آنسة المركيز.”
ليونا كانت تقف وحدها على غير عادة الرسامين المشاركين في المعرض. بخلاف ذاك التجمع من الرسامين على الطرف الآخر، بدا وضعها مختلفًا بوضوح. كارولي عقدت حاجبيها لبرهة، لكنها سرعان ما رسمت ابتسامة مشرقة وتحدثت بوقار كما يليق بابنة أسرة نبيلة.
“إنها الرسامة التي أدعمها، فمن الطبيعي أن آتي لرؤيتها. وهذه أختي كاليوبي أناستاس. وذلك هناك هو…”
“أوتيس غلايدرت.”
“آه… إذن أنتما شخصان جليلان.”
ليونا النحيلة الصغيرة انحنت تحيةً لهما، ثم حين التقت أعينها بهما ابتسمت ابتسامة مشرقة.
“لم أظن أبدًا أنني سأتمكن من إقامة معرض بهذا الشكل. كل هذا الفضل يعود… إذن، بماذا يجب أن أناديكما الآن؟”
حين وجدت أمامها ابنتي أناستاس معًا، بدت مترددة للحظة وهي تسأل.
“ناديني آنسة كارولي.”
الطفلة بدا أنها تحب الرسامة بحق، إذ سمحت لها باستخدام اسمها الخاص، ثم التفتت إلى كاليوبي. هذه الأخيرة تبادلت النظرات معها للحظة قبل أن تقول لليونا:
“أمر مدهش رغم صغر سنك.”
“آه، صغيرة؟ لقد حان وقت زواجي تقريبًا.”
عند هذا الجواب، ارتسمت على وجه كاليوبي وأوتيس ملامح غريبة. أي زواج؟ بالكاد بدت في الرابعة عشرة. ليونا، وقد استشعرت دهشتهم، حكت خدها بخجل:
“آه، في الحقيقة عمري سبعة عشر عامًا هذا العام.”
“سبعة عشر؟”
“نعم… بيتنا كان فقيرًا جدًا. كنا نأكل القليل، فصار جسمي هكذا. لكن منذ أن بدأت آنسة كارولي تدعمني، تحسنت أحوال بيتنا كثيرًا. حتى إنها وفرت لي مكانًا منفصلًا للعمل. إنها حقًا منقذتي.”
“منقذتكِ؟ لا، كل ما في الأمر أنني دفعت ثمن موهبتك.”
لكن كتفيها ارتفعا في خيلاء، واضحة الفخر رغم كلماتها. أوتيس ألقى نظرة على تلك الفتاة الصغيرة أمامه، وأفكاره ازدحمت في رأسه. من المؤكد أن شقيقة كاليوبي تُكِنّ للرسامة مشاعر عميقة. وليس من اللائق أن يُنتزع منها ما تحب بهذه الطريقة.
كارولي رفعت نظرها إليه مباشرة وسألت بوضوح:
“هل عثرت على رسام لفت انتباهك يا لورد أوتيس؟”
هو صمت للحظة قبل أن يهز رأسه.
“لا. كلهم مميزون، لكن لا أحد يناسب ذوقي.”
“أفهَم… مؤسف حقًا.”
كاليوبي اكتفت بابتسامة هادئة، غير آبهة بغيرها، فيما ليونا أخذت تلمح إليها من طرف عينها بدهشة طفيفة.
قريبًا، عاد كابير برفقة رئيس الجمعية. وما إن وقعت عيناه على أوتيس حتى انحنى بعمق يكاد يلامس الأرض، ثم التصق به يعدد أسماء الرسامين الذين لفتوا نظره، ويستفيض في وصف أعمالهم. لكن الغريب أن اسم ليونا لم يُذكر إطلاقًا، مع أن مجرد النظر إلى اللوحات يكفي ليدرك أيهم الأبرع.
حين خرج أوتيس أخيرًا من المبنى بعد معاناة طويلة، كان الوقت قد اقترب من الظهيرة.
“انتهيتَ أخيرًا؟”
“ما زلتِ هنا؟”
خلال انشغاله مع رئيس الجمعية، كانت كاليوبي وإخوتها قد خرجوا بالفعل برفقة ليونا. من وجهة نظره، بدا وكأنهم تركوه عمدًا فريسة وانسحبوا. وكان يظن أنهم ابتعدوا منذ زمن، فإذا بها تقف عند الحائط الأبيض، تنتظره. وشعر بشيء من الإرهاق ينجلي عن جسده لمجرد رؤيته لها هناك.
“لقد عانيت كثيرًا.”
كاليوبي أشارت بعينيها نحو العربة حيث تجلس كارولي.
“بما أنك أصغيت إليّ جيدًا، ألا نتناول الغداء سويًا؟”
“متى أصغيتُ إليكِ؟”
“إذن، لن تتناول الغداء معي؟”
كان من المقرر بعد هذا المعرض أن يكتفي أوتيس بوجبة غداء سريعة مدتها نصف ساعة، ثم يعود إلى مكتبه لينغمس في جبل من الأعمال. فمع اقتراب عيد ميلاد والدته، كان الدوق والده يلقي عليه بكل ما تبقى من مهام وينشغل هو بالتنقل.
لو فكر بعقلانية، لكان الرفض والعودة إلى عربته أفضل خيار. لكنه قال ساخطًا:
“متى قلت إنني لن أتناول الغداء؟”
كاليوبي حدّقت فيه للحظة بنظرة كأنها تحدق في طفل صغير، ثم اعتدلت واقفة.
لكن أوتيس ظل غارقًا في أفكار متشابكة: هل يليق برجل أن يتناول الطعام منفردًا مع امرأة مخطوبة أصلًا؟ وهل يليق بامرأة مخطوبة أن تدعو رجلًا غريبًا إلى الطعام؟
كاليوبي قطعت حبل تفكيره بصوتها الهادئ:
“فلنذهب إذن؟ لدي مكان اخترته مسبقًا.”
“حسنًا.”
وما الضير؟ لسنا نفعل شيئًا مريبًا. هكذا قال لنفسه، ومسح تلك الهواجس عن ذهنه فورًا.
✦✦✦
“…إذن، هذا ما تسمينه غداءً؟”
أوتيس كان جالسًا الآن مع كاليوبي في مطعم فخم. فور أن تحقّق الموظفون من هويتهما، أسرع أحدهم لاستدعاء المدير. وما إن ظهر المدير حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة مبالغ فيها، ثم قادهم مسرعًا إلى الطابق العلوي.
لكن الحقيقة أنّ…
“أريد أن أتناول ستيك.”
“ألم أقل لك ألا تأكلي اللحم وحده؟”
“وأنت نفسك لا تأكل البصل.”
“لكنني أتناول باقي الخضار.”
“ليونا، ماذا تحبين أن تأكلي؟”
“أنا آكل كل شيء بلا مشكلة.”
كارولي، وكابير، بل وحتى ليونا الرسامة معهم جميعًا. أوتيس شعر برغبة في ضرب رأسه بيده، لكنه تماسك حفاظًا على مظهره.
أما كاليوبي، الجالسة في مواجهته، فقد بدا عليها الاستمتاع بمشاهدة ملامحه المرهقة. لم تخف ابتسامتها، بل مدت قدمها تحت الطاولة، ودفعت قدمه بخفة.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 47"