ما إن بلغ كاليوبي خبر وصول رسالة لها حتى هرعت مسرعة إلى أسفل الدرج وانتزعتها من يد خادم البريد. فقد كانت قد أرسلت رسالة إلى إيزاك قبل حلول مساء الأمس، وظنت بيقين أن الجواب قد وصل منه.
غير أن الاسم المكتوب على الرسالة لم يكن ما توقعته قط.
“ما هذا؟ أوتيس غلايدرت؟”
تجعد جبينها بشدة حتى بدا الغضب واضحًا لا يمكن إخفاؤه. كيف يجرؤ على إرسال رسالة إليها بعدما فرّ يومها هاربًا كالمذعور؟ شعور بعدم الارتياح اجتاحها، لكنها فتحت الرسالة على الفور. أخذت تقرأها ببطء، ثم مالت برأسها قليلاً.
“يريد أن نبقى… أصدقاء؟”
كانت الرسالة مكتوبة بأسلوب مطوّل ورسميّ، لكن المغزى لم يكن يتعدى ذلك: أعرف أنك تكنين لي مشاعر قوية، لكنني لا أنوي الارتباط بك. مع ذلك، يمكن أن نبقى أصدقاء. وأكرر، لا تتوهمي أبدًا أنني قد أفكر في الخطوبة منك. رجاءً لا تخلطي الأمور. … هذا كل ما في الرسالة.
“هل فقد عقله؟”
كادت كاليوبي أن تلقي بالرسالة جانبًا بملامح ساخرة، لكنها توقفت. خطر لها أنها قد تستغل أوتيس في إذلال إيرفين إيستيفان والحد من غروره. عندها ابتسمت وأعادت طي الورقة بعناية.
“ممم… نعم، الصداقة أمر رائع.”
لا تعلم ما الذي دفعه لكتابة تلك الرسالة، لكنها عقدت العزم على أن تستخدمه جيدًا. لا تقلق يا صديقي العزيز، لست من ذلك النوع الحقير الذي يستغل الناس دون مقابل. سأجعلك تُستَخدم من دون أن تدري، وسأعطيك في المقابل ما يناسبك. أليس هذا جوهر الصداقة؟ في قلبها، صار أوتيس بالفعل أعز صديق.
بعد أن أرسلت له جوابًا، توجهت كاليوبي كأن شيئًا لم يكن إلى الجناح المنفصل حيث يرقد ديتـرون أناسْتاس. فقد أدى ابتلاعه المستمر لعشبة رونتز و ويدي إلى أن أصبح غير قادر على مغادرة سريره مطلقًا. لم يعد يقوى إلا على التنفس ورمش عينيه، وقد شلّ المرض جسده بالكامل.
دايلورين، التي تكن له كراهية عميقة، لم ترف لها عين أمام مشهد الشيخ المريض، وأدت مهامها كما أُمرت بدقة تامة.
“جئت يا جدي الكبير.”
جلست كاليوبي بهدوء على المقعد الموضوع مسبقًا بجوار سريره. لم يكن أحد يزوره سواها، ولهذا أُعدّ لها ذلك المقعد الدائم. يا لها من حياة عقيمة عاشها هذا الرجل.
مدّت يدها وأمسكت بيده المتخشبة. بالكاد استطاع ديتـرون أن يحرك عينيه نحوها ويطرف بجفنيه. أخذت تدلك يده اليابسة، وقالت بنبرة لينة:
“مر وقت طويل، أليس كذلك؟ لقد كنت مشغولة جدًا.”
بإشارة سابقة، كان دايلورين قد أعدت مسحوق نبات ممزوج بالماء وجاءت به. تناولته كاليوبي، ثم أخذت تغرف القليل بالملعقة الفضية وتقربه من فم الشيخ.
“إنها عشبة التجدد، ذات فعالية عظيمة. تعبت كثيرًا للحصول عليها كي تعين جسدك المتهالك.”
ارتجفت عيناه اليابستان قليلاً. وضعت الملعقة بين شفتيه المتصلبتين، وتأكدت من أن حلقه يتحرك بابتلاع، ثم كررت الأمر مرات عدة. كانت حركاتها بالغة الحرص كأنها حفيدة حقًا تخشى على جدها.
حين فرغ الوعاء، أعادته لدايلورين وأشارت لها بالخروج. بقيت نظرات الأخيرة متشبثة بكاليوبي حتى غادرت.
“كنت أفكر أن أؤجل الأمر أطول قليلًا… لكنني بالأمس التقيت بإيزاك، ومزاجي رائع.”
أمام هذا الشيخ العاجز عن النطق، راحت تفرغ كلمات طالما أخفتها. صوتها كان هادئًا بطيئًا، أشبه بتلاوة تراتيل، ومعه أخذ جسد ديتـرون يرتعش تدريجيًا.
“لذا قررت تقديم الموعد قليلًا. للأسف، ليس أمرًا سارًا بالنسبة لك يا جدي.”
ابتسمت كاليوبي بابتسامة باردة كالقمر، ثم شدّت قبضتها على يده المرتجفة كأنها لا تنوي تركها.
“بما فعلته بأمي وبِي، كان من العدل أن أتركك تهلك مهملًا. لكن أي طريق اخترت، فالمصير واحد: العذاب.”
كان جسده كله يهتز حتى اهتز السرير نفسه، بينما كانت عيناها خاليتين من أي دفء. مشاعره الممزوجة بين الذعر والخذلان فاضت في نظراته حتى احمرت عيناه بانفجار الشعيرات الدموية.
“كما قلت، إنها عشبة التجدد. تُجفف عادة لزيادة مفعولها، لكن قليلون يستخدمونها هكذا. أتدري لماذا؟”
والحق أن الألم ينتج من تصادم مفعولها مع مفعول الرونتز والويدي اللذين جرعتهما له سابقًا. لكنها لم تشرح له ذلك، فهي نفسها لم تكن متأكدة أيهما السبب الأشد.
كانت قد قرأت عن استعمال تلك الأعشاب في مذكرات قديمة للقديسة؛ إذ استخدمها الناس يومًا في مواجهة ملك الشياطين، حتى وإن كانت آلامها تفوق الاحتمال. إيزاك هو من ذاق العذاب الأكبر من هذه التجارب، إذ استخدموا الويدي والرونتز معًا لعلاج شلله، ثم لجأوا إلى هذه العشبة أيضًا… آه، لا رغبة لها في تذكر المزيد.
“كنت دائمًا ترغب في إطالة عمرك، أليس كذلك؟ فلا تقلق، حتى مع الألم المبرح، ستحصل على ذلك.”
فالعشبة ستمنحه تجددًا مؤكدًا، حتى لو تسببت له بعذاب يفوق الوصف.
“ستتألم، لكنك لن تموت.”
لم يستطع المسكين أن يصرخ أو يتوسل، وكل ما ناله كان تمزقًا داخليًا يفتك بجسده. ارتجف صوته المكتوم كأنه شهقة متقطعة بين الحياة والموت. ومع ذلك، ازدادت ابتسامة كاليوبي اتساعًا، ناعمة الملامح، صافية القسمات.
“جدي العزيز…”
انسكبت خصلات شعرها الأبيض كخيوط العنكبوت فوقه، وانعكس نور عينيها الحمراء على محياه كأنها نجم بعيد. ومع اتساع عينيه نصف المقلوبتين من الألم، انحنت كاليوبي تهمس بصوت حنون، أشد حنانًا من أي وقت مضى:
“عش طويلًا… طويلًا جدًا.”
في هذا الجحيم.
كان صوتها المتضرع كصوت حفيدة تخشى على جدها، حتى إن الرجل العجوز شعر بالرعب رغم فقدانه الوعي تدريجيًا. كان يتمنى لو أن الأمر مجرد حلم، لكن مستقبله لم يعد سوى الهاوية التي حفرتها له بيديها، حفرة لا مخرج منها.
ابتسمت كاليوبي وهي تحدق في وجهه المرهق المغمى عليه، ثم غادرت الغرفة بخطوات هادئة. أمام الباب، كانت دايلورين واقفة تنتظر، لم تجرؤ على الابتعاد. تقدمت منها كاليوبي بابتسامة رقيقة وهمست:
“أطعميه الرونتز والويدي في وقت ثابت كل يوم، مرة واحدة. لكي لا تزول آثار الشلل. ثم بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، حين تعود الموجة، أعطه التولان المجفف.”
“حسناً… مفهوم.”
كانت تنوي أن تُبقيه على قيد الحياة فترة طويلة جدًا. تشلّ جسده، وتطعمه من عشبة التجدد التي تهب ألماً حارقًا، فلا يموت أبدًا. وكانت كاليوبي تتساءل في داخلها.
“أنا حقًا… فضولية.”
ثم تابعت سيرها بخطوات خفيفة نحو المبنى الرئيسي.
“أيأتي موته أولًا… أم جنونه؟”
✦✦✦
عادت كاليوبي إلى غرفتها وهي تشعر بالكآبة. لم يكن سيئًا ما فعلته بديترون، لكن منظر معاناته جعل فكرةً لا تفارق رأسها: “لابد أن إيزاك قد تألم كثيرًا في الماضي، تألم حتى الموت.”
كم كان يتألم؟ كم عانى؟ ذلك الذي تخلى عنها وغادر، ليذوق العذاب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة… لم تستطع أن تطرد ذلك التعلق الموجع من قلبها. وبينما كانت غارقة في أفكارها، جاءها استدعاء من زوجة المركيز، فرفعت رأسها سريعًا.
“لقد دعوتموني؟”
دخلت كاليوبي إلى مكتب كيركي، فحدجتها هذه الأخيرة بنظرة طويلة، ثم أشارت إليها بالجلوس على الأريكة وسألت:
“إلى متى تنوين الاستمرار بهذا؟”
أدركت كاليوبي بعد طرفة عين أن الحديث عن ديترون. فاكتفت بابتسامة هادئة. ابتسامة نقية إلى درجة لا تشبه أبدًا ابتسامة شخص دفع إنسانًا إلى الجحيم.
“لا أعلم… ربما حتى أشعر بالملل؟”
أن تدرك امرأة مثل كيركي الأمر بهذه السرعة… حقًا مخيفة كما دوماً. أخفت كاليوبي نواياها، وجلست بأدب وقالت:
“لن أطيل الأمر كثيرًا.”
هزّت كيركي رأسها وكأنها تقول إنها لن تسأل أكثر مما يجب.
“سأتولى مسؤولية حفل الديبوتانت الخاص بك.”
“هل هذا بمثابة مكافأة على نجاحي في المهمة؟”
“بالضبط.”
“في هذه الحالة، سأقبلها شاكرة. آه، ولكنني سأكون مشغولة قليلًا في الفترة القادمة.”
“لقد أصبح لدي خطيب، وأريد أن يعرف العالم كله أنني عاشقة.”
ظهرت على وجه كيركي علامات الحيرة، غير عارفة ماذا تقول.
“… يبدو أنه راق لكِ إذًا.”
“إنه وسيم، أليس كذلك؟”
“……”
“ولطيف أيضًا.”
“……”
“وجسده رائع.”
“……”
“ويجعلني أشعر بالقشعريرة.”
“… يسعدني إذن أنكِ معجبة به.”
أرسلت كاليوبي ضحكة مشرقة، صافية كالبلور، فودّعتها كيركي مبتسمة لكنها ما لبثت أن عادت إلى مكتبها بوجه مضطرب. أما الوصيفة التي كانت تقف بجوارها، فقد ابتسمت وهي تصب لها كوبًا جديدًا من الشاي ثم سألتها:
“هل تشعرين بالقلق؟”
“مضحك حقًا… تترك فتىً من آل غلايدرت، الذي لا يُهزم في جمال الوجه، ثم تضحك هكذا.”
“إنه أمر طبيعي أن يشعر المرء بالحزن عندما يحين وقت زواج ابنته.”
“لكن أنا وتلك الفتاة… لسنا على تلك الشاكلة.”
“بالفعل.”
ثم سرعان ما تخلّت كيركي عن التفكير أكثر، معتبرة الأمر غير جدير بالاهتمام، وعادت لتركيزها على الأوراق أمامها. أما الوصيفة فبقيت واقفة بخضوع بجوارها. راح صوت القلم وهو يخُطّ فوق الورق يتكرر مرة بعد أخرى… حتى بلغ العشرين تقريبًا ثم توقف فجأة. عندها، ابتسمت الوصيفة بهدوء، ورفعت بصرها نحو كيركي.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 41"