ظلّ صامتًا للحظة، بوجه لا يمكن معرفة ما يدور في داخله، ثم فتح فمه أخيرًا.
“في البداية… نعم، كذلك كان.”
كانت إجابته كتموج خفيف على سطح ماء ساكن بلا نسمة. وكاليوبي، التي تعرف طباعه جيدًا، انتظرت كلماته التالية بصمت.
“أما الآن… فإنني فقط أريد أن أضعك تحت نطاق مسؤوليتي.”
حدّقت كاليوبي بتعمد إلى حركة شفتيه وهي تتكلم.
“حتى وإن كانت ثقيلة، أريد أن أؤمن بأنني الوحيد القادر على تحمُّل مسؤوليتك.”
فتحت عينيها فجأة، وابتسمت كما لو كانت أسعد من في العالم. كانت تظن أن ذلك وحده يكفي، أنه سيفهمها حتى دون أن تنطق. لكنها، حين تفكر الآن، تندم أنها لم تقل شيئًا في حينه.
“وأنا أيضًا…”
تمنت أن يبدو صوتها الآن مشابهًا لصوته.
“وأنا أيضًا، تمنيت أن أكون الشخص الوحيد القادر على تحمُّل مسؤوليتك.”
في هذه الحياة التي أُعطيت لها من جديد، أرادت أن تحقق كل ما لم تستطع في حياتها السابقة. أن تجد مكانها، أن تنتشله من حفرة تُسمى “العائلة”، أن تُغيّر مصيره الذي كان ينتهي بالموت.
“تعريف المسؤولية الذي أعرفه… أنت من علّمني إياه.”
همست كاليوبي بهدوء، تنظر إلى الملاءة البيضاء.
حتى وإن لم يستطع في النهاية أن يفي بمسؤوليته تجاهها، فهي لا تزال تريد أن تتحمّلها نحوه. لذا، فكل ما عليه الآن هو أن يسير في الطريق الذي رسمته له.
لقد أخطأ في حقها — خطأ جسيم. لذلك، كانت تعتقد أنه لا بأس أن تتصرف كما يحلو لها الآن. أمالت جسدها ثانية، رغم أن عينيها مغمضتان، كل شيء بقي ناصع البياض — لأنها كانت تتذكر عينيه.
—
فتحت عينيها. كان هناك ضوء.
ضوء يشبه حرارة الظهيرة لكنه يضيء بلون أزرق يشبه الفجر.
ستائر بيضاء تتراقص أمام النافذة التي يتخللها هذا الضوء، وملاءة بيضاء تحت جسدها. حركت جسدها فوق القماش الناعم، ثم رفعت نظرها إلى الذراع الزرقاء التي تحتضن جسدها. عيناها التقتا بعينين بيضاوين.
“آيزاك.”
نادته كاليوبي بابتسامة. كانت عيناه خاليتين من أي تعبير، لكنها شعرت بأنه لم يبعد نظره عنها منذ أن فتحت عينيها. وحين نظرت في عينيه، أدركت.
هذا مجرد حلم.
لقد رحل من بين يديها منذ زمن طويل، وهي الآن تكافح لتستعيده.
في الماضي، كان هو واقعها. أما الآن، بعد أن ولّى، فقد أصبح مجرد حلم. لم تحاول أن تستفيق من الحلم، بل أسندت رأسها إلى صدره، وفركت جبينها به.
“رأيت حلمًا.”
“أي نوع من الأحلام؟”
“حلمًا مخيفًا.”
“لا ترغبين في الحديث عنه؟”
“لا، لا أرغب.”
زاد من شدة احتضانه لها. ومع أن هذا مجرد حلم، إلا أن دقات قلبها ترددت واضحة في صدرها. قالت، وشعرها الأبيض يتشابك بينهما:
“حدث شيء لا يمكن التغلب عليه… كنت خائفة، وكأنني سقطت في هاوية.”
كاليوبي، تلك الحمقاء التي لم تستطع تجاوز موته، ووقفت على قمة البرج. لم تكن خائفة من خيانته لها، بل من اختفائه الكامل من هذا العالم.
لو كان لا يزال حيًا، يتنفس في هذا العالم، لما اختارت ذلك المصير.
لقد كان عينيها، وصوتها، وحياتها، وكل شيء لها.
وحين اختفى من العالم، شعرت أنه من الطبيعي أن تختفي معه.
ظل صامتًا، كما لو كان يقرأ المشاعر التي ترفرف فوق عينيها، ثم فتح شفتيه ببطء:
“سواء كان حلمًا أو أي شيء آخر، فلا داعي لأن تخافي.”
“ولمَ لا؟”
ضيّق عينيه بهدوء، ونظرها يتنقل. كاليوبي كانت تعرف ما سيقوله.
ثم، بصوت كخيط من خيوط العنكبوت يتدلى في الفجر، قال:
“لأنني سأكون معك، في أي مكان.”
ابتسمت كاليوبي لا إراديًا. نعم، لقد قال هذا سابقًا. لكنها لم تتذكر ما كانت إجابتها في ذلك الوقت. شعرت بأن دمعة دافئة تتجمع بجانب عينيها.
“كاذب…”
تشوّش نظرها من الدموع، فلم تعد ترى ملامحه.
“هذه كذبة، أليس كذلك؟”
وفي تلك اللحظة، تغير المشهد.
رمشت كاليوبي ببطء.
انهمرت الدموع المتجمعة في عينيها، وما رأت أمامها لم يكن بشرته الشاحبة، بل قاعة ذهبية براقة.
نظرت يمينًا ويسارًا، وأدركت حينها فقط أين كانت.
قاعة القصر الملكي — تلك التي تُفتح فقط في أفخم الحفلات.
كان النبلاء من حولها يضحكون خلف مراوحهم، ينظرون إليها.
بعضهم بنظرة شفقة.
نظرت إلى الأمام. كان ظهره ظاهرًا. ركع على ركبة واحدة أمام القديسة صاحبة الشعر الأحمر، الجميلة.
“أنا، آيزاك إستيبان،”
همست كاليوبي، دون أن تمسح دموعها:
“لا، لا تفعل…”
“أسترد قسم الفارس الذي كنت قد قدمته لكاليوبي أناكاستاس.”
“توقف عن الكلام…”
“وأقدمه للقديسة كليمنتيا.”
لم ترَ وجهه.
لكنها رأت في عيني القديسة شفقةً وذنبًا وهي تنظر إليها.
هربت كاليوبي آنذاك من ذلك المكان. لم تستطع تحمل سخرية الآخرين وصوته الذي ينكرها. خرجت من القاعة بهيئة الخاسرة.
لكن الآن، لأنها تعرف أن هذا حلم، لم تحاول كبح نفسها. صرخت بأعلى صوتها.
ارتدّ صدى صراخها في القاعة الوهمية.
لهثت وبكت، وهي تقول:
“آيزاك، إن ذهبت، ستموت. وأنا أيضًا سأموت. حتى لو لم تكن تعلم، هكذا ستكون النهاية.”
“أرجوك… قل لي إن هذا مجرد حلم…”
هي توسلت بصوت مبحوح بعد أن أطلقت صرخة:
“قل لي إن كل ذلك لم يكن سوى حلم.”
لكن لم يأتِها أي جواب.
“قل لي إنك لم تتركني، وإن فقداني لك، وفقداني لنفسي، لم يكن سوى كذبة.”
ثم فتحت عينيها.
كانت الأغطية مبللة تمامًا بعرقها البارد. وعيناها وخدّاها كانت لزجة من الدموع. نظرت كاليـوبي إلى السقف الأزرق قبل بزوغ الفجر، وهي تلهث بأنفاس متقطعة. كان رأسها يؤلمها، وكان هناك وخز في صدرها، لم تستطع التوقف عن البكاء. استدارت إلى اليسار، وخدشت صدرها بأظافرها حتى احمر جلدها وبدأ الدم يظهر.
كانت تلهث، وتخفي وجهها في الشراشف. الحلم لم يكن حلمًا، وكان هذا الألم هو الحقيقة. صرخت بصمت حين أدركت أن الواقع الخالي منه ليس كاذبًا.
قضت كاليـوبي الفجر في ألم ودموع. وعندما أشرقت الشمس تمامًا خارج النافذة، نزلت من السرير ومشت إلى المرآة متلمسة الأرض. كان وجهها مشبعًا بالحزن والاشتياق، بالغضب والألم، يغلفه اليأس القاسي. وقفت أمام المرآة ورفعت زوايا شفتيها بالقوة. بدا شكلها بشعًا.
“أنا بخير.”
رغم أن غيابك يهدمني يومًا بعد يوم، إلا أني لا أملك الحق في الانهيار. فأنا المرأة التي رجعت عبر الزمن لتستعيدك. كاليـوبي رفعت شفتيها المشوهتين بأصابعها وقالت لنفسها:
“أنتِ بخير.”
يجب أن أكون بخير. نظرت إلى الشمس التي أضاءت ظهرها وضحكت مرة أخرى. تلك الابتسامة لم تكن مشوهة، بل كانت جميلة بشكل كامل.
—
7. الخطوبة
كانت كاليـوبي تقضي أيامها بسلام، تبتسم كما لو لم يكن بها أي شيء. لم تنكر الشرخ الذي شعرت به تلك الليلة، لكنها لم تكن تملك وقتًا لتغرق فيه.
كانت تتلقى دروسها من المعلمين الخصوصيين، وتزيد من ساعات تدريبها على السيف، وتقضي وقتها مع الأطفال، وكانت تزور ديتـرون أناسـتاس من حين لآخر. حالته الصحية كانت تزداد سوءًا بشكل واضح، لكن دايرولين، على ما يبدو، كانت تكن الحقد في قلبها، فأدت دور الخادمة المخلصة دون أن ترف لها عين.
“الماركيز يطلب رؤيتك.”
عندما سمعت صوت كبير الخدم وهي في غرفتها، نهضت كاليـوبي بعزم. بالنسبة للآخرين، كانت أيامها تبدو هادئة، لكنها كانت أكثر توترًا من أي وقت مضى.
كانت تعلم أن تسريعها في التقرب من بنات العائلات النبيلة يعني أن موضوع خطوبتها بات قريبًا. ففي الماضي، لم يمر وقت طويل على أول لقاء شاي حتى بدأ الحديث عن الخطوبة.
تبعت كاليـوبي كبير الخدم حتى وصلت إلى مكتب إيلان. كان والدها جالسًا في نفس الوضعية وكأنه لوحة جامدة، يعمل على أوراقه.
“الآنسة كاليـوبي قد وصلت.”
أخذت نفسًا عميقًا، ودخلت المكتب. لم يكن هناك سبب آخر لاستدعائها بهذا الشكل المفاجئ.
“استدعيتك لأن لدي ما أريد قوله لك.”
شدّت كاليـوبي يديها الموضوعتين بهدوء على فخذيها.
“تفضل.”
رفع إيلان عينيه عن الأوراق ونظر إلى ابنته ذات التعبير البارد. ركزت كاليـوبي كل انتباهها على ما سيقوله. كانت تعرف مسبقًا ما الذي سيتفوه به. الكلمات التي كانت تنتظرها بشغف.
“إنه بخصوص خطوبتك.”
أخيرًا، الإعلان المنتظر لرؤيتك.
اشتعل قلب كاليـوبي لحظة سماع ذلك. عضت الجزء الداخلي من شفتيها وضبطت تعابير وجهها.
خطيب كاليـوبي، حبيبها، كان آيزاك إستيبان، الابن الثاني للكونت إستيبان، قائد فرسان القصر الملكي وأحد المقربين من الملك. كانت عائلة ماركيز أناسـتاس قد اتخذت موقفًا محايدًا لفترة طويلة، لكن منذ وفاة الماركيز والماركيزة السابقين، وتولي ديتـرون قيادة العائلة، بدأت تميل نحو فصيل النبلاء.
لكن ولسوء الحظ، كان فصيل النبلاء في حالة ضعف شديد. فقد تبنى الملك الحالي سياسات صارمة أسكتت أولئك الذين كانوا يسعون إلى امتصاص دماء الشعب.
في البداية، واجه معارضة كبيرة. لكنه، وإن لم يكن قائدًا بارزًا، فقد بدأ بكشف فساد أولئك النبلاء سرًا، وأسقطهم واحدًا تلو الآخر، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن. وفي مثل هذه الأوقات، كان ديتـرون، الذي انساق خلف إغراءات فصيل النبلاء، يمثل مشكلة حقيقية.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 34"