عند صراخه، هرعت الخادمة مذعورة إلى خارج الغرفة. بدأ ديتريون يتنفس بعمق محاولًا كبح الغضب الذي عاد يتصاعد في داخله. وكالعادة، تسبب الغضب بألم حاد في صدره. ضغط على صدغيه بقوة وارتشف بضع رشفات من شاي الأعشاب.
“إن استطعت فقط خداع تلك الفتاة، سأتمكن من العودة إلى المبنى الرئيسي.”
كانت الحياة في الجناح الملحق غير مناسبة لحالته الصحية. كان عدد الخدم قليلاً، والمال الذي يُمنح له ضئيلاً، وكانت الغرف والأثاث بسيطة إلى حدٍ مزعج. كان يعتقد أن مرضه يزداد سوءًا فقط لأنه يعيش في هذا الجناح المليء بالغبار.
“من المرجح أنهم سيوكلون إليها إدارة أحد المشاريع أيضًا.”
كان من تقاليد عائلة المركيز أن يتم إسناد أحد المشاريع إلى كل فرد من الأبناء المباشرين حالما يبلغ سن الرشد. ويتم تقييمهم بناءً على مدى نجاحهم في إدارة هذا المشروع، ومن ثم يتم تحديد مكانتهم داخل العائلة. وكلما حققوا نجاحًا أكبر، زادت حصة المشاريع التي يمكنهم وراثتها.
في الأصل، كانت هذه القاعدة تُطبق فقط على الذكور الذين لا يرثون لقب المركيز، ولكن زوجة المركيز، كيركي، قررت تطبيقها على الأبناء والبنات معًا، ما يعني أن كاليوبي ستتسلم أحد المشاريع أيضًا.
“في السابق لم أكن راضياً عن ذلك، لكنه الآن يصب في مصلحتي.”
لأن من المستبعد أن تتمكن فتاة في مقتبل عمرها من إدارة مشروع جيدًا، فلا بد أن يتم تعيين مستشارين ومعلمين لمساعدتها، وكان ديتريون يخطط للاستحواذ على هذا المنصب. في العادة، كان يتم اختيار كبار أفراد العائلة لتولي هذا الدور، لكن بما أن كيركي قد تخلصت من جميعهم، لم يتبقَ أحد سوى ديتريون.
كان يعلم أن محاولة استهداف أبناء كيركي مباشرة أمر محفوف بالمخاطر، فهي لن تتوانى عن إعاقته. بل وحتى المُعلم الذي تم تعيينه لأطفالها كان من عائلة دوقية، مما يعني أن لا مجال لديه للتدخل.
“أن تعهد بتعليم أبناء العائلة إلى غرباء من عائلتها الخارجية؟ وقاحة لا تُغتفر.”
كان مقتنعًا أن كيركي تتآمر للسيطرة على العائلة بأكملها. أما إيلان الساذج فلم يدرك هذا الأمر، بل قام بإبعاده رغم أنه من كان يخدم مصلحة العائلة. لذا فإن إقناع كاليوبي وتولي منصب مستشارها سيكون وسيلة مثالية ليعود إلى المبنى الرئيسي.
“خمس سنوات فقط.”
تذكّر الكلمات التي تجرأ الطبيب المُستقدم من خارج العائلة على قولها بشأن مدة حياته المتبقية. هو فرد من عائلة المركيز النبيلة. لا يمكنه أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في هذا الجناح الحقير. كان يجب أن يموت في غرفته الفاخرة في المبنى الرئيسي، ويُدفن بفخر في مدفن أفراد العائلة. لأنه نبيل. وهذه الكرامة كانت الشيء الوحيد الذي لا يستطيع التنازل عنه.
“سيدي، لقد عثرنا على مكان الآنسة كاليوبي.”
عاد الخادم في تلك اللحظة وأخبره بمكان وجود كاليوبي. اتكأ ديتريون على عصاه التي كانت بجانب الأريكة ونهض واقفًا.
“حسنًا، عليّ الذهاب.”
نظر إليه الخادم بنظرة توحي بالارتياب وكأنما يتساءل عما يخطط له هذه المرة، لكنه ما إن التقت عيناه بعيني ديتريون حتى انحنى بسرعة وساعده.
كانت كاليوبي قد خرجت إلى الحديقة التي تقع بين الجناح الرئيسي والجناح الملحق، رغم إصابة قدمها. عندما رأى ديتريون من بعيد شعرها الأبيض، نقر لسانه.
“تس تس، ما قصة هذا اللون؟ ليست إلا خردة تالفة.”
“يُقال إنها صُدمت بشدة، ولهذا أصبح لون شعرها هكذا.”
“وهل سألتك؟ لا تُجب على ما لم أطلبه!”
أغلق الخادم فمه وهو يبتلع الشتائم داخله. اقترب ديتريون من كاليوبي وأخفى تعبيراته. لا بد أنها تشعر بالخذلان بعد أن نبذتها كيركي. حاول أن يرسم على وجهه ابتسامة بدت لطيفة، لكنها بدت كأنها مرسومة بشكل غريب وغير مناسب. لم يدرك ذلك بالطبع.
“ما الذي تفعلينه هنا وحدك؟”
رغم أن سوزان كانت بجانب كاليوبي، فإن ديتريون لم يكن يعتبر الخدم من الناس، ولهذا سألها بهذه الطريقة. كانت كاليوبي تحدق في مكان بعيد بملامح حزينة، وما إن تحدث حتى تظاهرت بالدهشة والتفتت نحوه.
“آه، جدي الأكبر.”
“سمعت أن زوجة المركيز طردتك، فشعرت بالحزن وجئت للاطمئنان عليك.”
ضحكت كاليوغب بتعب على كلامه. كان فمها مرسومًا على شكل ابتسامة، لكن حاجبيها المنكسرين أثاروا الشفقة. لكن ديتريون لم يكن من أولئك الذين يشعرون بذلك، فتظاهر بالقلق طبقًا لما خطط له.
“زوجة المركيز امرأة باردة بلا مشاعر. ومن المؤكد أنها تكرهك لأنك ابنة من زواج سابق. تعالي معي.”
ثم استخدم عصاه ليلمس برفق كاحلها الملفوف بالضمادات.
“لابد أنها طردتك دون علاج مناسب. سأُحضِر طبيبًا من خارج العائلة ليعالجك. أنا أيضًا لم أُخصص لي طبيب بسببها.”
بدأ بانتقاد زوجة المركيز محاولًا كسب تعاطف كاليوبي، مؤكدًا أنه يشاركها المعاناة. نظرت إليه كاليوبي بهدوء وقالت:
“كنت أرغب فقط في أن أعيش بسلام مع أفراد العائلة.”
“كلام سخيف. لو لم أكن أنا من يهتم لأمرك، لما بادر أحد برعايتك. عائلة المركيز الآن تحت سيطرة زوجة المركيز بالكامل، فلا أحد سيظهر لك الود.”
“أجل، يبدو أن هذا هو الواقع.”
“بالضبط. لكن لا تقلقي، سأكون إلى جانبك.”
“حقًا؟”
عندها فقط، ابتسمت كاليوبي. كان ديتريون واثقًا أن فتاة جاهلة نشأت بين العامة ستنخدع ببعض الكلمات اللطيفة، وشعر أن خطته تسير كما أراد. ابتسم لها بثقة، غير مدركٍ للسمّ الذي يكمن خلف ابتسامتها.
“سأعتمد عليك يا جدي.”
قضت كاليوبي بعض الوقت معه بقدر ما تحتمله نفسها، ثم ودعته. عندما خرجت من غرفة زوجة المركيز وهي تترنح، بدأ الخدم يتهامسون. معظم الحديث دار حول أن زوجة المركيز لا تحب ابنة زوجها السابق. وكان هذا ما أرادته كاليوبي، لذا لم تحاول إسكاتهم بل تركتهم يتحدثون كما يشاؤون.
“كنت أعلم أنه سيصدق الأمر بهذه السهولة ويقترب مني.”
شعرت بانزعاج شديد في معدتها ففتحت نافذة الغرفة وجلست في مواجهتها. الهواء البارد ساعدها على تهدئة نفسها قليلًا. كانت سوزان بجانبها ترتب شعرها المتناثر.
“إذاً، تقصدين أن زوجة المركيز لم تطردك فعلاً؟”
سألتها سوزان وهي تمشط شعرها، ولم يكن واضحًا ما إذا كانت تشعر بالارتياح أم القلق. شعرت بالدهشة والخوف في نفس الوقت، لأن كاليوبي، وهي فتاة صغيرة، تفكر بهذه الطريقة العميقة. كانت فتاة طيبة معها، لكنها مختلفة عن باقي الفتيات بوضوح.
“صحيح، لذلك حافظي على لسانك. يجب أن يظن الجميع أن علاقتي بزوجة المركيز سيئة.”
“طبعًا، لا يمكنني أن أتكلم بذلك في أي مكان.”
ربطت سوزان شعرها بشريط أحمر وتراجعت للخلف. فقد سمعت خطوات صغيرة مترددة تقف خلف الباب. ابتسمت كاليوبي وأشارت لسوزان، التي ابتعدت وفتحت الباب بحذر. سُمعت عندها همهمة طفولية متوترة.
“آنسة كارولي، هل ستدخلين؟”
“أ-أنا…”
ترددت كارولي ولم تدخل فورًا، بل بقيت تتلفّت في الممر كأنها تبحث عن شخص ما. بدا أنها لم تأتِ وحدها. من خلفها، ظهرت خادمتها مارون، تبتسم بتوتر وتتمتم بشفتيها لسوزان.
“السيد الشاب كابير جاء أيضًا”.
آه، يبدو أنه جلب كارولي معه لأنه خجل من المجيء بمفرده. وبينما كانت كارولي تتلفّت بتوتر، ركضت فجأة نحو الزاوية وسحبت كابير من معصمه.
“انتظري، أنا لم أستعد نفسي بعد!”
خلف كابير، كان خادمه يدفعه بلطف إلى الأمام قائلاً وهو يبتسم بإحراج:
“سيدي، تأجيل الواجبات ليس من شيم أبناء النبلاء.”
“أعلم ذلك…!”
وفي النهاية، سُحب كابير إلى أمام غرفة كاليوبي. فتحت سوزان الطريق لهما بصعوبة وهي تحاول كتم ضحكتها، ودخل الطفلان الغرفة بحذر، دون أي مجال للتراجع. جلست كاليوبي على الأريكة ورحّبت بهما بابتسامة هادئة.
“ما الأمر؟”
“أم… هذا…”
رغم أنه دخل الغرفة، لم يتمكن كابير من قول ما يريد. ظل ينظر بعيدًا غير قادر على مواجهة نظراتها.
“آه! كم أنت بطيء!”
وفجأة، كما هو متوقع، انفجرت كارولي التي كانت معه. ركضت بسرعة نحو كاليوبي، أمسكت بطرف فستانها بيد، وأشارت إلى كابير بالأخرى. كان الإشارة بالإصبع أمرًا غير مهذب بين النبلاء، لكن لا بأس…
“كابير يقول إنه آسف. إنه جبان لا يستطيع المجيء وحده، لذا جئتُ معه.”
“هيه!”
“ما بك؟!”
ردّت كارولي بصوت أعلى على كابير، الذي رفع صوته بغضب كأنه يصرخ. وحين نظرت إليه كاليوبي بصمت، نسي كابير أن يواصل صراخه على شقيقته، وتحدث بصوت خافت وكأنه تراجع:
“آسف، لأني… لم أكن منتبهاً لما حولي.”
“ليس شيئًا يستحق منك الاعتذار. لقد كان مجرد حادث.”
“وأيضًا…”
ظل كابير متحرجًا، ولم يتمكن من النظر مباشرة، بل أطلق كلماته وهو يُشيح ببصره.
“شكرًا لك. بفضلك لم أتعرض لأي أذى.”
“لا داعي للشكر.”
ردّت كاليوبي ببرود ومن دون أي تظاهر بالتواضع، ثم التفتت إلى سوزان قائلة:
“سوزان، هل يمكنك إحضار الحلوى التي اشتريناها اليوم؟ أظن أنه بقي منها القليل.”
“نعم، آنستي.”
“وأحضري جاك أيضًا. أظن أني طلبت منه أن يستريح في غرفته، لكن يبدو أنه هرب ولا أراه في أي مكان.”
“حاضر! آنستي!”
ركضت سوزان إلى خارج الغرفة، بينما شعر كابير بشيء من الإحراج. لقد استجمع كل شجاعته ليقول كلمات الشكر والاعتذار، لكن رد كاليوبي البسيط جعله يشعر وكأنها لا تُقدّر الموقف كما ينبغي.
جلست كارولي، التي ما تزال على ركبتي كاليوبي، بجانبها، ثم وجهت كاليوبي حديثها إلى كابير:
“اجلس على الأريكة. بما أنك أتيت، اشرب فنجانًا من الشاي قبل أن تذهب.”
“أه، هاه؟ أ-أجل.”
جلس كابير دون أن يفكر في الأمر، لكنه سرعان ما أدرك أنه يجلس في مواجهة مباشرة معها، وبدأ يندم على اختياره.
‘لو كنت جلست أقرب إلى الجهة الجانبية قليلاً… والآن إن غيرت مكاني، سيبدو الأمر غريبًا.’
رمق كارولي بنظرة خفيفة، علّه يجد منها دعمًا، لكنها كانت تهزّ ساقيها بسعادة وهي تفكر في الحلوى، مما جعله يشعر أنها أخت لا تفيده بشيء.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 22"