“يا لك من غير مبالية.”
“ليس لدي ما أقوله دفاعًا عن نفسي.”
اكتفت كاليوبي باعتذار مقتضب بدلًا من تقديم الأعذار، أما كيركي فلم ترد، بل أمرت الخدم بإزالة الخزانة التي كانت فوق كاحلها. وعندما أُزيلت الخزانة أخيرًا، كان كاحلها الأبيض متورمًا بشدة ومائلًا إلى الاحمرار. حدّقت كيركي في الكاحل قليلًا ثم قالت:
“يجب أن تُعالَجي.”
“سأذهب إلى معالج الأسرة.”
“حسنًا، سأذهب معك.”
“عفواً؟ لا بأس، يمكنني الذهاب وحدي…”
بطبيعة الحال، فضّل خدم زوجة الماركيز تنفيذ أوامرها على أوامر الآنسة الصغيرة في العائلة.
“سألمسك قليلًا الآن.”
جاءت خادمتان من كلا الجانبين وسندتا كاليوبي بلطف، التي وقفت وقد ارتسمت على وجهها علامات الذهول. مشَت كيركي بصمت في المقدمة، وتبعها الخدم الذين ساندوا كاليوبي.
يوجد في بيت الماركيز أربعة معالجين في المجمل، وقد تم تعيينهم بحسب عدد أفراد العائلة تحسبًا لأي طارئ. أما المعالج الذي كان مخصصًا لديترون، فقد تم الاستغناء عنه منذ فترة طويلة.
كانت كاليوبي تتلقى العلاج الآن على أريكة في غرفة نوم زوجة الماركيز، وهو أمر لم تكن تتخيله.
“لحسن الحظ، لا يبدو أن هناك ضررًا في العظام، لكن لا بد أنه مؤلم. سأستخدم سحر العلاج.”
عند سماع تلك الكلمات، فكّرت كاليوبي للحظة ثم هزّت رأسها.
“لا داعي، فقط أعطني دواء ولفّي الكاحل بضماد.”
كانت كيركي تجلس على الأريكة المقابلة، منتصبة الظهر دون أن تُقدَّم لها حتى كوب شاي. همست لها إحدى الخادمات بشيء، فنظرت كيركي إلى كاليوبي نظرة تأنيب وقالت:
“إنك عنيدة بطريقة غريبة. لا حاجة لتحمّل الألم في هذا المنزل. خذي العلاج.”
“لدي غرض معين من الإصابة.”
“بذلك الكاحل المصاب؟”
لم تجب كيركي، بل رفعت حاجبيها استغرابًا، بينما وضع المعالج الدواء على قدم كاليوبي ولفّها بالضماد وهو ينظر إليها باستغراب.
وحين انتهى العلاج، تكلمت كيركي:
“كابير سبّب لك المتاعب، أليس كذلك؟”
نظرت كاليوبي إلى الخادمة التي همست في أذن كيركي، ثم ابتسمت وكأن شيئًا لم يحدث. لقد فهمت ما جرى في وقت قصير، وهذا يدل على مدى سيطرة كيركي على شؤون المنزل.
“أنا من اقترب فجأة، لا بد أن الطفل ارتبك. جزء من اللوم يقع علي.”
عادت كيركي للصمت، بينما حاولت كاليوبي أن تنهض مستندة على الأريكة.
“سأطلب من خادمتك أن تأتي. لا يبدو أن بإمكانك العودة وحدك بهذا الكاحل.”
“شكرًا للطفك. لكن، ألم تكوني في طريقك إلى مكان ما؟”
كيركي امرأة مشغولة. وبما أن سلطة الماركيز مقسومة بالتساوي بينها وبين زوجها، فلا بد أن عبء عملها كبير أيضًا. عند سؤال كاليوبي، أومأت كيركي برأسها مؤكدة. لكنها طرحت سؤالًا أخيرًا قبل أن تغادر:
“ولمَ ستستخدمين هذا الكاحل المصاب؟”
ضاقت عيناها وهي تحدّق في كاليوبي وكأنها تدرسها. لا شك أنها تملك حساسية عالية تجاه أي تغيّر في البيت، بوصفها المسؤولة عن شؤون العائلة. شعرت كاليوبي أنه لا مجال للتهرّب أو المراوغة كما فعلت مع سوزان، ففكّرت قليلًا ثم عرضت اقتراحًا:
“هلّا صرفتِ الخدم من هنا؟”
من دون تردد، لوّحت كيركي بيدها فانصرف الخدم، من المعالج إلى الخادمات، كما لو أن موجًا تراجع إلى البحر. أعجبت كاليوبي بسلوكهم المنضبط في أعماقها. لطالما اعتقدت أن كيركي بارعة جدًا في التعامل مع الناس.
“هل يمكن أن نقول إنني خرجت من هنا من دون أن أتلقى علاجًا؟”
رفعت كيركي حاجبًا عاليًا.
“ولماذا أفعل ذلك؟”
“أرغب في الاقتراب من ديترون أناستاس، عضو مجلس الشيوخ.”
لم تفهم كيركي ما الذي تعنيه هذه الفتاة. استرجعت انطباعها الأول عنها في غرفة الطعام. لم تكن تبدو فتاة سهلة المراس. فهل تمثل تهديدًا للعائلة؟
تجوّلت نظرات كيركي الحادة على وجه كاليوبي، وكأنها تقرأ ما يدور في ذهنها. فهمت كاليوبي مغزى تلك النظرة فانحنت قليلًا وقالت:
“لن يكون في الأمر ضرر للعائلة. إنه فقط لأجل انتقام شخصي. أعتقد أنكي، بل وحتى عائلة الماركيز بأكملها، ترغبين في إقصاء ديترون أناستاس. وهذا هو هدفي فقط. لا أظن أن هذا قد يسبب لك ضررًا.”
قد تكون كيركي أناستاس أكثر دهاءً من إيلان، وربما حتى أكثر منه حذرًا وحسابًا.
في البداية، عندما دخلت كاليوبي هذا البيت، اعتقدت أن كيركي تكرهها، وكانت هي أيضًا تجدها مزعجة. لكن بمرور الوقت، أدركت الحقيقة: كيركي لم تكن تهتم بها من الأصل. لم تكن تكرهها لأنها ببساطة لم تكن تراها جديرة بالاهتمام. والسبب الوحيد هو: لا حاجة لذلك.
لهذا السبب اختارت كاليوبي الحديث بوضوح بدلًا من التلاعب بالألفاظ. لأن كيركي من النوع الذي إن وجدت في كلامك فائدة، قد تساعدك بدلًا من تجاهلك.
“هل هو انتقام لأجل والدتكِ؟”
“يمكنك قول ذلك.”
رغم أن الأمر كان أيضًا انتقامًا ممن عذبوها في الماضي وعزلوها، بالإضافة إلى رغبتها في تربية خطيبها بشكل سليم.
ثم جاءت كيركي بسؤال آخر:
“إذاً، ربما تكنين لي بعض العداء كذلك؟”
عقدت كاليوبي حاجبيها قليلًا.
“ولمَ ذلك؟”
“لأني أنا من أخذت مكان والدتك.”
“هذا قول غريب.”
قالت كاليوبي ذلك بصدق. لم تكن تظن أن كيركي تشعر بأي ذنب تجاهها. ليست من ذلك النوع من الناس. ما يهم كيركي هو إن كانت كاليوبي تحمل ضغينة ستترجم إلى أذى حقيقي أم لا. ولفهم ذلك، حدّقت فيها.
انحنت كاليوبي قليلًا، وهي تتحدث بنبرة باردة متعمدة:
“أليست والدتي من طُلِّقت من والدي؟ وسمعت أنكما تزوجتما بعد سنوات من الطلاق، أليس كذلك؟”
“صحيح. لكن المشاعر البشرية لا تُقصّ بهذه البساطة.”
“ولا حاجة إلى قصها. من أساء لوالدتي كان ديترون و…”
ابتسمت كاليوبي بسخرية لا إرادية.
“…والدي، الذي لم يستطع حمايتها.”
مسحت تلك الابتسامة عن وجهها ورفعت رأسها.
“لا أحمل أي مشاعر تجاهكِ، تمامًا كما أنكِ لا تحملين شيئًا تجاهي.”
“هكذا إذًا.”
كيـركي أومأت برأسها فورًا عندما قدمت كاليوبي سببًا مقنعًا. كانت من الأشخاص الذين يمكن التفاهم معهم، لكنها أدركت ذلك في وقتٍ متأخر جدًا في الماضي. حدّقت كيركي في ابنة زوجها، التي كانت تجلس مستقيمة بوجه بارد. لقد كانت تعرف إيتـييل.
المرأة التي استحوذت على حب الكثير من الرجال بجمالها المشابه لنور شمس الربيع. ورغم أن والدها لم يكن سوى بارون، إلا أنها نالت احترامًا لا بأس به بفضل شخصيتها وتصرفاتها النبيلة. ومع ذلك، فإن ابنتها… شيءٌ ما فيها مختلف.
“أود أن أطلب من السيدة المركيزة معروفًا.”
“تحدثي.”
“أريد مساعدتك مرة واحدة فقط، حين أكون بحاجة إليها. سيكون طلبًا بسيطًا جدًا.”
“ومن يدري ما الذي تنوين فعله؟ إذا تمكنتِ من التخلص من ديتـرون دون أذى، فسأقدم لك المساعدة. لكن، من الصعب أن أصدق أن فتاة في الرابعة عشرة من عمرها يمكنها تحقيق شيء ذي قيمة.”
كان وجهها كأنه نُحت من جليد الشتاء القارس. عيناها، أنفها، شفاهها، وحتى رموشها الناعمة كانت تشبه تمامًا إيتـييل التي في ذاكرتها. لكنها كانت طفلة صنعت من مادة مختلفة، رغم تشابه المظهر.
“أنا واثقة أنني لن أفشل، لكنني أفهم أنني قد لا أبدو موثوقة. لهذا لم أطلب شيئًا مبالغًا فيه. فقط شيء واحد أريده، شيء واحد فقط، إذا أحضرته لي، سيكون كافيًا. لا يمكن شراؤه من السوق، ولهذا أطلبه على وجه الخصوص.”
“ولماذا تحتاجين إلى هذا الشيء؟”
“سأخبرك عندما يحين وقت استخدامه.”
وحين أبدت كاليوبي إشارة إلى رغبتها في النهوض، حرّكت كيركي الجرس فوق الطاولة. على الرغم من صوت الرنين الخفيف، إلا أن الخدم التقطوه كأنهم أرواح، وفتحوا باب الغرفة على الفور. وكان من بينهم خادمة كاليوبي، سوزان، التي هرعت نحوها بوجه مليء بالقلق، وساعدتها على النهوض.
“سأغادر الآن إذًا.”
وبينما كانت الفتاة تبتعد نحو الباب، ردّت كيركي متأخرة:
“لن أحميكِ إن أخطأتِ.”
أجابت كاليوبي دون أن تلتفت إليها:
“هذا لطفٌ كبير منكِ.”
قد يبدو في آذان الخدم الذين لا يعلمون حقيقة الحوار، أن السيدة المركيزة – التي أصبحت زوجة الأب – كانت تتعامل ببرود مع الآنسة وتطردها، ولكن المعنى الذي تضمّنه الحديث كان مختلفًا تمامًا. إذا فشلت خطة كاليوبي أو تم كشفها، فإن كيركي لن تتدخل ولن تساعدها. قد يُقال إن هذا تصرف قاسٍ…
‘لكنها أخبرتني مسبقًا أنها ستتجاهل الأمر، وهذا بحد ذاته يُعد لطفًا.’
“آنستي، هل أنتِ بخير؟”
سألت سوزان بحذر وهي تساندها. كان في صوتها شيء يدل على أن السيدة المركيزة قد فعلت بها شيئًا مؤذيًا، ليس فقط إصابة ساقها. هزّت كاليوبي رأسها، مضيفة مسحة من الحزن على وجهها.
“أنا بخير.”
وبذلك التعبير البائس، كادت سوزان أن تبكي. لكن الحقيقة أن كاليوبي كانت بخير فعلًا. بفضل كـابير، استطاعت أن تحظى بلقاء منفرد مع السيدة المركيزة وتحصل منها على وعد بمساعدة واحدة. كان ذلك مكسبًا حقيقيًا.
—
“هكذا إذن؟”
ديترون أناستاس ابتسم ابتسامة تشبه الأفعى بعد أن تلقى تقريرًا من خادمه. لقد سمع للتو أن كاليوبي، التي أصيبت في ساقها أثناء محاولة إنقاذ كابير هذا الصباح، لم تتلقَّ علاجًا لائقًا وتم طردها من قبل السيدة المركيزة.
أن تسقط بتلك الطريقة السخيفة في الممر؟ فكر أن الدم الوضيع لا يمكن إخفاؤه. لكنه رأى في ذلك فرصة لاحتواء تلك الفتاة الغبية إلى جانبه.
“أين هي الآن؟”
“أوه، لا أعلم بالتحديد. جئت راكضة فور أن سمعت الخبر…”
“أيتها الحمقاء! اذهبي وابحثي عنها فورًا!”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 21"