“تلك المرأة الملعونة، كيف تجرؤ على ازدرائي؟”
دَقّ، دَقّ.
كانت لورين هانز وورث تصعد الدرج بخطواتٍ غاضبة.
حين عادت إلى قصرها، كانت نيران الغضب تشتعل في صدرها.
فقد كانت لتوّها قد لاقت ازدراءً تامًّا من جين فلورنس.
“كنتُ لا أريد قول هذا، لكن هل تعلمين ما الّذي جرى لابني حين كنتِ أنتِ وزوجكِ خارج القصر؟”
“لا، لا أعلم.”
“لقد تعرَّض للضّرب من قِبَل الدوق، ثمّ طُرِدَ من المكان. وإيفلين لم تفعل شيئًا سوى الوقوف والمشاهدة.”
“أفهِم.”
لم تقل جين صراحةً إنّها تزدريها، لكنّ تصرّفاتها وكلماتها كانت أوضح من أيّ شيءٍ آخر.
تلك النّظرات الفارغة الّتي لا يُعرَف معناها كأنها لم تهتم اذا كانت تُبصر الإنسان أمامها أم لا، وردودها الباردة الّتي لا تحمل اهتمامًا.
اهتزّ جسد لورين كلّه من شدّة الغضب وصاحت:
“من البداية وهي لا تروق لي! تلك الأمّ وابنتها الماكرة!”
دَقّ!
فتحت لورين باب غرفة إدْوِن بعنف.
“ما الّذي يحدث فجأة؟ من دون أن تطرقي الباب؟”
ردّ إدْوِين بضجرٍ وهو يفتح عينيه بعد نومٍ ثقيل.
كانت السّاعة تقترب من الثالثة بعد الظّهر، لكنّ إدْوين، الّذي نام مخمورًا ليلة أمس، لم يُفِق إلّا الآن، بسبب الضّجيج الّذي أحدثته أمّه.
“أتدري ما الّذي لاقيتُه بسببكَ؟!”
دَقّ، دَقّ.
كانت لورين، الّتي تعيش على مبدأ الأناقة والوقار، تُحدِث الآن ضجيجًا لا يُصدره إلّا حيوانٌ بريّ.
إندفعَت نحوه كأنّها في معركة، فأصاب إدْوِن الفزع والانزعاج.
“آه، ما بكِ من الصّباح؟ أنا مُرهَق!”
استدار على جنبه، رافضًا متابعة الحديث.
لكن لورين هجمت عليه تضرب ظهره بيديها قائلةً:
“استفق أيُّها الأحمق! السّاعة الآن الثالثة! أيعقل أن ينام رجلٌ سليم العقل والجسد إلى هذا الوقت؟!”
“آه، كُفّي!”
“أُفٍّ لك! لو كنتَ نصف ما هو عليه والدك! لا تشرب الخمر ليلًا ونهارًا، ولا تفضحنا بسبب فتاةٍ تافهة!”
“وماذا يهمّكِ إن شربتُ أم لم أشرب؟ الرّجال حين يجتمعون، من الطّبيعي أن يشربوا قليلًا. أمّاه، ألم تكوني يومًا امرأةً تفهم الرّجال؟”
“ماذا قلت؟! أتدري أيَّ إهانةٍ نلتُها اليوم فقط لأنّي أمُّك؟!”
تعلّقت لورين بياقة ابْنها كالمِصّاصَة لا تُفلتها، فدفعها إدْوين بغيظٍ وقال:
“تكلّمي بصراحة، لا تُدوّرين حول الموضوع. ماذا جرى؟ أأظلّ أُخمّن؟”
نهض إدْوين بشعرٍ منكوشٍ وقال بعصبيّة:
“كنتُ في طريق العودة من قصر كونت فلورنس!”
“ماذا؟ لِمَ ذهبتِ؟ وماذا قالت إيفلين؟”
اتّسعت عينا إدْوين فجأةً، وقد اختفى عنه الضّجر الّذي كان ظاهرًا قبل لحظات.
“لم أرَ تلك الفتاة أصلًا! لا أثر لها، ولا حتى خصلة شعر! بدلاً منها، تلقيتُ إهانةً فظيعةً من أمّها!”
“اللعنة… وماذا قالت السّيّدة؟”
“قالت إنّ ابنتها بريئة تمامًا! هه، أيُّ براءةٍ لفتاةٍ خانت خطيبها في الوقت ذاته، وأيُّ كبرياءٍ ذاك!”
كانت لورين مقتنعةً أنّ إيفلين خانت ابنها.
فكيف لفتاةٍ أن تترك رجلاً طيّبًا مثله لتلهو مع غيره؟
“ما أوقحها من فتاة!”
“هل شرحتِ للسّيّدة جيّدًا أنّ تلك الواقعة كانت مجرّد سوء فهم؟”
“سوء فهم؟ سُوءُ فَهْمٍ، تقول؟!”
اتّسعت عينا لورين وصرخت وهي تصرّ على أسنانها:
“أتُراكَ تُصدّق ذلك؟ أحقًّا؟ لِمَ انقلبتَ مع تلك المرأة في حديقة الحفل إذًا؟! إن كنتَ ستخون، فافعلها على الأقلّ بذكاءٍ، لا أن تُقبض متلبِّسًا!”
“قلتُ لكِ إنّها هي من أغرتني أولاً! أتُرى رجلاً يستطيع الرّفض حين تقترب منه امرأةٌ عارية؟”
بدأ إدْوين يفقد صبره.
ظنّ أنّ زيارة أمّه لقصر فلورنس قد تأتي بنتيجةٍ مفيدة، فإذا بها تعود لتُعيد نفس العتاب.
“أتُريدين أن أُعدّ لك عدد مرّاتي الأولى أيضًا؟”
“هاه!”
“أتدرين كم عانيتُ يوم اضطررتُ إلى التخلّص من تلك الخادمة؟ ومع ذلك لم تتّعظ!”
“آه، لماذا تُعيدين الحديث عن الماضي؟”
احتقن وجه لورين وهي تصرخ مذكِّرةً بذلك اليوم المشؤوم.
تغيّر وجه إدْوين بامتعاضٍ حين عادت الذّكريات المُرّة.
قبل عامٍ، اغتصب إدْوين خادمةً صغيرةً وهو سكران.
وطبعًا، لم يستخدم أيّ وسيلةٍ لمنع الحمل.
فحملت الخادمة، فما كان من الكونتيسة هانز إلّا أن طردتها شرّ طردة.
زعمت الخادمة أنّ إدْوين هو والد الطفل، لكن لم يكن هناك دليلٌ يُثبت ذلك، كما أنّ قوانين القصر تمنع أيّ خادمةٍ حامل من البقاء فيه.
لهذا السبب، قامت الكونتيسة بضربها ضربًا مبرّحًا قبل أن تطردها، بحجّة أنّها تجرّأت على إهانة ابنها.
خرجت الخادمة مضرّجةً بالدّماء.
وبعد أن هدأ كلّ شيء… عاد ابنها وارتكب خطأً جديدًا.
“أتدري كم كدتُ أُجنّ بسبب تلك الحادثة؟ لقد كدنا نفقد سمعة العائلة كلّها!”
“وماذا في ذلك؟ أن أنام مع خادمة، أهذه جريمة؟”
“ماذا؟!”
“ألستِ أنتِ من قال إنّ النساء الّلواتي يطاردن الرّجال الأغنياء هنّ المشكلة؟”
“ذ… ذلك لأنّي…”
انعقد لسان لورين.
لقد كانت كلماتها نفسها هي من أطاحت بها.
وكان إدْوين دائمًا ما يتورّط في أمورٍ كهذه، فيتلقّى توبيخًا قاسيًا من والده، بينما كانت هي تدافع عنه لتحميه من كسر نفسه.
“آه… كلّ هذا ذنبي، ذنبي أنا.”
وضعت لورين يدها على جبينها وقد شحب لونها بعد صراخٍ طويل.
“على أيّ حال، سأتزوّج إيفلين. فافعلي ما يلزم يا أمّاه.”
“أيّها الأحمق! أتدري من خصمك؟ إنّه دوق هارديون نفسه! ماذا بوسعي أن أفعل؟!”
“سأطلب مساعدة أبي إذًا.”
“…”
كان الكونت هانز وورث رجلاً يقدّس الشّرف والأخلاق الأرستقراطيّة، وكان دائم الاحتقار لابنه الطّائش.
فحين تسبّب إدْوِن في الفضيحة، لم يتدخّل الأب مطلقًا.
“وماذا قالت السّيّدة فلورنس أيضًا؟”
“تلك المرأة حصنٌ منيع. هدّدتها ولم تهتزّ قيد أنملة!”
“افعلي شيئًا إذًا! أتتركي الأمر هكذا؟ ماذا لو تمّ الزّواج حقًّا؟!”
ارتفع صوت إدْوين غضبًا، ففغرت لورين فمها ذهولًا.
“أتصرخ في وجهي الآن؟!”
“هل تتوقّعين أن أهدأ؟ إن لم يُجْدِ التّهديد، فحاولي الإقناع! رجعتِ فقط لتثيري غضبها لا غير!”
“تلك إيفلين من تكون لأتحمّل هذا من أجلها؟ كيف أُهانُ من أجل ابني الّذي حملته تسعة أشهر؟!”
“كُفّي، لقد انتهى الكلام. سأخرج، فلا تتبعيني.”
نقر بلسانه بانزعاج، وارتدى معطفه وخرج مسرعًا.
ظلّت لورين جامدةً، تحدّق في ظهر ابنها الّذي ابتعد.
* * *
اتّجه إدْوين نحو ساحة العاصمة.
كان مقصده حيّ المساكن المتواضعة على أطرافها.
فكاميلّا، الّتي هربت من القصر، لم يكن لها مأوى.
لحُسن الحظّ، كانت تعيش الآن في شقّةٍ صغيرةٍ استأجرها لها إدْوين من ماله الخاصّ.
ففي يومٍ من الأيّام، جاءت كاميلّا إلى القصر لتُخبره مباشرةً أنّها حامل.
“أنا… حامِلٌ بطفلك.”
“وهل لديكِ دليلٌ على أنّه طفلي؟”
طالبتْه بالزّواج، لكن إدْوين لم يكن ينوي تحمّل أيّ مسؤوليّة.
‘استمتعنا معًا، وهذا كلّ ما في الأمر. ما أكبر أحلامها.’
ورغم ذلك، ساعدها لسببٍ بسيط:
كان عليه أن يُبقي الأمر سرًّا إلى أن يتزوّج من إيفلين.
‘لو خرجت فجأةً وبدأت تتفوّه بالهراء، ستدمّر كلّ شيء.’
فكّر إدْوين بخبثٍ.
ومنذ ذلك الحين، كان يتظاهر بالاهتمام، يُعطيها بعض المال، ويزورها أحيانًا ليمضي الوقت.
أمّا هدفه الحقيقيّ فكان الزّواج من إيفلين أوّلًا.
وحين يتمّ الزّفاف…
‘لن يكون سيّئًا أن أجعلها عشيقةً. على الأقلّ هي جيدةٌ في الفراش.’
صفّر إدْوين بمرحٍ وهو يمشي.
لكن في تلك اللّحظة، رأى من بعيد عربةً سوداء ضخمة.
وبجانبها…
‘…إيفلين؟ ما الّذي تفعله هناك؟’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 46"