لقدْ أوصلتُ كاميلا بنفسي إلى قصر البارون بورتنر.
“كاميلا، إنِ احْتَجْتِ إلى مساعدةٍ، أخبريني في أيِّ وقت. سأُساعدكِ بكلِّ ما أقدر عليه.”
“شكرًا لكِ، إيفلين. وأيضًا… أنا آسفة.”
“لا داعي لأنْ تعتذري لي. فقط، لا تُهمِلي طعامكِ، واهتمي بتغذيتكِ جيِّدًا. فأنتِ بحاجة إلى أنْ تأكلي لِاثنين الآن.”
“…نعم.”
‘أيُّ نذلٍ ذاك؟ ذلك اللعين.’
رغمَ أنّ ظروفي ليست سهلةً، إلّا أنّ التفكير في كاميلا جعل قلبي يثقل.
‘…إنَّها تُعاني أصلًا من العيش عند عمّها، وتأكلُ بخجلٍ.’
* * *
“لقدْ أتيتُ ببعض التلميحات.”
“ما هي؟”
أخرجتُ الورقة التي دوّنتُ فيها بعض الملاحظات على عَجَل أثناء الرّحلة بالعربة.
“يبدو أنّ الرّجال في العادة يكرهون الفتاة التي تُظهر التّعلّق الزّائد.”
“تعلّق، هاه…”
“لاحظتُ أنّهم ينفرون إنْ طَلبتِ منهم أنْ يُشاركوكِ تفاصيل حياتهم اليوميّة، أو تسأليهم عن قائمة طعامهم مثلًا؟”
“همم… هذا حقًّا يبدو مزعجًا، أليس كذلك؟ فليسوا موظّفين عندنا لنُطالبهم بالتّقارير.”
“أليس كذلك؟”
“بلى. من المؤكّد أنّه سيضيقُ ذرعًا بذلك.”
قبضتُ قبضتيّ بعزمٍ وقلتُ:
“سأُصبح امرأةً شديدة التّعلّق. لدرجة أنْ يَملّني تمامًا ويَكرهني.”
وبما أنّنا قد خطّطنا أنْ نلتقي في نهاية الأسبوع، فقد أرسلتُ له رسالةً فورًا أطلب فيها زيارته غدًا، أي يوم السّبت.
وجاءني ردُّ كايل مساءً في الحال.
مزّقتُ الظّرف بسرعة وتفقّدتُ المحتوى.
<إلى إيفلين.
غدًا صباحًا، لديّ الكثير من الأوراق لأُنجزها، لذا لا يُمكنني القدوم لأُقلكِ بنفسي.
سأُرسل عربة إلى قصر فلورنس بدلًا من ذلك.
الساعة الثامنة صباحًا، أمام البوّابة الرّئيسيّة.>
“يبدو أنّ لديه مواعيد أخرى بعد الظّهر.”
“هكذا يبدو. حسنًا، هو مشغول جدًّا في الأصل.”
“كلّما كان أكثر انشغالًا، كلّما ضاقَ بي أسرع، أليس كذلك؟”
“على الأغلب، نعم.”
“جيّد.”
يبدو أنّ جدولهُ مزدحم غدًا. يا لَلسّعادة، رجلٌ مشغولٌ حقًّا!
استعدتُ في ذهني المعلومات التي سمعتُها بالأمس، ثم أخرجتُ دفتري الصّغير وبدأتُ بتدوين الكلمات المفتاحيّة والنّقاط الأساسيّة بدقّة.
* * *
“مرحبًا بكم. سُررتُ بلقائكم لأوّل مرّة، الآنسة إيفلين. أنا هيوغو إيتن، المساعد الخاصّ بدوق هارديون.”
شعرٌ بنّي، وعينان خضراوان. إنّه يبدو وسيمًا وطيّبًا.
خلفه كانت تقف عربة سوداء لامعة تُشبه السّيارة الفاخرة.
“تشرفتُ بلقائك، أنا إيفلين فلورنس.”
“نعم. بما أنّ سيّدي لديه الكثير من الأعمال المتبقية، فقد كُلّفتُ باصطحابكِ بدلًا عنهُ.”
هل هو مشغول إلى هذه الدّرجة فعلًا؟
‘أليس من الممكن أنْ يُثير الأمر استياءهُ لو أزعجتهُ الآن؟’
“يبدو أنّه مشغولٌ جدًّا. لا بأس، أيمكنني زيارته في وقتٍ لاحق إذن؟”
“لا، لقدْ أكّد على ضرورة اصطحابكِ اليومَ بالتّحديد.”
قال هيوغو بابتسامةٍ مشرقة، لكنّ صوته حمل نبرةً صارمة ونوعًا من الفراغ الخفيّ.
‘تمامًا مثل الابتسامة المهنيّة لموظّفي الشّركات الكوريّة.
لابُدَّ أنّه يُعاني كثيرًا.’
“حسنًا، إذًا أُعتمد عليكَ، هيوغو.”
“بكلّ تأكيد، سأُرافقكِ كما يجب.”
لكن… يبدو أنّ كايل يملك ثروةً ضخمة.
الجزء الدّاخلي من العربة كان أفخم بكثير ممّا توقّعت.
المقاعد الجلدية البُنيّة الفاخرة كانت بمستوى لا يُقارن بعربات آل فلورنس.
خشيتُ أنْ تُخدش الزّينة في ثوبي أو أظافري أيّ سطح في العربة.
‘بحذر، بحذر…’
رتّبتُ ياقة فستاني بحذر، وأخرجتُ دفتري.
يجب أنْ أُراجع المعلومات مرّة أخرى حتى لا أنسى.
إبلاغه بوجهة خروجه.
إعلامه عند الانتقال بين الأماكن.
تزويدي باسم المرافقين.
مشاركة قائمة الطّعام اليوميّة: الفطور / الغداء / العشاء.
إرسال الرّسائل من حينٍ إلى آخر. (فالإنسان لا بدَّ أنْ يذهب إلى الحمّام، فلا عُذر بضيق الوقت.)
فهذه أمور أساسيّة بين الحبيبين، وتُعتبر مقياسًا للمحبّة.
بعض هذه البنود أضفتُها بعد التّشاور مع إيميلي.
وبالنّظر إلى طبيعته الحادّة، فإنَّه إنْ شعرَ بالضيق من فتاةٍ وعدها بالزّواج، فلا بُدَّ أنْ يُصدر أمرًا بطردها فورًا.
“هل تُحبّين الدّراسة؟”
“نعم؟ أنا؟”
“نعم. كنتِ تنظرين إلى دفتر الكلمات باهتمامٍ بالغ.”
‘دفتر الكلمات؟’
أجبتُ بتواضعٍ، وقد شعرتُ بالحرج:
“…لا، ليس تمامًا. إنّما أحاول فقط استغلال الوقت المتاح.”
“تُجيدين خُصال الطّالب المجتهد. آه، يبدو أنّنا قد وصلنا.”
كان قصر آل هارديون في الضّاحية، على بُعدٍ قليل من العاصمة.
وحين رأيتُ المبنى الذي قرأتُ عنه فقط في الكتب، كان المشهد هائلًا بحقّ.
‘واو… إنّه ضخم. إنّه أشبه بقلعة، وليس مجرّد قصر.’
مبنى حجريٌّ ضخم لا يُقارن بقصر آل فلورنس.
مشهدٌ فخمٌ وعظيمٌ جعل فمي يفتح من الانبهار. ذكرني بمباني مدارس السّحر التي قرأتُ عنها في روايات الفانتازيا.
“الدّوق في مكتبه الآن. سأُرافقكِ إليه.”
أومأتُ برأسٍ حازم.
‘تذكّري الهدف: أزعجيه حتّى يَملّ.’
قادني هيوغو نحو المبنى المركزيّ الذي تعلوه منارة بين باقي المباني.
مررنا بعدّة أبواب، حتّى وصلنا إلى بابٍ كبير.
“سُموّه داخل المكتب الآن. إذًا، أترككِ الآن.”
“شكرًا لكَ، هيوغو.”
ابتعد هيوغو بخُطًى منتظمة، ووجدتُ نفسي وحيدةً في الرّواق.
تنفّستُ بعمق عدّة مرّات.
‘طَرْق طَرْق’
“نعم، ادخلي.”
ما إنْ دخلتُ، حتّى بدت لي الصّورة كلوحة فنيّة مبهرة.
مكتبٌ داخليّ بديكور أسود بالكامل.
نافذةٌ ضخمة تُطلّ على الحديقة المركزيّة، ويُمكن من خلالها رؤية مجمّع قصر الدّوق بأكمله.
كان كايل يجلس على الكرسيّ مقابل النّافذة، يُراجع الأوراق.
“انتظري لحظةً.”
“نعم.”
من بين الأوراق المتكدّسة، ظهر وجهه.
كان غارقًا في العمل تمامًا. بين تَجهّمٍ وتركيزٍ على الأوراق، وتوقيعاتٍ متكرّرة بحركةٍ آليّة.
تكوّمت بعض الأوراق على الجانب الآخر، وحينها التقتْ عينانا.
“لمْ أعلم أنّك مشغولٌ إلى هذا الحدّ. آسفة لأنّي زرتُكَ فجأةً.”
“لا داعي للاعتذار. يُمكنكِ المجيء متى أردتِ.”
“أووه… نعم.”
تفاجأتُ من ردّه اللّطيف وتردّدتُ في مكاني. عندها أشار كايل بوجهه نحو الأريكة في المنتصف، ونهضَ واقفًا.
“اجلسي.”
جلس على المقعد الرّئيسيّ في الأريكة، وأسند ظهره بعمق. ثم أمال رأسه قليلًا إلى الجانبين.
يبدو مُرهقًا فعلًا؟
“إذًا، ما الأمرُ؟”
“أنا… أُريد أنْ أطلبَ شيئًا منكَ، يا دوق!”
“لن ألبّي ذلك.”
“لِماذا؟!”
“اللقب. ألمْ أُخبركِ أن تُغيّريه؟”
آه…
“أنا… لديّ طلبٌ منكَ، كايل!”
ارتفع صوتي كثيرًا فاهتزّ المكتب بالصّدى.
رمقني بدهشة، وأنا بدوري ارتجفتُ من صوتي العالي.
“صـ-صوتي كان مرتفعًا، أليس كذلك؟ آسفة.”
“لا بأس. فما هو طلبكِ إذًا؟”
“نحنُ الآن في مرحلة التّعارف، أشبه بالمواعدة، أليس كذلك؟”
“نعم.”
“إذًا، بما أنّنا نتعرّف إلى بعضنا، فأُريد أنْ نتعرّف جيِّدًا.”
”بشكلٍ جيّد، هاه…”
ردّد كايل كلمتي بصوتٍ منخفض، كأنّه يُفكّر بها.
ثمّ بدا عليه التّفكير، وكأنّ قصدي لمْ يتّضح له بعد، فسأل مجدّدًا:
“مثل ماذا؟”
همم. صفّيتُ حلقي وقلتُ بثبات:
“مثلًا… أُريد أنْ أعرف كيف تمضي يومك. سمعتُ أنّ العشّاق عادةً يُشاركون تفاصيل حياتهم اليوميّة، أليس كذلك؟”
“أيّ نوع من التّفاصيل؟”
‘هاه، بدأ وجهه يتجمّد…’
يبدو أنّ خطّتي تؤتي ثمارها.
“مثلًا، عندما تخرج من القصر أو تؤدّي عملًا خارجيًّا، فأنت بالتّأكيد ستتنقّل من مكانٍ إلى آخر، صحيح؟
حينها أُريدك أنْ تُخبرني بكلِّ موقعٍ تمرّ به، ومن قابلت، ومن كان يُرافقك. على الأقل مرّة في اليوم، تُرسل لي تقريرًا صغيرًا بذلك.”
“…”
‘هاها، أظنّه قد ارتبكَ… يبدو أنّ الخطّة تنجح فعلًا؟
هل الرّجال حقًّا يكرهون المرأة المُتعلّقة؟’
لكنّني لمْ أتوقّف، واستمررتُ بالكلام بنبرةٍ غايةٍ في اللّباقة كي لا أُثير غضبه.
“وأيضًا… من باب المعرفة بالطّرف الآخر، أليس من الطّبيعيّ أنْ أتساءل عمّا تأكله يوميًّا؟
فالغذاء جزء من اليوم أيضًا،
لذا أُريد أنْ تُخبرني كلّ يوم بما تناولته في الفطور والغداء والعشاء، وهل كان الطّعام لذيذًا أم لا؟
وربّما تُضيف تقييمًا بسيطًا.
أمّا عن ضيق الوقت، فهذا ليس عذرًا.
فكلّ إنسان يحتاج إلى وقتٍ للاستحمام أو النّوم، أليس كذلك؟
لذا، حتّى لو كنتَ مشغولًا، أرجو أنْ تقتطع وقتًا بسيطًا للتّواصل.”
عندها شدّ كايل على شفتيه بصمت.
وشعرتُ بقشعريرةٍ تسري في ظـَهري…
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 11"