8
رفع حاجبيه وهو يحدق فيها بحدة، متفحصًا وجهها بعناية. انعكست الجدية في عينيه البنفسجيتين التي خفت بريقهما.
“أشعر أنني لست على ما يرام. فلنعد الآن.”
قالت إيفلين بصوت ضعيف، تحاول جهدها أن تخفي توترًا غامضًا اجتاحها من مصدر غير معلوم.
لم تكن تسأل كعادتها عن المرأة التي كانت بجانب كازير، ولم تحاول مواجهته بشأنها. كل ما كان يشغل تفكيرها هو أن عليها بأي وسيلة إبعاد تلك المرأة عن كازير فورًا، بغض النظر عن هويتها.
عند سماع تذرع إيفلين بالمرض، لم يلح كازير في استجوابها، بل التفت إلى كلوني وألقى عليها تحية وداع مقتضبة.
“يبدو أن علي المغادرة الآن، الآنسة كلوني، أتمنى لكِ وقتًا ممتعًا.”
“آه، نعم… دوق كازير…”
وقفت المرأة في مكانها، غير قادرة على منعه، بينما بدأ كازير يتقدم نحو إيفلين بخطوات ثقيلة وثابتة. شعرت إيفلين أن تلك الخطوات كانت بطيئة بشكل لا يُحتمل، وكأنها عالقة في زمن ممتد لا نهاية له.
في أعماقها، أرادت أن تجري إليه، أن تمسك بيده بقوة، لكن قدميها لم تتحركا. شعرت كأن جسدها متجمد، غير قادر على فعل أي شيء سوى التحديق به وهو يقترب منها.
اقترب مني، لا تلتفت إلى أي شيء آخر.
وأخيرًا، وصل إليها، وكانت تلك اللحظات أطول من السنوات الثماني التي قضتها بعيدًا عنه.
“ما الذي حدث فجأة؟ هل تشعرين بألم شديد؟ أين يؤلمكِ؟”
تفحصها بعناية، عينيه مليئتين بالقلق. لم تستطع إيفلين إلا أن تشعر بأنها تستطيع أخيرًا أن تتنفس الآن، فقط بعدما رأت انعكاس صورتها في عينيه البنفسجيتين العميقتين.
لطالما كانت نظراته تلك وحدها ما يمنحها الحياة. كان هو وحده كل ما يهمها.
“مجرد… غثيان بسيط.”
تمتمت بصوت ضعيف. لاحظ كازير وجهها الشاحب وأنفاسها المتقطعة، مما زاد من قلقه.
شفتاها، التي لطالما كانت تصبغها باللون الأحمر، بدت الآن زرقاء. كانت تبدو وكأنها ستنهار في أي لحظة.
“هل لديك حرارة؟”
دون تردد، وضع كفه الكبيرة على جبينها. كان ملمسه البارد كالماء المنعش، فشعرت براحة غامضة، وضغطت جبينها أكثر على يده، متنهدة بخفوت.
“إنه منعش، أشعر بتحسن.”
عندها، رفع كازير يديه فجأة، ليمسك بوجهها بحنان قبل أن يرفعها بين ذراعيه ويضمها إليه. كان جسدها الصغير والناعم يتلاءم تمامًا مع احتضانه، وكأنها صنعت لتكون بين ذراعيه. استجابت إيفلين على الفور، ولفت ذراعيها حول عنقه.
كان العطر الذي يعبق منه مألوفًا لكنه بدا غريبًا في الوقت ذاته، لكنه لم يكن لديها وقت للشعور بالانزعاج منه.
“سأعيدكِ فورًا، فقط تحملي قليلًا.”
أومأت برأسها وهي تستقر في أحضانه، فبدأ بالسير دون أي تردد.
لكن قبل أن تغرق تمامًا في دفء احتضانه، رفعت نظرها ونظرت خلف كتفه. كانت المرأة التي كانت تقف بجانبه قبل لحظات تحدق بهما بدهشة وذهول.
حين رأت تلك المرأة التي تُركت وحدها، شعرت بشيء غريب من الارتياح يتسلل إلى أعماقها، وكأن حملاً ثقيلاً قد أزيح عن صدرها.
وعندما اختفت تلك المرأة تمامًا عن مجال رؤيتها، أغلقت إيفلين عينيها، ودفنت وجهها في صدر كازير.
كان عبيره يذكرها بالثلج الأبيض النقي في عز الشتاء، منعشًا وباردًا. كان هذا العطر الذي تعشقه بجنون… عطر كازير.
إنه لي.
كان هذا الحضن الدافئ والقوي ملاذها الوحيد، المكان الذي لن يكون لأحد سواها. هو ملكها وحدها، وهي ملكه وحده، هكذا قرر القدر منذ الأزل.
لكن لماذا، قبل لحظات، شعرت وكأنها الدخيلة؟ وكأنها هي الغريبة؟
لا، إنه لي. إنه رجلي.
حاولت جاهدة أن تطرد من ذهنها هذا الإحساس الغريب، وازدادت تشبثًا به، كما لو أنها تخشى أن يفلت من بين يديها.
كم سيكون رائعًا لو أصبحنا جسدًا واحدًا، فلا نضطر للانفصال أبدًا…
“منذ متى تشعرين بهذا؟”
جاء صوته الهادئ ليقطع دوامة أفكارها، ففتحت عينيها ببطء، وكأنها فرخ صغير يفقس من بيضته.
نظرت حولها، لتجد نفسها تقف تحت سقف مقوس شاهق تتدلى منه مصابيح زجاجية على مسافات متساوية، وعلى جانبي الممر، كانت هناك تماثيل لأبطال أسطوريين يقفون بشموخ.
لم تكن تعلم كم من الوقت قضته بين ذراعيه، لكنها لاحظت أنهما قد وصلا إلى مدخل قاعة الحفل. كان الصخب لا يزال يدوي من الداخل، لكن الممر كان خاليًا تمامًا.
“لست متأكدة.”
أجابت بصوت خافت، ثم أعادت رأسها إلى صدره.
لم تعجبه إجابتها، فخفض رأسه قليلًا ليعلق بشيء، لكنه توقف عندما التقت عيناه بعينيها الذهبيتين المتألقتين، ورأى ابتسامتها الناعمة.
عندها، توقفت قدماه فجأة، وكأنها شُلّت.
تجعدت ملامحه، وكأن الحقيقة المريرة قد ضربته بقوة.
“أنتِ…”
أصبحت نظرته أكثر قسوة، وقبضته التي كانت تحيط بها تراخت حتى أنزلها عن ذراعيه.
ما إن لامست قدماها الأرض، حتى وقفت مستقيمة بخفة، وكأنها لم تكن مريضة قبل لحظات. اختفت شحوبها تمامًا، وحل محلها احمرار رقيق زادها جمالًا، وعيناها تلألأتا بحيوية.
“لقد تعافيت فجأة.”
“…”
“كان مجرد انزعاج بسيط، والآن اختفى.”
رفعت كتفيها بلا مبالاة، وسحبت زاوية شفتيها بابتسامة ساخرة، بينما لمع بريق ماكر في عينيها.
ظل كازير يحدق بها بصمت، وكأن صاعقة ضربته. شعر أنه لو تلقى لكمة مباشرة على رأسه، لكان تأثيرها أقل مما يشعر به الآن.
لقد حملها بجنون إلى هنا، مصدقًا تمامًا أنها كانت مريضة، فقط ليكتشف أنها كانت… تتلاعب به.
“هاه…”
ضحكة جافة خرجت من شفتيه.
هكذا هي دائمًا.
تجيد التلاعب، وتجيد الكذب، ومع ذلك، حتى وهو يعلم حقيقتها، لا يزال يقع في فخها كل مرة.
عادت تعابير وجهه إلى البرود.
“انتهى الأمر. لنعد.”
لم يكن هناك فائدة من الغضب أو العتاب. لم يكن هناك داعٍ لأن يبدد طاقته على شيء لن يتغير. فإيفلين كرويتا ستظل دائمًا على حالها، امرأة تتلاعب بالحب كما لو كان لعبة بين يديها.
رغم أنه حاول إقناع نفسه بعدم الاهتمام، إلا أن الشعور بالضيق لم يتركه.
أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة نفسه، بينما اجتاحه التعب فجأة.
“حسنًا، لنعد إلى منزلنا.”
تسللت يدها إلى ذراعه، كما لو أنها تحكم وثاقه.
وعندما نظر إليها، استقبلته بابتسامة فاتنة.
“أنت تعلم كم أحبك، أليس كذلك؟”
“…”
“أحبك، كازير، حبيبي الوحيد.”
همست بصوت عذب، لكن كازير لم يشعر بشيء.
لم يعد قلبه يخفق لسماع كلماتها.
لقد سئم منها.
ظل يسير للأمام، غير مكترث لوجودها بجانبه.
كانت الليلة طويلة… طويلة حد الاختناق.
3. كلمات غير مسموعة
كانت الدعوات الممزقة تتراكم بكثرة على طاولة بجوار النافذة، حيث تسلل إليها ضوء الشمس الدافئ في الصباح. تصفحت إفيلين الدعوات بملل واضح.
معظمها انتهى به المطاف على الأرض، لكن إحدى الرسائل بقيت في يدها لفترة طويلة.
“أين أنيكا؟”
جاء السؤال فجأة، موجَّهًا إلى الخادمة لوسي، التي كانت تفتح المغلفات بحذر باستخدام سكين ورقي بدلاً من إفيلين.
ارتبكت لوسي، التي كانت قلقة من تمزق الأوراق، وردّت بتلعثم:
“أم… لم أرها منذ الإفطار، لكن… أعتقد أنها تساعد البستاني في بعض الأعمال اليوم أيضاً؟”
“هل تعتقدين أنني سألت عن مكانها بدافع الفضول فقط؟”
ابتسمت إفيلين بسحر، لكن لوسي، رغم كونها بطيئة الفهم، شعرت بالفطرة بالاستياء الخفي في تلك الابتسامة الملائكية.
“سأذهب لإحضارها فوراً!”
أسرعت لوسي بالرد وفرّت من الغرفة وكأنها تهرب.
لم يمر وقت طويل حتى اقتحمت فتاة الغرفة راكضة. كانت ترتدي قبعة قش كبيرة تغطي شعرها القصير الذي تأرجح فوق كتفيها، بينما التصق الطين بأسفل سروالها.
صُدمت إحدى الخادمات التي كانت ترتب الغرفة وصرخت قائلة:
“يا إلهي، أنيكا! كيف يمكنك الدخول إلى الداخل وأنتِ بهذا المظهر؟!”
“آه، لقد سمعت أن سيدتي استدعتني على وجه السرعة…”
حكت أنيكا ذقنها بحرج وهي ترتدي قفازات نجارة خشنة، مما أدى إلى تساقط بعض التربة اليابسة من يديها.
بينما كانت الخادمات لا يزلن مذهولات، ردّت إفيلين بلا مبالاة:
“لقد أصبحتِ بستانية بالفعل. هل تريدين أن أكتب لكِ رسالة توصية؟”
“أوه، وأين يمكنني الذهاب غير هنا؟”
ردّت أنيكا بمكر وهي تبتسم، مما جعل خديها الغضّين الغامقين يغوصان في غمازتين واضحتين.
كانت كلماتها تبدو وكأنها إطراء، لكنها لم تكن كاذبة. فمن غير المرجح أن يكون هناك شخص آخر غير هذه السيدة الغريبة قد يحتاج إلى فتاة يتيمة من أصول قبلية قادمة من أحياء الفقراء.
تقع القبائل الصحراوية في الغرب، في أراضٍ جافة لدرجة أن الإمبراطورية لم تهتم أبدًا بغزوها. ومع ذلك، استقر البدو حول الواحات وصمدوا بشق الأنفس، لكن الجفاف القاسي بدأ يجفف آخر واحة متبقية، مما أجبرهم على مغادرة أراضيهم واللجوء إلى الإمبراطورية.
كانت أنيكا واحدة من العديد من الأيتام الذين دخلوا الإمبراطورية سراً وانتهى بهم الأمر إلى الفراق الأبدي عن عائلاتهم. وبما أنها كانت من أصول صحراوية، وهي مجموعة منبوذة داخل الإمبراطورية، لم يكن لديها الكثير من الخيارات للنجاة.
وهكذا، أصبح السرقة جزءًا من روتينها اليومي، وأصبحت الأكاذيب مجرد وسيلة للسلامة الاجتماعية. إلى أن جاء يومٌ سُحبت فيه إلى مكان مجهول، وكأنها اختُطفت.
لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد كانت تعيش حياة يمكن أن تنتهي في أي لحظة. اعتقدت أن وقتها قد حان أخيرًا، لكنها لم تجد في انتظارها جنديًا يحتقرها، ولا بلطجيًا يضربها، ولا رجلاً شريرًا يطمع بها.
بل وجدت سيدة نبيلة لم يكن من الممكن أن تلتقي يومًا بأشخاص من مستواها المتدني.
“سوف تعملين من أجلي.”
قالت السيدة النبيلة بأناقة، وكأنها كانت تُصدر حكمًا غير قابل للنقاش. شعرت أنيكا بالخجل وخبأت يديها المتسختين خلف ظهرها حتى لا تلوث فستان السيدة النظيف. ثم تمتمت بتردد:
“لماذا أنا بالذات؟ الجميع يكرهونني…”
حينها فقط علمت أن اسم تلك السيدة هو إفيلين كرويتا. ابتسمت إفيلين ابتسامة جميلة لدرجة أنها لم تبدُ بشرية، وقالت:
“لهذا السبب.”
لم تفهم أنيكا مغزى تلك الكلمات إلا عندما تلقت أول مهمة من إفيلين.
كان عليها أن تشتري معلومات من تاجر مخابرات يقع في زقاق خلفي بسوق مورف. معظم ما كانت تشتريه لم يكن سوى شائعات أو فضائح أرستقراطية أو ديون مشبوهة—بعبارة أخرى، معلومات سوداء عن الآخرين.
كان هذا العمل وضيعًا بالنسبة لسيدة نبيلة عاشت حياتها بأناقة، لكنه كان مثالياً لفتاة نشأت في الأزقة الخلفية. لم يكن أحد ليشك بأن فتاة بدوية تجول في الممرات المظلمة يمكن أن تكون خادمة لنبيلة مرموقة.
“إلى أين أنتِ ذاهبة بهذه العجلة؟”
“أوه، لدي مهمة في الزقاق الخلفي…”
حتى خادمات القصر لم يكنّ على دراية تامة بالسبب الحقيقي الذي جعل إفيلين تحتفظ بأنيكا.
في أحد الأيام، عندما سألتها إحدى الخادمات مباشرة عن الأمر، أجابت أنيكا بلا مبالاة. لكن ما إن تفوهت بتلك الكلمات، حتى انفجرت الخادمات في انتقاد إفيلين.
“مهمة؟ لا تقولي إن السيدة هي التي أرسلتك!”
“كيف يمكنها أن تعيد فتاة بالكاد خرجت من تلك البيئة إلى هناك؟ هذا قاسٍ جداً!”
راحوا يتحدثون عن كيف أنه كان من المفترض أن تمنحها حياة جديدة، وليس أن تعيدها إلى المكان الذي كانت تحاول الهروب منه. كانت أنيكا على وشك أن تنفجر ضاحكة، لكنها كتمت ضحكتها بشدة حتى شعرت بوجع في شفتيها.
لم يكن الموقف مضحكًا، لكنها لم تستطع تحمل وقاحتهم.
“ألم تكونوا أنتم من همسوا وراء ظهري يتساءلون من أين التقطتها؟”
إفيلين لم تكن فاعلة خير، بل كانت صاحبة عمل. ومن وجهة نظر أنيكا، كان العمل المدفوع الأجر أكثر فائدة من شفقة مؤقتة.
لم يمر وقت طويل حتى تم طرد نصف خدم القصر، لذا لم يكن هناك داعٍ لسماع آرائهم بعد ذلك. ومع ذلك، قررت أنيكا ألا تتحدث بلا مبالاة مرة أخرى.
“يجب أن أخرج لبعض الوقت.”
قدمت إفيلين إلى أنيكا دعوة كانت تتمعن فيها منذ لحظات. لم تقدم لها تفاصيل، ولم تحدد وجهة واضحة، لكن أنيكا اكتفت بقراءة الختم الموجود على الدعوة وأومأت برأسها.
“متى تريدينها؟”
“أحضريها لي قبل ظهر اليوم.”
“همم، حسنًا.”
كان لديها شعور بأن الوقت قصير للغاية، لكنها لم تشكو. فبدلاً من إضاعة الوقت في طلب مهلة أطول، كان من الأفضل لها أن تبدأ بالتحرك على الفور. فهي تعلم جيدًا أن صاحبة عملها، رغم وجهها الملائكي، لم تكن شخصًا صبورًا أو عطوفًا.
خرجت أنيكا مسرعة من الغرفة، بينما بدأت الخادمات في التأفف بسبب الأوساخ التي خلّفتها وراءها. أما إفيلين، فاكتفت بالنظر من النافذة بلا مبالاة، حيث بدأ ضوء الصباح يتلاشى تدريجيًا خلف السماء.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"