2
الفصل 002
وُلدت دافني وليونهايدت في العام نفسه، فكانا في العمر متماثلين. خُطِبا حين كانا في عامهما الأول، ونشآ معًا كالأخوين، وأحيانًا كالصديقين. ولهذا، كان بوسعهما في كثيرٍ من الأحيان أن يفهما ما يدور في ذهن الآخر من نظرةٍ واحدةٍ إلى ملامحه.
ورغمَ قوله إنّه سيشرح كلَّ شيء، ظلّت دافني متمسكةً بعزمها.
قال بصوتٍ متوتر، وكأنّه يضغط على كل كلمة ليخرجها منه بصعوبة.
“لا تفعلي هذا. كلّ الخطأ خطئي. أنا آسف.”
لكن دافني لم ترد أن تسمع.
إن كانت هذه هي نهايتها……فكم كان مروّعًا أن يكون آخرَ وجهٍ تراه في حياتها وجهُه.
وحين أفلتت ذراعًا واحدةً من حول الشجرة، هزّ ليونهايدت رأسه، والدموعُ المنهمرة من وجنتيه كانت تلمع في ضوء القمر.
ليت تلك الدموع في عينيه لا تجفُّ أبدًا.
“دافني، كنتُ أحاول أن أصلح كلَّ شيء، لقد كدتُ أنهي الأمر!”
رمقته دافني بنظرةٍ باردةٍ وقالت.
“لا، أنا التي سأصلح الأمور.”
“لا!”
اندفع ليونهايدت نحوها، غير أنّ دافني أفلتت الشجرة أسرع منه.
“دافني!”
وعلى صرخته المروِّعة، وضعت يديها على أذنيها حتى آخرِ لحظةٍ في سقوطها.
⁕⁕⁕
هاه!
ما إنْ شهقت دافني حتى أحسّت بألمٍ خافتٍ يضغط على صدرها.
رعبُ ملاحقة السائق بفأسه، وخيانة أنايس ومؤامرتها، ولحظةُ السقوط من فوق الجرف، كلّها عادت إليها دفعةً واحدة ما إن استيقظ وعيُها. وبينما كانت تلهثُ لأنفاسها، لمست يدٌ لطيفة كتفها، مهدِّئةً إياها.
“دافني، أأنتِ متألّمة؟”
كان ليونهايدت.
ارتاعتْ حتى دفعتْه عنها، ثم نهضتْ فجأةً تتلفّت حولها.
“أ-أين نحن……..”
كان هذا صالونَ الاستقبال في القصر الذي عاشت فيه، والذي كان لا يقلُّ فخامةً عن القصر الإمبراطوري قبل انهيار عائلة المركيز.
هنا بالضبط اقتحمَ الدائنون المكانَ، واستولوا على كلِّ شيء، وطردوا عائلتها بطريقة قاسية. وكان الصالونُ الذي أُفرغ من كلّ ما فيه يبدو الآن كما كان في أوجِ مجده.
الثريّا البلّورية التي قيل إنّها لا تُشترى ولو بالمال، والأثاث الغريب المستورد من البلاد البعيدة، وصورةُ المركيز أرمين الكبيرة المعلّقة في وسط الجدار.
“دافني، ما بكِ؟ أأنتِ متألّمة؟”
نظرتْ إلى ليونهايدت الذي كان يسألها بقلقٍ شديد.
‘تلك الملابس….’
كان يرتدي معطفًا من الحرير الأزرق مطرّزًا بخيوطٍ ذهبيةٍ على أنماطٍ شرقية.
ولم يكن ليونهايدت يرتدي ملابسه نفسها مرتين، لذا تذكرت دافني بوضوحٍ متى ارتداها.
كان ذلك في أحد الأيام التي لا يمكن أن تمحوها من ذاكرتها.
هدّأت أنفاسها المتسارعة، وجمعت أفكارها المتناثرة.
بعد سقوطها من الجرف، كان عدوُّها جالسًا أمامها، بل بدا أصغر سنًّا، وارتدى ملابسه نفسها التي ارتداها يومَ افترقا.
أكان هذا هو الماضي الذي رغبت بشدّةٍ في العودة إليه؟ أم أنّها كانت تحلم؟ لعلّه شريطُ الذكريات الذي يقول الناس إنّه يمرّ في الذهن قبل الموت.
لكنّ الأمر لم يكن مهمًّا بالنسبة لها.
لقد استرجعت هذا المشهدَ في ذهنها مرارًا لا تُحصى. لو أنّها استطاعت العودة، لقالت هذا، ولَفعلت ذاك……نَدَمٌ تلوَ ندم، تراكَمَ طبقةً فوق أخرى.
والآن، أأتاها الحظُّ لتسويتها أخيرًا؟
خفَّ لهاثُها شيئًا فشيئًا، وليونهايدت الذي ظلّ يحدق بها بقلقٍ مدَّ يده نحوها.
“هل أنتِ بخير؟ إنكِ تتعرّقين.”
أدارت دافني وجهها لتتفادى يده الممدودة إلى جبينها، ثم قالت ببرود.
“أتيتَ لأنّ لديك شيئًا لتقوله، أليس كذلك؟”
أدار ليونهايدت نظره.
“أنا بخير، فتكلّم.”
“……أظنّ أنّ من الأفضل أن نتحدث في وقتٍ آخر.”
وقتٍ آخر؟ وأيّ ضمانٍ أن يأتي؟
لمن دُفعت إلى حافة الهاوية، قد يتلاشى هذا الحاضر في أيّ لحظةٍ كسراب.
“يجب أن أسمعه الآن، فتكلّم، أرجوكَ.”
وبعد أن حدّق فيها طويلاً بقلق، تكلّم ليونهايدت أخيرًا بنبرة جدّية.
“لديّ اعترافٌ أريد قوله.”
لم تسأله دافني عمّا يعنيه.
فقد كانت تعرف تمامًا ما الذي سيلي ذلك.
وبعد تردّدٍ طويل، فتح ليونهايدت فمه أخيرًا.
“لقد وقعتُ في حبِّ شخصٍ ما. أنا آسف.”
كيف يمكن حتى لصوته المتقطع أن يبدو مطابقًا تمامًا لما كان عليه آنذاك؟
أومأت دافني وأجابت.
“نعم، إذا كنتَ تمتلك أيَّ ذرةٍ من الإنسانيَّةِ، فلا بدَّ أن تشعرَ بالأسفِ.”
“……ماذا؟”
“ما الأمر؟ أأربكك أنّ ردِّي ليس كما توقعت؟”
ابتسمت دافني ابتسامةً مريرة.
لقد كان يتوقّع منها أن تتوسّل إليه ألا يتركها.
وهذا ما فعلته دافني فعلًا في حياتها الأولى. لكنها لاقت رفضًا باردًا قاسيًا.
وبعد لحظةٍ، تكلّم ليونهايدت بنبرةٍ مهدِّئة.
“لا تنفعلي، فقط استمعي جيّدًا.”
“بل أنتَ المنفعل.”
وأشارت إلى تفاحةِ آدم المحمرّة في عنقه. كانت عادته القديمة ألا يحمرّ وجهه حين يغضب، بل عنقه، ولم تتغير هذه العادة.
لقد خُطِبَت دافني وليونهايدت منذ صغرهما، وكانا صديقين لا مثيل لهما، أقربَ من الأخوين. ولهذا كانا يلحظان أدقَّ العادات في بعضهما بنظرةٍ واحدة.
ارتجف ليونهايدت أمام سلوك دافني الغريب عنه.
لطالما كانت خطيبتُه الرقيقة، تدور حوله بلُطفٍ كجروٍ صغير. أما الآن، فقد بدت له شخصًا آخر تمامًا.
حتى وإن كانت غاضبةً لأنّه وجد لنفسه حبيبة، فهل يستحقّ الأمرُ كلَّ هذه الجديّة؟ كان من المألوف بين النبلاء أن يكون لهم عشيقات، هذا فضلًا عن أنهما لم يتزوجا بعد.
وحين رأى يديها ترتجفان غضبًا، خفتت ملامحُه في الحال. كانت نيّته أن يشرح بهدوء ويواسيها برفق، لكنّ ذلك تلاشى.
اختفى وجهُه المليء بالندم وهو يتكلّم بصراحة.
“مشاعري نحوكِ لم تتغيّر. لكن من الصحيح أيضًا أنّها أصبحت مألوفةً أكثر من اللازم، ومريحةً أكثر من اللازم. أمّا ما أشعر به تجاه تلك المرأة فهو مختلف. أظنّ أنّ هذا ما يسمّونه الحبَّ من النظرة الأولى. إنّه أوّل حبٍّ لي، وهو يكاد يغمرني. لم أعُد أستطيع إخفاءه.”
“أهو راحةُ ضميرك أهمُّ من الألم الذي أُصاب به حين أعلم الحقيقة؟”
“دافني.”
الطريقةُ التي نطق بها اسمَها، ممتزجةً بلمستين من المودّة وملعقةٍ من العتاب، كانت دائمًا تجعلها تستسلم له.
ناداها باسمها بتوكيدٍ، محاولًا أن يستعيد زمام الحديث الذي فقده.
لكنّ هذا كان وَهْمًا كبيرًا.
“ليون، استمع إليّ جيّدًا.”
قالت دافني وهي تحافظ على نظرةٍ مباشرة في عينيه.
“من الآن فصاعدًا، ابحث عن الشغف والراحة معًا في امرأةٍ واحدة. أهذا صوابٌ أن تعبث بامرأتين لإرضاء نفسك؟”
“دافني!”
“لا، ليس هذا صوابًا. أنايس كانت تعلم أنك مخطوب حين بدأتَ، لذا فالتي تعبث بها حقًا هي أنا.”
وحين خرج اسمُ حبيبته الجديدة من بين شفتيها، اضطرب ليونهايدت.
“……إذًا كنتِ تعلمين. فلمَ تظاهرْتِ بعدم المعرفة حتى الآن؟”
“لأنّ الأمر لم يكن يستحقّ حتى أن يُسأل عنه.”
أفقده جوابُها الحازم النطقَ، لكنّ دافني تابعت دون تردّد.
“سأطلب قريبًا فسخَ خطوبتنا رسميًا، وسأطالبُ بالتعويض المناسب.”
“……فسخ الخطوبة؟”
“هل كنتَ تتوقع أن أتحمّل نزواتك بصبرٍ، ثم أتزوّجك بهدوء؟”
تنفّست دافني بعمق.
“أم كنتَ ترجوني أن أتعلّق بأمل أن تعود إلى رشدك يومًا؟ لعلّك كنتَ تتخيّل أن يأتي وقتٌ تصير فيه حبيبتك زوجتَك، وخطيبتك عشيقتَك!”
“كيف يمكن أن يحدث شيءٌ كهذا؟ إنّها مبالغةٌ في الخيال.”
مبالغةٌ، يقول.
لكن هذا بالضبط ما فعلتَه في حياتي السابقة.
“ليون، لا……هذه آخر مرةٍ أناديك فيها بهذا الاسم. يا دوق الشاب، أصغِ جيّدًا.”
“دافني!”
وما إن رفع صوته حتى تردّد صوتُها أعلى منه.
“كيف تجرؤ على رفع صوتك! أنا التي يحقّ لها أن تغضب!”
نظر إليها ليونهايدت مذهولًا بحق، متسائلًا إن كانت هذه التي تصرخ فيه هي فعلًا دافني.
لكنّها لم تُمهله فرصةً للردّ، بل تابعت.
“كلُّ إنسانٍ يمكن أن يقع في حبٍّ مفاجئ، وأنا أتفهّم ذلك تمامًا. لكنّني قضيتُ أزهى سنوات شبابي منتظرةً إيّاك. والآن تقول إنك تحبّ امرأةً أخرى؟ ها!”
فقط في تلك اللحظة، ظهر على وجه ليونهايدت أثرُ الندم.
كان من المعتاد أن يتزوّج النبلاء عند بلوغ السابعة عشرة، ما إن يصلوا سنَّ الرشد. غير أنّ دافني وليونهايدت، اللذين كانا في العمر سواء، لم يُقيما مراسم زواجهما حتى بعد بلوغهما العشرين.
وذلك لأنّ والدته كانت تعاني مرضًا مزمنًا. وبحسب التقاليد، إذا كان أحدُ والدي الطرفين مريضًا، وجب تأجيل الزواج، ولهذا تجاوزا السنَّ المعتادة للزواج بسنوات.
“بينما كنتَ غارقًا في مشاعر حبّك، كنتُ أنا أحاول علاج جرحٍ عميق في حياتي. لا، بل لم يكن لديّ حتى الوقت أو القدرة على معالجته. كنتُ محاصرةً بديونٍ كبيرة…….”
في حياتها السابقة، عملت في كلّ شيءٍ يمكن أن يُتخيَّل، من مربيةٍ للأطفال إلى خادمة، ثم انتهى بها المطافُ في نقابة المعلومات. يا للعجب، كيف أصبحت أرقى سيدات الإمبراطورية عضوةً في نقابةٍ كهذه!
بل إنّ ليونهايدت نفسه كان قد أصرّ أن يجعل من دافني عشيقتَه.
أما ليونهايدت، الذي لم يكن يعلم شيئًا عن حياتها السابقة، فقد حدّق فيها وكأنّه لا يفهم ما تعنيه.
قبضت دافني قبضتها بإحكام، وضغطت بقوّةٍ على يدها المرتجفة.
“لذا، ينبغي أن يكون التعويض عن فسخ خطوبتنا كبيرًا، أليس كذلك؟”
كان يمتلك شيئًا لا يساوي شيئًا الآن، لكنه سيصبح ذا قيمةٍ عظيمةٍ في المستقبل.
‘سأستعيده لا محالة. حان دورك لتذرف الدموع، كما فعلتُ أنا ذات يوم.’
شدّت على أسنانها، وأكدت عزمها.
يتبع في الفصل القادم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!

إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"