كان يبدو وكأنه لا يستطيع تخمين نوايا سيسيل على الإطلاق، لكنه استلقى على السرير كما طُلب منه.
و سرعان ما بدأت سيسيل تقرأ كتابًا بصوت هادئ.
وبالأحرى، لم تكن تقرأ بل كانت تستظهر النص، أي تلقيه من الذاكرة.
استمع رِيان إلى صوتها لبعض الوقت بوجه غير مستوعب لما يجري، ثم نهض من السرير بملامح مذهولة.
“سيسيل، الآن……”
“لماذا تنهض؟ استلقِ مجددًا.”
دفعت سيسيل كتفه بقوة لا تستحق حتى المقاومة، فاستلقى رِيان مرة أخرى. ثم فتح فمه بعينين يملؤهما الارتباك.
“إن لم أكن أعاني من قلة النوم إلى درجة تؤثر على أذني أو عقلي، فزوجتي قد أعدت شيئًا ما……ما الذي يحدث بالضبط؟”
لم تكن سيسيل تتوقع أن يُفاجأ رِيان إلى هذا الحد. فقد ظنّت أن كبير الخدم قد أخبره مسبقًا عن وجهتها.
لم تكن تعرف سبب تكتمه، لكن على أي حال، رؤية رِيان مصدومًا جعلها تشعر بقليلٍ من الرضا.
و سرعان ما شرحت له تفاصيل الأمر.
“وهكذا ذهبت إلى منزل تلك الخادمة. صادف أن الكتاب الذي كانت تقرأه لك كثيرًا كان هناك، فاستمعت إلى قراءتها وحفظته.”
تعلمت سرعة الإلقاء، وطبقات الصوت، والنبرة، وأدق التفاصيل في تلك اللحظة، ثم أثناء رحلة العودة بالعربة، مارست ما حفظته بقراءة الكتاب حتى أتقنته عن ظهر قلب.
وقد أهدتها الخادمة ذلك الكتاب القديم.
ظل رِيان صامتًا بعدما استمع إلى قصتها، ثم تحدث بصوت هادئ:
“لقد أرسلت من قبل شخصًا لإعادتها إلى قصر الكونت، لكنها رفضت. كان ذلك قبل خمس سنوات بالفعل.”
و سرعان ما ضحك رِيان بصوت منخفض.
“لم يكن بإمكاني النوم على صوت القراءة في منزل تلك الخادمة، لذا كنت قد تخلّيت عن فكرة سماعها مجددًا. ولكن……”
توقف قليلًا قبل أن يضيف،
“شكرًا لكِ.”
كان وجهه يعبّر عن راحةٍ عميقة، مما جعل قلب سيسيل يخفق بطريقة غريبة. فأجابت بصوت أخفض مما كانت تقرأ به،
“على ماذا؟”
حصل الكونت كايتير على ساعة من النوم في تلك الليلة، وفي اليوم التالي، استمع إلى قراءة سيسيل في غرفة نومه حتى غرق في سبات عميق.
في صباح اليوم الذي تحرر فيه رِيان من الأرق، وأثناء تناولهما الطعام معًا، أعلنت سيسيل بثقة،
“يمكنكَ الاعتماد عليّ كل عام من الآن فصاعدًا……أو ربما ليس كل عام؟ على أي حال.”
نظر إليها رِيان بصمت، قبل أن ترتسم على شفتيه الجميلتين ابتسامةٌ ناعمة……كانت مباغتة.
“سأعتمد عليكِ إذًا، يا عزيزتي.”
***
بعد عامين، واجه رِيان ليلةً أخرى من الأرق. و لم تتردد سيسيل، بل سارعت إلى غرفة نومه وهي تحمل كتابًا بين يديها.
لأنها رأت أن محتوى الكتاب ليس هو الأمر المهم، اختارت هذه المرة كتابًا مختلفًا.
كان من توصيات سيسيل، وقد وصفه رِيان سابقًا بالممتع.
لم تكن تقديرات سيسيل خاطئة، فبينما كان يستمع إلى قراءة مختلفة عن المرة السابقة، استطاع رِيان أن يغفو ولو قليلًا.
وحين كان ينام، كانت سيسيل تتوقف عن القراءة وتحدق فيه بتمعن.
جبهته المستقيمة، حاجباه المرسومان بدقة، عظام حاجبه البارزة تحت جفنيه العميقين ورموشه الرمادية التي تفرّعت كالمروحة، و أنفه العالي، وشفتاه اللتان أوقعتاها في الحرج أكثر من مرة بابتساماته العفوية……
***
في العام التالي، في الليلة الأخيرة من أرق رِيان، حين غرق في نوم عميق، قبلته سيسيل بعد أن كانت تتأمله.
***
في العاصمة، كان أربانو يراقب المرأة الواقفة على الجسر مرة أخرى اليوم.
جسرٌ يطلّ على نهر يجري بهدوء. و المرأة التي كانت تقف هناك بصمت……
بدت وكأنها جميلةٌ اليوم أيضًا.
لكن، ماذا يعني “تبدو جميلة” وليس “هي جميلة”؟
كانت تخفي وجهها بقبعة ذات حجاب. و كانت شبكة الحجاب السوداء كثيفة للغاية، بحيث يصعب تمييز ملامحها حتى من مسافة قريبة.
في البداية، مرّ أربانو بجوارها بلا مبالاة. و لم يكن هناك ما يستدعي الاهتمام، فلم تجذبه.
لكنها استمرت في الظهور على الجسر، ومع مرور أربانو يوميًا من هناك في طريقه إلى صالة القمار، بدأ وجهها يصبح مألوفًا له.
وحين بات مألوفًا، بدأ يلاحظ فيها أمورًا لم يكن يراها من قبل.
على سبيل المثال، خصرها الصغير الذي بالكاد يملأ راحة اليد.
كان أربانو أقصر من متوسط طول الرجال، وكانت ذراعاه أقصر أيضًا، لكنه ظن أن خصرها صغيرٌ لدرجة أنه قد يتمكن من تطويقه بذراع واحدة.
ثم هناك يداها.
رغم أنها كانت ترتدي قفازًا أبيض من القطن، كان من الواضح أن يديها نحيفتان، وأصابعها طويلة ومستقيمة.
وكذلك كاحلاها.
تلك اللمحة الخاطفة لكاحلها النحيل أسفل تنورتها الطويلة لفتت انتباه أربانو.
كلما دقق النظر فيها، ازداد اقتناعه بأنها تمامًا على مقاس ذوقه، حتى أنه تساءل كيف لم يلحظ ذلك من قبل.
وهكذا، اليوم. قرر أخيرًا أن يتحدث إلى المرأة التي أمضى أيامًا وهو يتفحصها من كل زاوية.
‘ربما هي أيضًا تنتظر أن أبادر بالكلام.’
أخذت أفكاره تتضخم.
‘بل لا شك في ذلك. لهذا السبب تأتي إلى هذا الجسر باستمرار، لتجذب انتباهي.’
شعر أربانو بالذنب. فمنذ لقائهما الأول، مرّت عشرة أيام و قد تجاهل خلالها مشاعر هذه الآنسة.
لكن لا بأس، لا يزال بإمكانه تصحيح خطئه.
بكل ثقة، اقترب من المرأة الواقفة على الجسر.
“هممم.”
لكن رغم أنه وقف بجوارها وتعمد السعال ليعلن عن وجوده، لم تلتفت إليه، ولم تُظهر أي اهتمام.
‘أوه؟ هذا ليس ما توقعت.’
شعر أربانو بالارتباك. ألم تكن تنتظر اقترابه؟
ربما كانت شاردة الذهن لدرجة أنها لم تدرك أن اللحظة التي كانت تتمناها قد حانت بالفعل.
رفع صوته بما يكفي ليبدد أي شرود لديها، وقال بثقة،
“اليوم يبدو النهر هادئًا جدًا، إنه مشهدٌ رائع للاستمتاع به، أليس كذلك؟”
بهذا الصوت العالي، كان من المستحيل ألا تسمعه إلا إذا كانت صمّاء تمامًا.
تعمد أن يجعل حديثه على شكل سؤال، ثم انتظر ردّها.
وأخيرًا، فتحت المرأة شفتيها،
“عمري خمسة وأربعون عامًا.”
“……ماذا؟”
“لدي زوجان، وحوالي ستةَ أطفال.”
ما هذا الكلام؟!
بينما كان أربانو مصدومًا تمامًا، استدارت المرأة وأخذت تمشي مبتعدة، وكأنها على وشك مغادرة الجسر.
و بشكل انعكاسي، مدّ أربانو يده محاولًا إيقافها.
“آه!”
وبطريقة غير مقصودة، أسقط قبعتها.
“ما الذي تفعله؟!”
استدارت المرأة بحدة، و صوتها مشحون بالغضب. لكن أربانو، الذي كان ينوي الإمساك بكتفها وانتهى به الأمر إلى نزع قبعتها عن طريق الخطأ، نسي كل ذلك وظل محدقًا بها بذهول.
المرأة التي انكشف وجهها……كانت فاتنة.
عيناها الكبيرتان بدتا كالجواهر، وشعرها الأخضر كان نابضًا بالحياة. أما وجهها الصغير والبيضاوي، وأنفها المستقيم، وشفتاها الممتلئتان الحمراوان اللتان قد تجعلانه يشعر برجفة حتى لو تفوهت بأقسى الكلمات……فقد كانت أشبه بلوحة فنية.
خمسة وأربعون عامًا ولديها ستة أطفال؟ هذا مستحيل. مع هذا الوجه؟
كان أربانو متأكدًا من أنها لم تتزوج قط، فضلًا عن إنجاب الأطفال.
عندما أعاد التفكير في كذبتها، وجدها سخيفة للغاية. ناهيك عن الأطفال، أي امرأة متزوجة لماذا ستقضي عشرة أيام بمفردها على هذا الجسر، غارقةً في الكآبة؟
لا، لا شك أنها امرأة عزباء و وحيدة.
وبكل سرور، قرر أربانو أن يكون من يبدد وحدتها.
نفخ صدره، وسمح لنفسه بإظهار الثقة التي منحها إياه جيبه الممتلئ.
“سيدتي، دعيني أعرّفكِ بنفسي أولًا. أنا أربانو، وأملك في هذه المنطقة ثلاثة قصور……”
“لدي أموالٌ أكثر منكَ.”
“……ماذا؟”
“اعتبر القبعة صدقة، و خذها وارحل.”
عندها فقط خطر ببال أربانو أن هذه المرأة قد تكون من النبلاء. فقد شعر للحظة بأنها تفوقه قوة، رغم أنها كانت أصغر حجمًا منه بفارق بسيط.
كان مبهورًا بجمالها إلى درجة أنه لم ينتبه إلا متأخرًا إلى وقفتها المستقيمة، وحركاتها الرصينة، ونظرتها التي لم تكن تحمل أي ارتباك أو خوف من رجل غريب.
“…….”
أدرك أربانو أنه لا يملك سوى ثلاثة قصور صغيرة ورثها مبكرًا عن جدته، وفجأة شعر بصغر حجمه.
وإن كانت حقًا من طبقة النبلاء، فمن المحتمل جدًا أن ما قالته عن امتلاكها أموالًا أكثر منه كان صحيحًا.
المرأة التي قالت إنها ستتبرع بالقبعة، فعلًا تركت أربانو والقبعة وابتعدت عن المكان.
أربانو، الذي كان يراقبها وهي تتضاءل أمام عينيه، رمى القبعة على الأرض في النهاية وبدأ يغضب.
“تبا! ماذا تقول عن كونها نبيلة؟ مستحيل أن تكون نبيلة. هل يوجد نبيل يتجول بمفرده دون خدم؟”
عندما أدرك أنه وقع في فخ أكاذيب المرأة، اجتاح الغضب مشاعره.
“لو قابلتها مجددًا، سأجعلها تدفع ثمن إهانتها لي……سأعلمها من هو أربانو!”
على الرغم من أن المرأة لم تلحق به أي ضرر، بل تبرعت بالقبعة واختفت، ظل أربانو يصرخ وهو يقف على الجسر، وهو يعد بالانتقام.
كم من الوقت مر؟
حين كان على وشك مغادرة المكان، ارتعش فجأة. فقد كان هناك ظل غير معروفٍ متى ظهر، يظلل المكان من فوقه.
_________________________
رِيااااااان ارحبب
اربانو ذاه بيودع وهو ماطلع الا نص فصل ✨
المهم يا رِيان بالله انطل ذا الصعلوك في النهر والحق سيسيل
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 155"