كان والدُ إيريان الابنَ الثاني للماركيز هويل. قليل الطموح ولطيف الطباع مقارنةً بأفراد عائلة هويل. وإن كان لا بد من ذكر عيبٍ له، فقد كان عديم الكفاءة.
وفي أحد الأيام، أحضر معه امرأةً نحيلة ذات بطنٍ منتفخ.
“إنه طفلي. أرجو أن تأذنوا بزواجنا.”
كانت هذه المسألة تافهةً للبعض، لكنها وقعت كالصاعقة على البعض الآخر.
فالمرأة لم تكن تحمل اسم عائلة.
“ابنة تاجر؟ هل جُننتَ؟ كيف لرجلٍ من عائلة هويل أن يأتي بعامة؟!”
“أبي، هذا الرجل وصمة عارٍ على العائلة! فلنطرده من سجلّ العائلة، حسناً؟”
أحدث أبناءُ الماركيز هويل ضجةً عارمة، باستثناء والد إيريان. و يبدو أن مشاعر الماركيز لم تكن مختلفة كثيرًا عن مشاعر أبنائه.
لكن في تلك اللحظة، كان الوحيد الذي وقف إلى جانب والد إيريان هي الماركيزة هويل.
“لقد حملت بالطفل، فماذا عسانا نفعل؟ تقبّلهما.”
“أمي!”
“زوجتي……”
“إنه ابني الذي أنجبته بألم المخاض، ولدتُه بعدما مزّق جسدي. مهما كانت المرأة وضيعَة، لا يمكنني السماح بطرده من العائلة.”
لكن الماركيزة هويل لم تكن تدافع سوى عن والد إيريان، ولم يشمل دعمها والدته ولا إيريان الذي كان لا يزال في رحمها آنذاك.
ومع ذلك، بفضل تدخلها، تمكن والد إيريان من إقامة زواج بسيط مع والدتها، ووُلد إيريان بسلام.
عاشت أسرة إيريان تحت ازدراء أفراد العائلة، لكنهم كانوا سعداء معًا رغم كل شيء.
فلو نظر المرء إليهم وحدهم، لبدوا كعائلة متماسكة.
غير أن تعاستهم بدأت حين تعرّض والد إيريان لحادث دهس بعربة أثناء خروجه، فقضى نحبه على الفور.
“آااه! ابني! ابني!”
بعد وفاة والد إيريان، كانت أول من انهار هي الماركيزة هويل.
لطالما كانت ضعيفة البنية، لكن وفاة ابنها المفاجئة كانت صدمةً لم تحتملها، فأصابها المرض.
وحين أرقدها المرض، لم توجه حقدها إلا لمن بقي على قيد الحياة.
“كل هذا بسبب تلك الوضيعة……قدرها المشؤوم هو من ابتلع ابني. لا مكان لدماءٍ وضيعةٍ في هذه العائلة بعد الآن. عليّ حماية أطفالي الباقين……”
طردت الماركيزة والدة إيريان و إيريان نفسه من القصر.
وهكذا، بفضلها، تمكنت والدة إيريان من دخول قصر الماركيز، وبفضلها أيضًا طُردت منه.
“لا بأس، من الآن فصاعدًا، سنعيش معًا فقط، نحن الاثنين.”
قالت والدة إيريان ذلك وهي تمسك بيد ابنها البالغ من العمر سبع سنوات.
لكنها، إن أحسَن الظن بها، كانت ساذجة، وإن كنا أكثر واقعية، فقد كانت جاهلةً بأمور الحياة.
كانت تثق بالناس بسهولة، كما لو أنها لم تتعرض للخيانة يومًا، والنتيجة أنها خسرت المنزل الذي كانا يعيشان فيه خلال عامين فقط.
لم يكن فقدان المنزل بحد ذاته المشكلة الوحيدة، بل إن إيريان ووالدته لم يكن لديهما أي مال متبقٍّ.
الإرث الذي تركه والد إيريان لهما استُهلك نصفه في المعيشة، بينما انتهى النصف الآخر في جيوب الغرباء كما حدث مع المنزل.
لم يكن بحوزة والدة إيريان سوى القليل من المال للسفر،
“لنذهب لطلب المساعدة.”
“من أين؟”
“من العائلة.”
حتى في ذلك الوقت، كانت والدة إيريان لا تزال ساذجة.
رغم أن العائلة نفسها نبذتهم طوال حياتهم، وطردت الأم وابنها بعدما فقدا الزوج والأب، إلا أنها كانت تؤمن بأنهم ما زالوا “عائلة”، بل وتتوقع منهم مدّ يد العون.
لكن الواقع كان باردًا، تمامًا كما كان حين جعلوا إيريان ووالدته معدمين.
في ذلك الوقت، كان أبناء الماركيز هويل قد حصل كلٌّ منهم على لقبٍ نبيل أو تزوج وغادر العائلة، لكن إيريان ووالدته لم يحصلا على أي مساعدة من أيٍّ منهم، بل طُردا من قصورهم جميعًا.
“همم، سيدُنا مشغولٌ للغاية.”
حتى إن بعضهم رفض مقابلتهما تمامًا.
ورغم تعرض والدة إيريان للإهانة ثلاث مرات متتالية، لم تتخلَّ عن أملها.
عندما يفكر إيريان في الأمر الآن، يدرك أنها كانت تُعلّق آخر آمالها على “عائلة زوجها”.
فربما كانت تؤمن بأن هناك، على الأقل، شخصًا واحدًا في عائلة هويل يشبه زوجها، شخصٌ لا يستطيع أن يغض الطرف عن معاناة الآخرين.
“ولماذا عليّ مساعدتكما؟”
قال الماركيز هويل ذلك بينما كانت والدة إيريان راكعة عند قدميه.
“مساعدة العاجزين……ذلك أمرٌ لا يفعله إلا العاجزون مثلهم.”
العاجزون.
أمام هذه الكلمة الوحيدة، بدا أن والدة إيريان قد تخلّت أخيرًا عن كل أملٍ وكل إرادة.
وحين كبر إيريان، تذكر هذا المشهد وتأمل فيه كثيرًا.
ماذا لو أن فردًا واحدًا فقط من عائلة ج هويل مدّ يد العون لإيريان ووالدته في ذلك الوقت؟
بالطبع، مع ضعف مهارات والدته في إدارة الحياة، كان المال الذي ستحصل عليه سيتبدد عاجلًا أم آجلًا.
لكن المتغير في تلك المعادلة كان إيريان نفسه، الذي كان يكبر في ذلك الحين.
كان ذكيًا، وكان حين يرافق والدته لطلب المساعدة من أقاربهم، يفهم العالم أفضل بكثير من البالغين السذّج.
لو حصلت أسرته على ولو مساعدة ضئيلة، لتمكّن إيريان من الاعتناء بوالدته، ولما اضطرّا إلى الجوع.
وربما، مع مرور الوقت، كان سيحسّن أوضاعهم بما يكفي لردّ الجميل.
لكن، بطبيعة الحال، لم يعد لكل ذلك أي معنى الآن.
بعد أن رفضوها عائلة هويل بالكامل، قامت والدة إيريان بقصّ شعرها. ثم باعته، وبالمال الذي حصلت عليه، انطلقت في أطول رحلة خاضتها حتى ذلك الحين، لتصل إلى قصر ضخم فخم.
وهناك، خرجت امرأة في منتصف العمر لاستقبال إيريان ووالدته، فركعت والدته أمامها وخفضت رأسها.
“أرجوكِ، تقبّلينا يا أمي.”
لم يشعر إيريان بمثل هذه الصدمة منذ وفاة والده. فقد كانت المرأة التي استقبلتهما في القصر هي جدته.
والدته، التي كانت تقدم نفسها دائمًا على أنها ابنة تاجر، كانت في الواقع ابنة نبيلة.
“قلتِ ذات يوم أنكِ تفضلين إلقاء نفسكِ من جرفٍ على أن تعيشي كواحدة من عائلة كايتير.”
“لقد أخطأت……أندم على ذلك، لذا أرجوكِ امنحيني فرصةً واحدة فقط.”
بينما كانت دموعها تنهمر، قدمت ابنها الصغير.
“إنه ليس مثلي، ولا مثل والده الراحل، بل يشبهكِ أنتِ. جربي تعليمه، وستدركين ذلك بنفسكِ. لطالما كنتِ ترغبين في وريث يشبهكِ، أليس كذلك؟”
تأملت الكونتيسة كايتير وجه حفيدها، الذي كانت تراه للمرة الأولى، ثم وضعت شرطًا.
“سأعطيكما ثلاثة أشهر. إن لم يكن بالمستوى المطلوب، فسأطردكما، سواء متجمّدين في البرد أم لا، هذا لا يعنيني.”
“لا تقلقي، أمي، هذا لن يحدث أبدًا.”
لم يكن ذلك وعدًا فارغًا، بل حقيقةً ستُثبت لاحقًا.
“من الآن فصاعدًا، اسمكِ هو إيريان كايتير.”
بعد ثلاثة أشهر من الإقامة في قصر الكونت، تغير الاسم الكامل لإيريان.
وبعد ذلك بعامين.
رغم أن حياتهم أصبحت أكثر رخاءً، إلا أن صحة والدة إيريان تدهورت بشكل ملحوظ مقارنةً بالماضي.
لم تكن ضعيفة الجسد لدرجة أن تمرض باستمرار، لكن اليوم الذي استقلت فيه العربة تحت المطر الغزير كان بمثابة السم لها.
“كانت حماقة. أما نجاتكَ أنت، فليس إلا لأنكَ وُلدت بجسد قوي.”
قال الكونتيسة كايتير ذلك وهي تنقر بلسانها، بعدما سمعت تفاصيل ما حدث في الماضي.
وفي العام التالي، لم تفارق السعالَ الذي أصابها، وفي العام الذي تلاه، أقام إيريان جنازة والدته.
بكى إيريان، البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، طوال فصلٍ كامل. و كانت دموعه تحمل في طياتها أيضًا الحزن الذي شعر به عند فقدان والده.
إذ لم يدرك إلا متأخرًا أنه عندما مات والده، لم يكن لديه حتى وقتٌ ليحزن.
“من اليوم فصاعدًا، أنت الكونت كايتير.”
عندما بلغ إيريان الرابعة عشرة من عمره، أعلنت الكونتيسة كايتير—لا، بل الكونتيسة السابق—قرارها.
نظر إيريان بصمت إلى جدته، التي كانت تلتف بالفراء رغم وجودها في غرفة دافئة محمية من الرياح الباردة.
كان يعلم أن تقدمها في السن أضعفها، لكنه لم يتوقع أن يصل بها الأمر إلى التنحي عن منصبها.
وكأنها قرأت أفكاره، تحدثت ببرود،
“لا تسيء الفهم. لستُ مجرد عجوزٍ عليّ قضاء وقتي في غرفة خلفية بحياكة الصوف. حتى لو أصبحتَ الكونت، لن تكون لك السيطرة المطلقة لفترة من الزمن.”
“أتمنى أن تعيشي طويلًا.”
قالها إيريان بصدق، فقد كانت كلماتٍ انطلقت من قلبه دون تفكير.
ضحكت جدته بصوت عالٍ، وهي ترفع كأس النبيذ الساخن.
“هل أخبرتكَ من قبل؟ زوجي توفي قبل أن تغادر أمكَ المنزل. قيل إنه سقط عرضًا، لكن الحقيقة هي أنه ألقى بنفسه من الجرف.”
عندها، تذكر إيريان فجأة الكلمات التي يُقال إن والدته قالتها عندما غادرت منزل العائلة،
“أن أعيش كواحدة من عائلة كايتير؟ أفضّل أن ألقي بنفسي من على جرف.”
_____________________
ليه جدته ذي وش مسويه لدرجة بنتها وزوجها ودهم يىْتحرون؟
امه تحزن وهو اختنقت معه يوم قال انه بكى على امه ثم ابوه لانه ما استوعب اصلا💔
وين سيسيل تعالي ضميه
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 152"