كانت طريقتها في ذلك ماكرة مثل الأفاعي، لكنها في الوقت نفسه كانت منظمة للغاية، كما لو كانت استراتيجية حربية متقنة.
في أغلب الأحيان، لم يكن الأساتذة المنحازون إلى الطلاب النبلاء قادرين على الوقوف في صفهم بسبب النتائج التي كانت تؤدي إليها خطط سيلين.
بل إن أسلوبها هذا ترك أثرًا عميقًا على الطلاب البرجوازيين الذين كانوا يسعون لإرضاء النبلاء أو يخشونهم في صمت.
في غضون فصل دراسي واحد فقط، تحولت سيلين، التي سعت كاثرين لعزلها، إلى نقطة تجمع للطلاب غير النبلاء، متحررة تمامًا من العزلة التي كان يُفترض أن تسحقها.
في النهاية، تخرجت كاثرين دي فاسبور دون أن ترى سيلين شاتليه تخضع أو تنهار ولو لمرة واحدة.
كانت تلك الأخيرة هي من قدم لها باقة الزهور خلال حفل التخرج، قائلة بابتسامة ساخرة: “لقد استمتعت بوقتي بفضلكِ، يا سيدتي.”
أما المرارة، فكانت من نصيب كاثرين.
لهذا السبب، لم تنسَ اسم سيلين شاتليه أبدًا.
بعد عامين، عندما تخرجت سيلين برتبة ملازم، كانت كاثرين قد أصبحت بالفعل رائدًا في الجيش، بعد أن حظيت بترقية سريعة وغير مسبوقة بفضل كونها كونتيسة فاسبور وذراع ولي العهد اليمنى.
لكن هذه المرة، لم يكن الأمر مجرد تصرفات طفولية في الأكاديمية العسكرية، بل محاولة متعمدة لسحق سيلين بوحشية.
ومع ذلك، باءت محاولاتها بالفشل مرة أخرى.
كانت سيلين شاتليه كالأعشاب الضارة، كلما حاولت كاترين اقتلاعها، نمت من جديد.
كانت تمتلك شجاعة لا يمكن التنبؤ بمصدرها، وأحيانًا، وجدت كاثرين نفسها تكاد تعجب بذلك.
وفي أحد الأيام، قررت كاثرين أن تفسر هذا الإعجاب على أنه رغبة في ضم سيلين إلى صفها، فمدت لها يدها بدلاً من السم الذي اعتادت تقديمه.
حدث ذلك في اليوم الذي تمت ترقيتها فيه إلى عقيد.
صرحت كاثرين لسيلين قائلة:
“انضمي إليّ، وسأنسى كل ما حدث بيننا، وسأضمن لكِ مستقبلاً واعدًا.”
لكن رد سيلين كان كعادتها مستفزًا، مرفقًا بابتسامة باردة ومتعالية:
“لستِ بحاجة لأن تتكلفي عناء النسيان، يا كونتيسة.”
في تلك اللحظة، حينما نظرت إليها سيلين بإشفاق خفيف، وعندما اختارت مناداتها بـ”الكونتيسة” بدلاً من الإشارة إلى رتبتها العسكرية، ربما كان ينبغي على كاترين أن تفهم.
تفهم أن سيلين شاتليه كانت جمهورية حتى النخاع.
تفهم أنها ستصبح سُمًا يتفشى في الجيش.
تفهم أن هذا اليوم الذي تعيشه الآن كان حتميًا.
لو أدركت ذلك منذ البداية وتخلصت منها، ربما لما انضم ثلث الجيش إلى الثورة.
وربما لما نجحت الثورة.
وربما لما كان الأمير هنري قد لقي مصيره المشؤوم…
“تبًا…!”
صرخت كاثرين، غاضبة، وضربت الطاولة بقبضتها.
لقد قتلت نيكولا دي فاسبور.
لقد قتلت والدها.
لكنها فعلت ذلك لحماية كبرياء دمائها النبيلة.
فلماذا إذن، بعد كل هذا، لا تزال سيلين شاتليه تجرها إلى هذا الوحل؟
كانت تمقتها حد الاشمئزاز.
“هل أنتم بخير؟”
لكن الرجل الواقف أمامها، والذي لم يكن لديه أدنى فكرة عن العاصفة التي تعصف بعقلها، سألها ببرود.
كان ذلك الرجل هو قائد الكتيبة 107 السحرية، إيليا فيلينسكي، الذي تركه جيش كلاديف كضابط اتصال في حصن فاسبور.
استدارت كاثرين نحوه بغضب، وحدقت فيه ببرود.
لكن سرعان ما اجتاحها شعور بالإهانة.
لقد فقدت أعصابها أمام ممثل التحالف.
كان عليها أن تستعيد رباطة جأشها على الفور.
قالت، متظاهرة بالهدوء: “أنا بخير يمكنك الانصراف.”
“حسنًا.”
أجاب إيليا ببرود، واستدار ليغادر.
ولكن قبل أن يغادر تمامًا، استوقفته كاثرين فجأة:
“انتظر.”
التفت إيليا لينظر إليها، مستفسرًا:
“ما الأمر؟”
كان صوته هادئًا، خاليًا من أي تردد، وتحدث بلغتها بطلاقة، مما يدل على تعليمه الرفيع.
كانت كاثرين تتساءل عن أمر ما منذ أن تم تقديم إيليا فيلينسكي إليها.
ورأت أن هذه هي الفرصة المناسبة لطرحه.
“أنت ساحر، أليس كذلك؟ وكتيبتك كتيبة سحرية.”
“نعم، هذا صحيح.”
“إذن، لماذا تم استبعادك من القتال وإرسالك إلى هنا كضابط اتصال؟”
كانت كاثرين تفضل التواصل المباشر مع القيادة العليا للحلفاء، لذلك كان وضع إيليا وكتيبته أشبه بكونهم قد تُركوا هنا بدلًا من كونهم مجرد ضباط اتصال.
أرادت أن تعرف السبب.
هل كان هناك أمر لا يستطيع الإفصاح عنه؟
لكن الإجابة جاءت مباشرة دون أي تردد:
“عُوقبتُ بثلاثة أشهر من خفض الراتب وحُرمتُ من المشاركة في المعارك لأنني اعترضتُ على قصف بيلوز.”
اعترض على قصف بيلوز؟
… لماذا؟
“لم يكن ذلك وطنك، بل كانت أرض ليانغ فما سبب اعتراضك؟”
“لأنه كان انتهاكًا لاتفاقية أشبريدج.”
“هل هذا هو السبب الوحيد؟”
تردد إيليا للحظة، لكنه أجاب:
“نعم هذا كل شيء.”
كان صوته هادئًا كالمعتاد، لكن ذلك التوقف القصير قبل الإجابة الأخيرة بدا وكأنه استفزاز صامت، وكأنه يسألها: “لماذا قبلتِ بالقصف إذن، يا كونتيسة؟”
شعرت كاثرين بعدم الارتياح.
أمرت إيليا بالانصراف، وعاد الهدوء إلى الحصن مع حلول الليل.
⚜ ⚜ ⚜
رغم أنه أصرّ على الانتقال إلى مكان خاص للحديث كما لو كان سيخبرها بأمر جلل، إلا أن ليونارد ظل صامتًا بعد دخول الغرفة.
لم تحاول آنايس دفعه للكلام.
في الواقع، لم يخطر لها حتى أن تفعل ذلك.
كل ما كانت تأمله هو أن هذا الحديث لن ينتهي بلمس نقطة ضعفها التي لا تستطيع الإفصاح عنها.
ثم، بعد لحظة طويلة من الصمت، تحدث ليونارد ببطء:
“لماذا لم تنتظريني؟”
كان سؤاله مبهمًا، لكن آنيس فهمت ما يقصده على الفور.
“بصفتي أمير ليانغ وإحدى سلالات الإمبراطور المؤسس أنطوان الأول، وبشرفي كدوق بيرينيه-روجر، أقسم أنني سأصبح الإمبراطور، وسأضمن ألا تمرّي بهذا مجددًا.”
“لذا، لا تبكي، وانتظريني.”
“سأفتح لكِ أبواب عالم جديد.”
كان ذلك العهد الذي قطعه ليونارد أنطوان دي شارلوا يومها لا يُنسى، ليس له وحده، بل أيضًا لآنيس بيلمارتيا.
كان في العشرين من عمره، وأقسم لها بكل ما يملك من شرف وقيمة ومجد.
قال لها ألا تبكي، وأن تنتظره.
لم يكن ثقل ذلك العهد على يديها، ولا طلبه منها أن تنتظره، أمرًا يمكن الاستخفاف به.
لكن لو كانت الدنيا قاسية على ليونارد في ذلك اليوم دون أن يدرك، فلأن آنيس كانت قد اتخذت قرارها مسبقًا.
نعم، حينها، خلال الأيام التي قضتها في الاعتقال، كانت قد حسمت أمرها:
إذا خرجت من ذلك الجحيم حيّة بمعجزة، فستنضم إلى صفوف الثوار.
وحتى بعد أن علمت كم بذل ليونارد من الجهد لإنقاذ حياتها، لم يتغير قرارها.
لقد أضاف إليها ذلك بعض الشعور بالمديونية تجاهه، نعم، لكنها لم تتراجع.
ربما كان من الواجب عليها، أخلاقيًا، أن تثق به وتنتظره.
لكن آنيس لم تكن من أولئك الذين يغيرون قراراتهم بسهولة.
وقبل كل شيء، كان إحساسها بالامتنان تجاه ليونارد أقل وطأة من الألم العميق الذي شعرت به وهي ترى زملاءها الطلاب في السجن، يتعرضون للتعذيب حتى الموت، ومع ذلك، يصرخون حتى الرمق الأخير: “فريدريك لم يساعدنا قط!”
لقد تسللت أصواتهم، وهي ترتدي ثوب الألم، عبر جدران الزنزانة الباردة، ونفذت إلى روحها.
في تلك الأيام القاسية، حيث حُرمت من أبسط الحريات، أدركت كم كان ثمينًا لها أن ترى السماء الزرقاء.
لم يكن طلبهم للحرية جريمة، بل كان أسمى ما يمكن أن يسعى إليه الإنسان.
لكن النظام جعل ذلك جريمة، وأباح لأولئك الذين في السلطة أن يسحقوا أرواح الأبرياء بوحشية.
كم كان ذلك العالم ظالمًا، قاسيًا، مظلمًا…
كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟ كيف يمكن أن يُترك العالم على هذا النحو؟
وفي كل مرة كان فيها صوت ضحكات ولي العهد هنري يتردد في الزنزانة، وهو يشاهد الطلاب وهم يتعذبون، كانت آنيس تشتعل غضبًا.
كيف يُمنح شخص مثله، فقط لأنه وُلد أميرًا، الحق في تعذيب وقتل أقرانه بلا قيود؟
كيف يُمكن لهذا العالم أن يكون بهذا القدر من التشوه؟
“لماذا لم تنتظريني؟”
لو قالت إنها لم تفكر حتى للحظة في انتظاره، فستكون كاذبة.
نعم، للحظة، في تلك اللحظة التي أقسم فيها، كادت أن تتزعزع.
لو أنها فقط أغلقت أبواب قلبها، وعاشت كما كانت تفعل سابقًا، في حديقتها الخاصة، متجاهلة العالم، منتظرةً إياه…
ربما كان سيغير العالم من أجلها.
ربما كان سيخلق عالمًا أفضل.
بل كانت على يقين من أنه كان سيفعل ذلك.
لكن… لكن ذلك العالم، لم يكن العالم الذي كانت تريده.
قالت بصوت ثابت:
“لم يكن ليكون العالم الذي أطمح إليه.”
في عالم ليونارد، كان سيظل هناك إمبراطور ونبلاء.
كان هو شخصًا رائعًا، مختلفًا عن أبيه وأخيه، وكان سيصبح حاكمًا عظيمًا.
لكن… ماذا لو كان كل شيء يعتمد عليه وحده؟
ماذا لو تغير بمرور الزمن؟
وماذا لو سار أبناؤه أو أحفاده يومًا على خطى أنطوان الثالث عشر أو ولي العهد هنري؟
في الحقيقة، لم يكن الخطأ في أنطوان الثالث عشر كشخص، بل في النظام الذي يسمح بوجود أمثاله.
آمنت آنيس بذلك يومًا بعد يوم.
سواء كان ذلك أثناء محادثاتها مع الطلاب الجمهوريين، أو في قاعة محاضرات بوارنيه، أو في ظلمة الزنزانة حيث رأت بأم عينيها كيف يُسحق أصحاب المبادئ.
لهذا، لم يكن يهمها مدى ازدهار مملكة ليونارد أو مدى عدله كحاكم.
ففي نظرها، لم يكن العالم المثالي مكانًا يحكمه حاكم مستنير يرعى شعبه من عرشه.
بل كان طريقًا وعِرًا، يسير فيه الجميع معًا، ببطء، نحو مستقبل يبنونه بأيديهم.
وأرادت أن تسلك ذلك الطريق، مهما كان مليئًا بالأشواك.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"