كان صوت البكاء ينبعث من داخل الأغطية ولكن جثة مارسيل كانت تحتضن البطانية بإحكام شديد، لدرجة أن الأمر استدعى تدخل ثلاثة رجال أشداء لفصلها عنها كان من بين هؤلاء الثلاثة ليونارد، الذي كان يخفض رأسه متعمدًا ليخفي تعابير وجهه بكل ما أوتي من جهد.
وما إن تم فك الأغطية، حتى ظهرت داخلها ماري بلانك ، تبكي بصوت عالٍ، تمامًا كما توقع كلٌّ من أنيس وليونارد منذ اللحظة التي تأكدوا فيها أن الجثة تعود إلى مارسيل.
“ماري!”
أسرع ليونارد بحملها بين ذراعيه، بينما هرعت أنيس إلى ظهره لتفحص حالة الطفلة لقد مضى أكثر من يومين على بقائها وحيدة في الظلام، بلا طعام ولا حتى شربها ماء، لذا لم يكن من المستغرب أن تفقد قوتها فجأة، لتتحول شهقات بكائها إلى أنفاس متقطعة وجسد يرتجف بشدة كان لا بد من نقلها إلى المستشفى على الفور التقت نظرات أن يس القلقة بنظرات ليونارد في الهواء، ثم انحنيا سريعًا للجنود تعبيرًا عن امتنانهم قبل أن يهرعا صعودًا فوق أنقاض الدمار.
“إذا توجهتم إلى مدخل القرية، فستجدون سيارة إسعاف عسكرية بانتظاركم!”
صرخ أحد الجنود بهذه الكلمات، فاكتفت أنيس بإيماءة احترام قبل أن تلتفت للمرة الأخيرة نحو جثة مارسيل الملقاة على الأرض، متجاهلة الضباب الذي بدأ يكسو رؤيتها، ثم انطلقت مسرعة برفقة ليونارد.
⚜ ⚜ ⚜
“ما… ما هذا كله؟”
وقف الشاب ذو الشعر الأحمر مصعوقًا وهو يتفحص المنزل الذي غرق في فوضى عارمة كان قد جاء للترحيب بجاره الجديد، ولكن ما إن أطل إلى الداخل حتى بدا على وجهه الاشمئزاز، رغم أن ليونارد كان لديه تفسير جاهز للأمر ببساطة، كان المنزل هكذا منذ أن دخله!
“كنت… أقوم بالتنظيف.”
“مستحيل أنا أذكر تمامًا كيف كان شكل هذا المنزل آخر مرة رأيته فيها صحيح أنه كان فوضويًّا بعض الشيء، لكنه لم يكن بهذا السوء!”
“أ-أحقًا؟”
لكن الشاب ذا الشعر الأحمر لم يقتنع بعذر ليونارد، بل ذهب يحدق به بنظرة مليئة بالشك، وكأن عينيه تصرخان بأن الفوضى تفاقمت أكثر بعد أن بدأ ليونارد التنظيف وتحت وطأة التوتر، بدأ الأخير بتحريك يديه بعشوائية جعلت الأمور تزداد سوءًا أما الشاب والفتاة الواقفة بجانبه، فقد راقبا ما يجري لفترة طويلة من عتبة الباب، قبل أن يتنهدا في آن واحد ويهزا رأسيهما يأسًا وفي النهاية، لم يستطع الشاب الاحتمال أكثر ففتح فمه متحدثًا:
“أولًا، ضع تلك المكنسة جانبًا أنت تمسك بها وكأنك ستهاجم أحدهم بها!”
“لكن… لا بد من استخدامها في التنظيف…”
“لو كان التنظيف يتم بطريقة عشوائية دون خطة واضحة، لما خرجت من هذه الفوضى أبدًا! قلت لك، ضعها جانبًا!”
ثم، دون أي مقدمات، اقتحم الشاب والفتاة المنزل وبدآ التحرك فيه بسرعة وكأنهما آليان مبرمجان على إعادة كل شيء إلى مكانه الصحيح لم يكن أمام ليونارد سوى أن يتبع أوامرهما، فوضع المكنسة جانبًا وانشغل بمساعدتهما في نقل الأثاث الثقيل من مكان إلى آخر وللمفاجأة، بدأت معالم المنزل تتغير شيئًا فشيئًا، وبحلول وقت الغروب، أصبح نظيفًا ومنظمًا كما لو كان منزلًا جديدًا.
صفق الشاب والفتاة أيديهما بفرح، ثم التفت الشاب نحو ليونارد ليعتذر قائلًا:
“أعتذر لأننا اقتحمنا منزلك وأخذنا نعطي الأوامر بهذا الشكل لكن عليك الاعتراف بأنك كنت على وشك هدم الجدران لو استمررت في التنظيف بهذه الطريقة!”
“لا داعي للاعتذار في الحقيقة، لم أكن أعرف من أين أبدأ، ولولا مساعدتكما، لما أنهيت الأمر بهذه السرعة بل عليَّ أن أشكركما على مساعدتي.”
وكان يقصد ذلك حقًّا لم يكن في قلبه أي استياء فرغم أنه لم يكن في حاجة إلى المال، فإن كونه في وضع الهارب جعله يدرك قيمة أي مساعدة تُقدَّم له، مهما كانت بسيطة.
ابتسم الشاب بارتياح وصفق بيديه، وكأنه أخيرًا استطاع إنجاز مهمته، ثم قال:
“حسنًا، لنعد الآن إلى ما جئت من أجله بما أنك ممتن لي، فمن المنطقي أن تكون أنت من يعرف بنفسه أولًا!”
كانت حجته مضحكة، لكنها لم تكن مزعجة مد ليونارد يده إلى الشاب، ثم قدم له اسمًا زائفًا كان قد أعده مسبقًا:
“أنا… سيرديو.”
“اسمي مارسيل بلانك ، وهذه أختي…”
⚜ ⚜ ⚜
“ماري، كيف تشعرين؟ هل أنتِ جائعة؟”
هزت ماري رأسها بصمت، دون أن يظهر أي تعبير على وجهها تنهدت أنيس بخفة، ثم سحبت ستارة السرير لتسمح للضوء بالدخول، على أمل أن يمنحها بعض الدفء.
مرت عدة أيام منذ أن عُثر على ماري بلانك ، أول ناجية من أنقاض مدينة دوينان لم تتوقف جهود البحث، وخلال هذه الفترة، تم العثور على ثلاثة ناجين آخرين كان ليونارد، الذي انضم إلى فرق البحث، يعلق بوجه يائس: “أعتقد أن هذا كل شيء… لن نعثر على مزيد من الناجين.”
لكن ماري نجت.
على الأقل… حتى الآن.
تم نقلها إلى مستشفى روييه العام في سيارة إسعاف عسكرية كانت تعاني من سوء تغذية حاد وجفاف شديد، لكن لحسن الحظ، لم يكن هناك أي إصابات جسدية أخرى قال الأطباء إن وصولها في الوقت المناسب كان معجزة، وعندما سمع ليونارد ذلك، سقط منهارًا على أحد مقاعد المستشفى.
سمعته أنيس يتمتم بصوت منخفض: “هذه المرة… هذه المرة…”
أوقفت يدها التي كانت على وشك أن تواسيه، ثم تراجعت بصمت.
ظل ليونارد بجانب ماري طوال الليل، ولم يتحرك حتى فتحت عينيها أخيرًا أدركت أنييس حينها أنه لم يكن يرى ماري فحسب، بل كان يرى من خلالها شخصًا آخر… تمامًا كما كانت هي ترى في مارسيل بلانك صورة لمارسيل بلمارتييه.
ففي لحظات الحياة والموت، لا يمكن للمرء إلا أن يبقى بجانب من لم يستطع حمايتهم في الماضي.
استفاقت ماري بعد يوم واحد فقط وما إن فتحت عينيها حتى بدأت بالبكاء مجددًا لفترة طويلة لم تكن طفلة العاشرة من العمر ساذجة بما يكفي لتصدق كذبة مثل “شقيقك رحل بعيدًا لبعض الوقت”.
والأهم من ذلك، أن ماري بلانك كانت تتذكر بوضوح أنها قضت يومين ونصفًا وهي تحتضن جثة شقيقها الميت.
فقدت ماري كل ما كان يملأ عالمها من بهجة وحيوية، وكانت تبكي بحرقة وكأنها فقدت العالم بأسره، أو ترفض تناول الطعام، أو تجلس على سريرها شاردة الذهن، تكرر تلك الأفعال بلا توقف ولم يكن في ذلك خطأ، فقد كانت ترى في شقيقها كل شيء، إذ فقدت والديها في سن صغيرة، ولم يكن لها في هذا العالم سواه.
وفي كل مرة كانت ترى ليونارد كانت تبكي لعلها كلما وقع بصرها عليه تذكرت شقيقها، فقد كانا صديقين مقربين لكن حالتها الصحية لم تكن تحتمل مزيدًا من الدموع، إذ كانت لا تزال تعاني من الجفاف ومع مرور الأيام، أدرك ليونارد أنه قد يكون عقبة أمام تعافيها، فقرر الذهاب للمشاركة في عمليات البحث عن ناجين في دوينان لم تحاول أنيس منعه، بل ربما كان ذلك أفضل له.
رغم أن مستشفى روييه العام كان يقع بالقرب من مبنى البلدية الذي تتمركز فيه القوات الحكومية، فإن الأنقاض المدمرة في بيلوز، حيث كان الجنود في مهام البحث، إلا أن ذلك كان بشكل متناقض مكانًا أكثر أمانًا بالنسبة له.
وبطبيعة الحال، أصبحت أنيس هي المسؤولة عن رعاية ماري.
ومنذ استيقاظها، قلَّ كلامها كثيرًا، حتى خُيّل لأول وهلة أنها فقدت النطق من أثر الصدمة. لكن لحسن الحظ، لم يكن الأمر بهذا السوء، وإن كان حديثها لا يتجاوز بضع كلمات مقتضبة مثل “نعم” أو “لا” وفي معظم الأحيان، كانت تكتفي بالإيماء برأسها بدلاً من الرد شفهيًا ربما كانت فقدانها لشقيقها قد استنزف منها حتى القدرة على التحدث، ولذا لم يكن أمام أنيس سوى أن تنتظر بصبر لكن رغم ذلك، لم تستطع إلا أن تشعر بالحزن العميق، وهي ترى الطفلة التي كانت تملأ المكان بروحها النقية، تتحول إلى مجرد ظل لما كانت عليه.
خلال ذلك، كانت أنيس تجلس إلى جانب ماري، تربت على كتفها برفق، عندما دخل الطبيب إلى الغرفة لبدء جولته الطبية.
للحظة، عندما فُتح الباب، لمحت المشهد خلفه، ولم تجد اختلافًا يُذكر عما كانت تراه في الأيام التي قضتها هنا مريضة.
المرضى يتنقلون بين الأروقة، الأطباء والممرضات يعملون، والجنود يسيرون ذهابًا وإيابًا المكان كان صاخبًا، لكنه لم يكن في حالة طوارئ.
ظنت أنيس أن قصفًا بهذه الشدة لا بد أن يجعل المستشفى أكثر ازدحامًا، لكنها لاحظت أنه لم يكن كذلك في الواقع، كان أكثر الأماكن ازدحامًا هو المشرحة سمعت أحدهم يذكر ذلك، وجعلها هذا الإدراك تشعر ببرودة الواقع القاسية كان الناجون قليلين إلى حد مخيف، بينما تراكمت الجثث إلى درجة أن المشرحة لم تعد تتسع لها والأسوأ من ذلك، أن كل هذا لم يكن سوى للجثث “التي يمكن التعرف عليها”.
كيف يمكن لهذا أن يكون واقعًا؟
كل ما أرادته هو مستقبل أفضل، فلماذا يبدو لها أن العالم يغرق أكثر فأكثر في اليأس؟
أتت إلى دوينان مستعدة للموت، ولكنها كانت تصلي –وإن لم تكن تؤمن بذلك– لكي يحظى أهلها بربيع دافئ يشبههم لقد كانوا أكثر من يستحقون رؤية ذلك الربيع، فقد كانت أرضهم دائمًا تزهو بنوره لكن لماذا؟ لماذا انتهى الأمر هكذا؟
غطت أنيس وجهها بكفيها، وكانت تسترجع حديثها العابر مع سيلين ليلة البارحة.
“لقد أعربت جمهورية ويستيريا عن رغبتها في التدخل لصالح المجلس الحاكم مع دخول قوات كلاديف إلى الحرب، يمكن اعتبار هذا خبرًا جيدًا، لكن…”
“لكن هذا يعني أن الحرب ستتصاعد أكثر.”
“نعم، هذا صحيح.”
يا إلهي… أيها الرب…
هل كنتَ تتجاهل هذه الأرض لأن خطاياي كانت أعظم من أن تُغفر؟
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 31"