مبنى مهجور ومتهدم.
كان الرجل يحرق زيه العسكري الأسود في برميل حديدي، بينما تراقب عيناه المرتجفتان ألسنة اللهب المتصاعدة بقلق.
كان ارتداء الزي العسكري لأول مرة في حياته أمرًا معقدًا، تمامًا كتعقيد خلعه، مما زاد من توتره الذي كان يشعر به بالفعل.
لكن كل ذلك سينتهي الآن. عند حافة القلق، تذوّق الرجل طعم راحة خافتة سيحصل على المال ويغادر مع عائلته إلى مملكة لانسيير فقد وُعد بمبلغ كافٍ لذلك قد يتساءل البعض عن جدوى مغادرة البلاد بعد سقوط الإمبراطور الذي تسبب في خرابها، لكن الرجل، الذي لم يكن ينتمي إلى الثوار ولا إلى الشعب الغاضب، لم يكن يهتم بنوع النظام الحاكم، سواء كان ملكيًا أو جمهوريًا، طالما أنه يستطيع كسب قوته والعيش.
قبل مدة، التقى الرجل بشخص غامض.
أو بالأحرى، هل يمكن وصف ذلك بأنه “لقاء”؟
ظهر ذلك الشخص أمامه بينما كان يتنقل بين الأزقة الخلفية، يكافح لإعالة أسرته كان يرتدي قناعًا يخفي هويته وعد الرجل بمبلغ طائل لم يكن ليكسبه طوال حياته، لكنه في الوقت ذاته هدده باستخدام عائلته كرهائن كانت مهمته المشاركة في معركة “بيردوا” وإطلاق النار على “أنييس بيلمارتييه”، المعروفة بـ”فارس الفجر”.
وقد نجح الرجل في تنفيذ المهمة قبل بضعة أيام.
لم يكن يعرف القراءة، لكنه كان قادرًا على الاستماع إلى ما يقوله الناس سمع أن “أنيس بيلمارتييه” لم تمت، لكنها أصيبت بجروح خطيرة ودخلت في غيبوبة.
شعر الرجل بقلق مفاجئ حيال هذا الأمر ماذا لو تسبب عدم موتها في مشكلة؟ لم يكن قد استخدم سلاحًا ناريًا من قبل، ولم يقتل أحدًا في حياته كانت يداه ترتجفان لدرجة أنه لم يكن متأكدًا حتى من دقة إصابته لكن الشخص الذي أوكل إليه المهمة لم يطلب منه قتلها صراحة، بل قال فقط: “تنكر في هيئة أحد أفراد المقاومة المصابين، وأطلق النار عليها” لم يفهم الرجل سبب هذه التعليمات، فالمقاوم الجريح يختلف عن الثائر، ومع ذلك، كما توقع الشخص المجهول، لم ترفض “أنيس بيلمارتييه” مد يد العون له.
الشعور بالذنب تسلل إليه عندما أدرك أنه أطلق النار على طبيبة كانت تساعد الجميع، حتى الأعداء منهم لكن لم يكن هناك ما يمكنه فعله الآن حتى لو عاد إلى الماضي، كان سيتخذ القرار نفسه إذ كيف له أن يختار غير ذلك بينما كانت عائلته رهائن؟
كانت الرياح الليلية في أواخر الخريف باردة، وكان الرجل يرتجف من البرد بينما ينتظر الشخص الذي كلّفه بالمهمة اليوم هو موعد تسلّم المال كان عليه الحصول على المال والمغادرة فورًا، والهرب من هذا الشخص الشيطاني.
أخيرًا، دخل المبنى المهجور رجل مقنع كان طويل القامة، ولم يقتصر تخفيه على القناع، بل كان يعتمر قبعة ويغطي رقبته بمعطفه، يخفي هويته تمامًا ومع ذلك، تعرّف عليه الرجل على الفور، فقد اعتاد رؤيته بهذا الشكل ركض نحوه بلهفة وقال:
“أعطني المال الآن.”
أجاب الرجل المقنع:
“لمَ لا تنتظر قليلًا؟ لم تمت أنيس بيلمارتييه بعد.”
“لكنك لم تقل إنه علي قتلها!”
“صحيح، لم أقل ذلك.”
كان هذا القدر كافيًا هذه المرة لم يدرك الرجل المغزى الحقيقي لكلمات الآخر، ولم يهتم بذلك ما يهمه الآن هو المال وسلامة عائلته.
“عائلتي… هل هم بأمان؟”
ابتسم الرجل المقنع قائلاً:
“لماذا هذا الشك؟”
ووضع أمامه حقيبة المال هرع الرجل لفتحها بجشع، غير منتبه للحركة التي قام بها الآخر حينما أخرج شيئًا من جيب معطفه الداخلي.
وفي اللحظة التالية، ارتسمت ابتسامة مائلة على شفتي الرجل المقنع.
ثم—
بانغ! بانغ! بانغ!
دوّت ثلاث طلقات نارية، ملأت صداها المبنى المهجور المغطى بتعويذة تمنع تسرب الصوت.
⚜ ⚜ ⚜
لماذا؟
“الآنسة أنييس كانت من أشد المعارضين لتنفيذ الإعدام حتى النهاية.”
لماذا؟
“لقد نزلت طواعية من ‘سين’ إلى ‘باسبور’، ويقال إنها فعلت ذلك تحديدًا احتجاجًا على تلك الإعدامات.”
لماذا لم تخبرني بذلك؟
عاد “ليونارد” إلى منزله وهو في حالة صدمة، جلس على الكرسي عند طاولة الطعام، وأمسك برأسه بيديه، غير قادر على استيعاب ما سمعه شعر بصدمة لا تقل عن تلك التي اجتاحته عندما قرأ خبر إعدام عائلته في الصحف، بل ربما كانت أعظم لم يكن الأمر مجرد معرفة أن “أنيس” كانت تعارض إعدام أفراد العائلة الإمبراطورية بشدة، بل كان إدراكه أنه ربما كان يشك في ذلك منذ البداية دون أن يدرك.
في هذه اللحظة، احتاج “ليونارد” إلى لقاء “أنيس” بشدة.
كان بحاجة إلى الحديث معها.
يجب أن تستعيد وعيها.
يجب أن تعود سالمة إلى “دينان” ليقابلها.
كان هناك الكثير من الأمور التي يجب أن يتحدثا عنها، والكثير من الأسئلة التي يجب أن يطرحها عليها.
لأول مرة، بدأ يشعر بالاستياء تجاهها لأسباب جديدة تمامًا.
لماذا عارضت الإعدام بهذا الإصرار؟ ولماذا، رغم ذلك، لم تخبره بشيء؟
لم يكن هذا فقط هناك كلمات لم تُقال، ومشاعر لم تُعبر عنها، وأفكار ضاعت وسط دوامة الأحداث والتاريخ القاسي.
اعترف أخيرًا أنه كان يتمنى منذ أربعة أيام أن تبقى “أنيس” على قيد الحياة.
لكنه لم يكن يرغب في نجاتها بقدر ما يرغب فيه الآن.
“كان من الأفضل لو قتلتموني، ثم غادرتي المكان فورًا.”
“يمكنك اعتبار ذلك نفاقًا إن شئتِ لكنني، حقًا، كنت أريد لك النجاة.”
“ألست تقولين ذلك فقط لتعذيبني؟”
لقد عارضت ذلك حتى النهاية نعم، حقًا، عندما فكرت في الأمر على هذا النحو، بدت القصة وكأنها تكتمل بسلاسة.
شعورها بالذنب، قولها إنها كانت تتمنى له السلامة، وتصرفاتها التي كانت تبدو وكأنها تود الموت في كل مرة تراه فيها—كل ذلك أصبح مفهومًا بشكل مؤلم.
لأن هذه هي تمامًا “أناييس بيلمارتييه” التي يعرفها “ليونارد ”.
منذ أن كانت فتاة في الثانية عشرة من عمرها، كانت “أنيس” دائمًا تسعى للسير في الطريق الصحيح كانت تخافه في الحقيقة كونه أميرًا، لكنها لم تتردد يومًا في قول الحق أمامه.
وإذا شعرت أنها تسببت في إيذاء أحدهم، حتى وإن لم يكن الأمر يستدعي كل ذلك القلق، كانت تعاني منه لفترة طويلة.
وعندما سألها أحدهم كيف يمكن لشخص طيب مثلها أن ينجو في هذا العالم، أجابت بفخر أنها ستصبح طبيبة لا يزال “ليونارد” يتذكر جيدًا ما فكّر به آنذاك—أن هذا الدور يليق بها تمامًا.
فتاة تعتذر دائمًا، وتتمنى ألا يتأذى أحد، وتشعر بالذنب أكثر من أي شخص آخر لأنها لم تعش يومًا تؤذي غيرها—هذه كانت “أنييس بيلمارتييه”.
وكان “ليونارد” يعلم ذلك منذ زمن بعيد.
لذلك، كان عليه أن يستنتج الأمر حتى لو لم تخبره به بنفسها ربما كان جزء منه قد أدرك ذلك بالفعل، لكنه لم يكن قادرًا على رؤيته وسط غضبه وكراهيته العمياء.
لأنك لم تكوني كذلك أبداً.
لأنكِ كنتِ الشخص الذي أردت أن أمنحه مستقبلًا…
شعر وكأن أنفاسه تنقطع كلما اكتمل لديه فهمٌ مؤلم، جاء سوء فهم جديد ليقضّ مضجعه.
لماذا لم تخبريني بالحقيقة؟
أنكِ كنتِ ضد ذلك أنكِ عارضتِ الأمر بشدة أنكِ كنتِ قد تخلّيتِ حتى عن رفاقكِ الذين اخترتهم على حسابي، فقط لتنزلي إلى هنا.
لو كنتِ قلتِ لي كلمة واحدة فقط، كنتُ سأصدقكِ.
حتى لو كان ذلك كذبًا، كنتُ سأرغب في تصديقه!
لقد عرفها لمدة ثلاثة عشر عامًا ربما لم يكونا معًا دائمًا، لكن لا يمكن القول إنهما لم يكونا كذلك أيضًا.
ومع ذلك، كانت “أنيس” دائمًا لغزًا لا يستطيع حله.
لماذا التزمتِ الصمت؟
بدأ في التفكير مجددًا، لكنه لم يكن قادرًا على سؤالها مباشرة، فبدأت الأفكار تملأ رأسه دون توقف.
هل كان ذلك لأنكِ لم تعرفيني بما يكفي حتى بعد كل هذه السنوات؟
أم لأنكِ لم تثقي بي؟
أم لأنكِ كنتِ، تمامًا كما كنتُ أنا أعمى بسبب كراهيتي، عمياء بسبب شيء آخر؟
أو ربما…
“من الذي صعد اليوم إلى منصة خطاب الجمهوريين؟”
“إنها أنيس بيلمارتييه، جلالتك.”
كما كانت عهودي لك مجرد أوهام زائفة، فهل كان إيماني بكِ كذلك أيضًا؟
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 23"