شعر ليونارد بالبؤس للمرة الأولى في حياته، تذوّق مرارة البؤس الحقيقي كان الألم الكامن في قلبه، الناجم عن مشاعره التي لا يستطيع البوح بها، أقل وطأة من شعوره بأن آنيس ما زالت تبقيه على مسافة لا يستطيع تجاوزها.
رغم مرور ست سنوات على لقائهما الأول، كانت آنيس في كل مرة يشعر فيها ليونارد بأنه اقترب منها، تأخذ خطوة إلى الوراء، وكأن هناك فجوة لا يمكن ردمها بينهما لم يستطع فهم السبب، وكان هذا العجز يملأه بالعذاب.
لكن هذا العذاب لم يكن شيئًا مقارنة بالخوف الذي اجتاحه خلال الأيام التي كانت فيها آنيس محتجزة في السجن تحت الأرض.
الخوف من فقدان شخص عزيز، دون أن يرتكب أي ذنب، كان شعورًا لم يختبره ليونارد من قبل، وقد كان ذلك الخوف الأول في حياته… والأشد قوة.
فكيف بمن يعيشون خارج القصر، ويواجهون هذا الرعب يومًا بعد يوم؟
بعد أن وقف أمام والده الإمبراطور وشهد بشهادة كاذبة لحماية فريديريك، أغلق ليونارد على نفسه في غرفته، غارقًا في أفكاره… يفكر في المستقبل، وفي مصير إمبراطورية ليان.
لقد كان هذا القلق يلازمه منذ سنوات.
“هل يمكن لهذا البلد أن يستمر بهذا الشكل؟”
الإمبراطور لم يكن يستحق عرشه، ولا حتى بكلمات مجاملة أما الأمير هنري، الذي يقود حملات القمع ضد الثوار، فكان يبدو أحيانًا كالمجنون الذي يجد متعة في القتل.
تذكر ليونارد صباحًا قديمًا، حين كان يوزع قطع الخبز على الأطفال الجائعين في حي أوردين وتذكر يوم أعطى قطعة نقود فضية لفتاة متشردة حاولت سرقة الخبز، وكيف أنقذ طفلًا من العامة كان يتعرض للضرب على يد أحد النبلاء.
تذكر الشعور العميق بالرضا الذي غمره في تلك اللحظات.
ثم عاد بذاكرته إلى الليلة التي ساعد فيها فريديريك في تجهيز ملجأ للطلاب الفارين، وكيف شاهد الشباب المصابين يبكون من الألم، وآخرين يلفظون أنفاسهم الأخيرة وهم يقاومون ظلم العرش الإمبراطوري.
عندها، أدرك ليونارد الحقيقة:
“لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا لا أستطيع الاستمرار في هذا الوضع.”
خلال الأيام التي كانت فيها آنيس محتجزة، اتخذ ليونارد قرارًا حاسمًا، سيغيّر مجرى حياته بالكامل.
كان قرارًا مصيريًا، لا مفر منه.
رفع رأسه عن كتف آنيس، التي لم تتحرك سوى للحظة عندما اقترب منها، ثم بقيت صامتة، لا تقاوم.
انحنى ليونارد على ركبة واحدة أمامها، وأمسك بيدها البيضاء برفق، ورفعها إلى جبينه في هيئة من يقسم قسمًا مقدسًا.
“سيدي! ماذا تفعل؟ ماذا لو رآك أحد؟ انهض فورًا!”
صاحت آنيس في ذعر، محاولة منعه، لكنه لم يبالِ.
تحدث بصوت مليء بالعزم، وهو ينظر إليها، وقد أضاءت أشعة الشمس خلفها وجهها البريء:
“أقسم بشرفي، يا آنيس بيلمارتييه…”
منذ أن التقيتك، تغيرت حياتي بالكامل كنتُ أعيش حياة خالية من المشاعر، حتى جئتِ أنتِ وملأتِ قلبي بأحاسيس لم أختبرها من قبل.
وهذا القرار…
قرارٌ لم يخطر ببالي يومًا، لكنه الآن أصبح هدفي الوحيد، وسأحققه ولو كلفني حياتي.
“سأصبح الإمبراطور.”
“ماذا…؟”
“لن أترك العرش لأخي هنري ولن أسمح لأبي بتدمير هذا البلد أكثر.”
كان يعلم أن تحقيق هذا الهدف سيتطلب وقتًا طويلًا واستعدادات دقيقة، وربما يلجأ إلى أساليب قاسية.
لكنه كان على استعداد لفعل كل شيء ليصبح الإمبراطور، ويغير هذه الأمة…
من أجل تلك الفتاة التي أراد أن يهديها مستقبلًا خاليًا من الألم.
“بصفتي أمير إمبراطورية ليان، وسليل الإمبراطور أنطوان الأول، ودوق بيرينيه روزير، أقسم أنني سأصبح الإمبراطور، وسأحميكِ من أن تعاني مجددًا.”
رفع ليونارد رأسه ونظر في عيني آنيس، اللتين ارتجفتا كبحيرة هادئة ألقي فيها حجر صغير.
شدّ على يدها برفق، وأضاف بصوت خافت:
“لذلك، لا تبكي… وانتظريني.”
لكن ليونارد لم يمنحها منديلًا لتمسح دموعها هذه المرة.
كان قراره أن يخلق عالمًا لا تحتاج فيه آنيس إلى البكاء أبدًا.
ومنذ ذلك اليوم…
لم تبكِ آنيس مجددًا.
لكنها أيضًا…
لم تنتظره.
⚜ ⚜ ⚜
في الحي الثاني من باريس، كان حانة “آفينيير” ملجأً سريًا للشباب الثوريين.
رغم أن الحانة تحولت إلى أنقاض بعد حملة القمع، إلا أن صاحبها، وهو جمهوري متحمس، أبقى الأبواب مفتوحة، كتعبير عن التضامن مع من نجا من المذبحة.
وقفت آنيس أمام باب الحانة، حيث كانت وردة بيضاء معلقة على الباب، ثم فتحت الباب ودخلت.
“آنيس! يا إلهي… آنيس!”
صرخة أنجولا رينيكور دوّت في الحانة الهادئة، مخترقة السكون الذي عمّ المكان.
رفعت أريان، التي كانت جالسة على أريكة مهترئة تقرأ كتابًا، رأسها أما جوليان، الذي كان قد غرق في النوم بعد شربه المفرط، فقد استيقظ كذلك ظهرت شارلوت وإدموند من قاعة التنظيف، حيث كانا يساعدان صاحب الحانة في ترتيب المكان.
ركضت أنجولا وأوغست نحو آنايس بقلق، وبدآ بفحصها من الرأس إلى القدمين:
“هل أنتِ بخير؟ هل أصبتِ بأي أذى؟”
أجابت آنايس بابتسامة مطمئنة:
“أنا بخير وأنا سعيدة برؤية كل من السيد رينيكور والسيد جيرمان بصحة جيدة.”
ثم أخذت تتأمل القاعة الرئيسية للحانة التي باتت شبه خالية.
لقد زارت هذه الحانة قبل عامين تقريبًا، حينما أقنعها أنجولا بفكرة غريبة مفادها أن على المرء أن يتعلم فن الشرب مبكرًا.
قالت بهدوء:
“لقد أصبحت هادئة جدًا هنا.”
“آنيس؟”
خلال الأيام التي قضتها في السجن، فكرت آنيس كثيرًا.
لقد بكت على جثمان والدها المتوفى في تلك الليلة، ونفدت دموعها منذ ذلك الحين ولم تتعرض للتعذيب، لأن التهمة الموجهة إلى فريديريك لم تُثبت بعد، ولأن الأمير الثاني، ليونارد، دافع عنه.
وبالتالي، كان لديها الكثير من الوقت للتفكير.
“لهذا السبب، أعتقد أنكم تستطيعون تخصيص مكان لي هنا.”
بينما كانت تساعد فريديريك في تأمين ملاذ للطلاب الهاربين، وبينما كانت تشاهد المصابين يصرخون من الألم، وآخرين يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وبينما كانت ترى الشباب يضحون بحياتهم في مواجهة ظلم الإمبراطورية، فكرت آنايس كثيرًا.
لطالما حلمت آنيس بإنقاذ الأرواح كانت تخطط للالتحاق بكلية الطب في جامعة بوارني في الخريف، لتصبح طبيبة وتكرّس حياتها لعلاج المرضى ومساعدة الجرحى.
حياة مليئة بالواجب والشرف.
لكن، في مثل هذا العالم… ما هو الشرف الحقيقي؟ وما هو الواجب؟
“لا تقل لي إن تخلّيك عني كان أمرًا طبيعيًا…”
كانت كلمات ليونارد تتردد في ذهنها.
حين كانت في السجن، فكرت أن ليونارد قد يتخلى عنها لكنها لم تكن لتلومه، فهو أمير عظيم، وهي ليست سوى فتاة بورجوازية بسيطة.
ففي هذا العالم، كان من الطبيعي أن يتخلى أصحاب السلطة عن أمثالها.
لكن… هل يجب أن يكون هذا الوضع طبيعيًا إلى الأبد؟
تقدير ليونارد لها كان شيئًا ثمينًا، لكنها كانت تحلم بعالم لا يتخلى فيه أصحاب السلطة عن المستضعفين.
رغم أن ليونارد “تفهم” الجمهوريين، إلا أن تفهمه لم يكن يعني قبولهم أو تأييدهم.
لذلك، كانت رؤيتها للعالم مختلفة تمامًا عن رؤيته.
لهذا السبب، وبعد أيام من التفكير، جاءت إلى هنا.
“بصفتي أمير إمبراطورية ليان، وسليل الإمبراطور أنطوان الأول، ودوق بيرينيه روزير، أقسم بشرفي أنني سأصبح الإمبراطور، ولن أدعكِ تعاني مجددًا.”
ولهذا، أنا أيضًا أقدم قسمي…
أقسم بروح عائلتي التي فقدتها، وبكرامة هذا الوطن التي فُقدت منذ قرون، وبدماء الأبرياء التي صبغت أزهار الربيع الأحمر البارد.
“أرجوكم، اسمحوا لي بالانضمام إلى جيش الثورة جئت لأقول هذا.”
حتى وإن لم يصلك قسمي هذا أبدًا، يا ليونارد…
فأنا لم أختر هذا الطريق لأن شرفك لم يكن يعني لي شيئًا.
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 21"