“سأعود بسرعة، ماذا يمكن أن يحدث لأمينة مكتبة متدربة عادية مثلي؟”
حملت ماريان كتابين سميكين بلا ميزات خاصة، وغادرت المكتبة بصحبة وداع آنا، كانت المسافة بين القصر الإمبراطوري، قلب العاصمة، والمكتبة غير مناسبة لا لركوب العربة ولا للمشي، لحسن الحظ، لم يكن هناك وقت محدد للمهمة التي أوكلت إليها، كل ما قيل لها هو أن تعود قبل غروب الشمس… لذا، قررت ماريان السير إلى القصر دون تفكير، محاولةً تهدئة قلقها.
‘إنه مكان جميل…’
بعد أن سجلت اسمها في سجل الزوار لدى الحارس، دخلت ماريان بهو الجناح الشرقي حيث مكتب الوزير، وفكرت دون وعي، شعرت بالتوتر، أمسكت الكتب بين ذراعيها، وأخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته، في البهو الواسع الذي يعمّه جو ثقيل يثير الرهبة، كان عليها أن تجمع شتات ذهنها لئلا تضل الطريق.
اتجهت ماريان نحو السلالم، لكن قبل أن تخطو ثلاث خطوات، أمسكت امرأة بكتفها.
“أأنتِ الآنسة ماريان لين، أمينة المكتبة؟”
ابتسمت امرأة في منتصف العمر لماريان التي أجابت بسرعة، ثم عرّفت عن نفسها بأنها مساعدة الوزير، وقادت ماريان مباشرة إلى مكتب الوزير، سارت ماريان المتوترة وهي تنظر إلى ظهر المرأة فقط، دون أن تجد وقتًا لتأمل الطراز المعماري الإمبراطوري الذي يُشاد به، أو التماثيل واللوحات الجميلة.
كان مكتب الوزير واسعًا بحيث يشغل نصف الطابق، طرقت المرأة التي رافقت ماريان الباب الداخلي الموجود مرتين، سرعان ما جاء الإذن بالدخول.
قالت آنا إن وزير هذا البلد من العائلة الإمبراطورية، ولعل هذا ما جعل المكتب مليئًا باللونين الذهبي والأحمر، رمزي العائلة الإمبراطورية، وفي هذا المكتب الفخم، واجهت ماريان رجلاً مسنًا يتمتع بهدوء لا يتناسب مع هذا الفخامة، رجل يشبه سيلفستر.
“إنها الآنسة ماريان لين، أمينة المكتبة.”
قالت المرأة بصوت منخفض، انحنت ماريان دون وعي تحيةً للرجل، ثم جلست مقابل الرجل بمساعدة المساعدة، في تلك اللحظة، دخل مساعد ذكر من خارج المكتب حاملاً الشاي، داعبت رائحة الشاي العطرة أنف ماريان.
‘بالطبع… هذه لم تكن مجرد مهمة بسيطة.’
تمتمت ماريان في سرها وهي تنظر إلى الرجل ذو الشعر الرمادي، خرجت المساعدة التي رافقتها والمساعد الذي جلب الشاي من المكتب في وقت واحد، حلّ صمت ثقيل ومحرج محل الاثنين، تعرقت يدا ماريان وهي تمسك بالكتب.
جال بصر الرجل على وجه ماريان، نظارتها السميكة، عينيها المرئيتين خلف العدسات، ملابسها البالية، ويديها المشدودتين بقوة.
“كما قد تكونين أدركتِ، أنا لست صاحب هذا المكتب.”
“…حسنًا.”
أجابت ماريان باختصار، ملاحظةً نظرات الرجل.
“أنا دوق ديرماس، أسمي إيرن أماديوس، سأكتفي بهذا التعريف.”
“آه…” تفوهت ماريان بصوت خافت، شحب وجهها الذي كان شاحبًا أصلاً، الرجل الجالس أمامها الآن هو والد سيلفستر.
“أنا أعرف عنكِ بالفعل، لذا لا داعي للإجابة.”
تنهد إيرن قليلاً وتابع.
“…قد يبدو الأمر مضحكًا، لكنكِ لا تعرفين كم يحبّ النبلاء، خاصة أولئك الذين يعيشون كطفيليات في هذه العاصمة دون عمل، الأحاديث والإشاعات.”
“…”
“لقد استدعيتكِ بسبب تلك الإشاعات، وبسببها أيضًا أجد نفسي محبوسًا في مكتب صديق، أواجهكِ الآن، وبطريقة غير لائقة.”
لم تستطع ماريان الرد، فأغلقت فمها بصمت.
“إذا عرف أنني استدعيتكِ… سيثور الماركيز بلاك، أنتِ لا تعرفين طبيعة هذا الغضب، أليس كذلك؟، مجرد التفكير فيه متعب، كيف تحول ذلك الرجل إلى هذا الحال؟…”
تلاشت كلمات إيرن الأخيرة كتنهيدة في الهواء، تقابلت عينا ماريان وإيرن، كان للرجل حواجب مستقيمة وعينان حادتان وجميلتان بلون رمادي مزرق، مثل سيلفستر، شعرت ماريان، رغم كل شيء، بأنها تتذكر سيلفستر، وتنهدت في سرها، كان الأمر يبدو كحلم يفتقر إلى الواقعية.
“كيف يمكن أن يرتبط بهذه المرأة بالذات…”
نظر إيرن إلى ماريان وعبس، وشعرت أخيرًا أن هذا ليس حلمًا، مع تنهيدة الرجل الطويلة، عاد الصمت مرة أخرى.
“أنا لم أستدعكِ لأزعجكِ، فلا تشعري بالخوف.”
ابتسمت ماريان في سرها بسخرية لكلمات إيرن التي بدت كأنها قلق، ‘أنا لم أقصد إزعاجكِ.’، جميع من أزعجوا ماريان حتى الآن قالوا هذا.
“عندما سمعت أن سيلفستر يطارد امرأة ما، لم أصدق، ليس فقط لأنه ليس من النوع الذي يقع في الحبّ بسهولة، بل لأنني أعلم أنه ليس غبيًا بما يكفي ليتشبث بامرأة ينظر إليها الآخرون بازدراء.”
“…”
“لكنني اكتشفت أن تلك الإشاعة التي ظننتها هراءً لم تكن مجرد إشاعة.”
“…”
“هل تعلمين أن هناك امرأة مخطوبة له بالفعل؟”
نظر إيرن في عيني ماريان وقال، خلف نظارتها، اهتزت عيناها كشمعة تواجه الريح، ليزينا سايفيار، ابنة دوق شولت النبيلة، المرأة التي وعد إيرن بخطبتها لسيلفستر، طعن الحديث عنها أذني ماريان وقلبها بألم.
ابنة عائلة دوق تملك أراضي الجنوب الخصبة، ساحرة متميزة تلقت تعليمًا راقيًا، امرأة ذات وجه جميل كفاكهة الجنوب المشمسة، وقلب جميل يضاهي جمال وجهها، كل هذه الأوصاف كانت تشير إلى ليزينا سايفيار، التي لم تلتقِ ماريان بها قط.
واصل إيرن الحديث عنها، مؤكدًا أن ليزينا عكس ماريان في كل التفاصيل الصغيرة، لكن ماريان فكرت في سرها أن المقارنة يجب أن تكون بين أشخاص متشابهين إلى حد ما.
‘يا إلهي… إنها تبدو وكأنها شخصية من رواية…’
كلما استمر حديث إيرن، تلاشى إحساس ماريان بالواقع، شعرت كأنها أصبحت شخصية ثانوية في رواية، دورًا صغيرًا يختفي بعد انتهاء حوار الشخصيات الرئيسية، دون حتى جملة واحدة مكتوبة لها.
كادت ماريان تضحك، أضحكها أنها تتظاهر بالإصغاء إلى إيرن بينما تفكر في شيء آخر، ربما كان هذا دفاعًا نفسيًا لتجنب الشعور بالأذى من كلماته.
“لقد بدأ سيلفستر وليزينا بالتقابل منذ طفولتهما، فلقد كانا لديهما موهبة السحر كقاسم مشترك.”
“…”
“التحقا بالأكاديمية وتخرجا معًا، وقاتلا معًا في ساحات الحرب، وأمام شقوق الوحوش الكارثية التي تظهر أحيانًا، ضد الوحوش التي تهاجم البشر، الرابطة والصداقة والحبّ اللذين بنياهما طوال حياتهما… أنتِ من دمرتها.”
كان نبرة إيرن لطيفة بشكل غير متوقع، شعرت ماريان بالبؤس من هذا اللطف بالذات، كانت تعلم جيدًا أنه يظهر هذا اللطف لأنه يراها كقطعة ورق يمكن تمزيقها بسهولة.
“قبل فترة، عندما اقترحت على سيلفستر التعجيل بالزواج، ثار وهاج، قال إنه هو وليزينا لا يريدان الزواج.”
“…”
“كنت أعلم أن شخصيته سيئة، لكنه كان دائمًا يصمت أمامي ولم يعارض الزواج، لكنه فجأة تصرف وكأنه مسحور بسحر ما ورفض…”
تلعثم إيرن، اهتزت عينا ماريان للحظة، هل نسي سيلفستر حقًا الامرأة التي أحبّها بسبب سحر الوقوع في الحبّ؟، شعرت ماريان وكأن قلبها يهوي.
‘…هل هذا صحيح حقًا؟’
فكرت ماريان في سيلفستر، مرة وأخرى، هدأ قلبها تدريجيًا.
‘لا.’
تذكرت ماريان يديهما المتلامستين بتردد، الابتسامة الخجولة التي كانت تنتشر على وجهه الجميل في كل مرة تلتقي عيناهما، صوت قلبه الذي كان يصل إليها، عينيه الرماديتين المزرقه المتلألئتين، وصوته المشبع بالعاطفة وهو يعترف بحبّه…
الرجل الذي أمامها يعرف سيلفستر، لكنه لا يعرفه حقًا، حتى مقارنةً بها، التي قضت معه أسبوعين فقط، ارتفعت زاوية فم ماريان، لم تستطع كبح ضحكتها، ولم ترغب في ذلك.
“هل كان الماركيز يحبّ الآنسة ليزينا حقًا؟”
سألت ماريان إيرن.
“ما قصدكِ من هذا السؤال؟”
ارتفع حاجب إيرن، وتحولت الأجواء اللطيفة إلى حدة في لحظة.
“لقد قلت إن الماركيز ليس من النوع الذي يقع في الحبّ بسهولة، وأنا أتفق معك.”
“…”
“الماركيز الذي رأيته بدا كمن لم يحبّ أحدًا من قبل، و… كمن لم يشعر أبدًا، ولو لمرة واحدة، بأنه محبوب من أحد.”
نظرت ماريان في عيني إيرن دون أن تتجنبهما، كانت يداها المشدودتان مبللتين بالعرق من التوتر، لكنها لم تهرب من عينيه الحادتين، عندما شعرت برغبة في الهروب، عضت شفتيها بقوة لتستعيد تركيزها.
“وأيضًا…”
أغلقت ماريان عينيها بقوة لتهدئة قلبها المرتجف، ثم فتحتهما وتابعت.
“لقد قلت إنه ليس غبيًا بما يكفي ليتشبث بامرأة ينظر إليها الآخرون بازدراء… لكن الماركيز، لا، سيلفستر، لا يهتم بآراء الآخرين، الوحيدان اللذان يهتمان بذلك هما أنت، أيها الدوق، وأنا.”
أبتسمت ماريان بمرارة، واحمر وجه إيرن، وشعر أنه أُهين من امرأة لا تملك شيئًا.
التعليقات لهذا الفصل " 24"