وما إن رأى إيلي ممددة بوجه محمّر وقد خارت قواها، حتى شعر بألم يمزّق قلبه.
اقترب من سريرها ووضع يده على جبينها. كانت حرارتها خفيفة بالكاد تُذكر، لكنه ارتعب وكأنها تعاني حمى شديدة. ثم قرّب خده من جبينها ليتأكد بنفسه.
“أخي…إينجل…”
نادته بصوت خافت، فابتعد بسرعة عن وجهها وحدّق فيها.
كانت إيلي تنظر إليه بعينين نصف مغمضتين، وأهدابها الطويلة ترتجف ببطء، ثم أغلقت عينيها واستسلمت للنوم كما لو فقدت الوعي.
عضّ إينجل شفته بقوة من شدّة الألم الذي خنق صدره.
كان مستعدًا ليهب كل ما يملك لو أنه يستطيع أن يخلّصها من ألمها.
بل إنه رفع صلاة خاشعة للرب لأجلها، راكعًا بجانبها، ممسكًا بيدها الدافئة مقبّلًا إياها.
“إيلي…”
مرّر يدها على خده وهمس بشوق عميق:
“إيلي، أنا أحبك كثيرًا…”
لم يكن هذا مما يقال لمريضة، لكن لا عبارة أخرى يمكن أن تصف حال إينجل كما تصفها تلك الجملة.
لقد كان يحب إيلي أكثر من أيّ شيء آخر.
من شدّة حبّه لها، هو من سار رغم ألمه ليجدها، وهو من قاوم المرض ليمضي وقتًا أطول بجانبها، وهو من التحق بالمدرسة الداخلية فقط لأنها أرادت ذلك.
متى بدأ حبّه لها؟
منذ لقائهما الأول في العربة؟
أم منذ أن أيقظت أغنيتها الجميلة روحه النائمة؟
أم منذ أن رآها تحت جسده، وقد تلونت وجنتاها بلون الورود وهي تضحك بخجل؟
كان يتأمل هذا السؤال دائمًا وهو مستلقٍ في مهجع المدرسة.
كان يظن أن الحب لا يحتاج إلى منطق، وأنه ليس قصة متكاملة كتبها كاتب مثالي، بل هو حكاية غير مكتملة لا تملك تسلسلًا عقلانيًا يُرضي الجميع.
الحب، في نظره، ليس إلا جملًا متفرقة كتبها كاتب متحمس يفتقر إلى المهارة، كلمات انسكبت من عاطفة جامحة.
لكن شيئًا واحدًا كان متيقنًا منه:
أنه كان يحب إيلي حتى قبل أن يلتقيها.
قبّل الجانب الداخلي من معصمها حيث ينبض قلبها، ثم انتقل بشفتيه من راحة يدها إلى ظهرها، قبل أن يتحرك بخفة ويطبع قبلة على شفتيها.
ومن خلف الباب المفتوح قليلًا، كانت السيدة بيلوت تراقب كل ذلك من خلال الفتحة الضيقة، مضطرةً إلى بذل جهد خارق حتى لا تسقط الصينية التي تحملها من يدها.
***
في النهاية، اضطرت السيدة بيلوت إلى الاعتراف لزوجها بما كانت تفكر فيه.
حين أخبرته بأن إينجل يبدو وكأنه يحب إيلي، قطّب السيد بيلوت حاجبيه وقال بحدة:
“يا للهراء!”
كان رجلاً مغرورًا يؤمن بحدسه إلى حد العمى، ولم يكن مستعدًا لتصديق أن زوجته قد لاحظت شيئًا لم يلحظه هو أولًا.
لكن بعد إلحاحها الشديد، أخذ يتأمل الأحداث الماضية بتمعن، ولم يجد بدًّا من الإقرار في نفسه بأن كلامها صحيح.
لم يكتفِ بذلك، بل وافق أيضًا على اقتراحها بإعادة إينجل إلى المدرسة فورًا، ومنعه من لقاء إيلي طوال السنوات الثلاث والنصف المتبقية حتى يتخرج.
قال بلهجة حاسمة:
“الأولاد يُشفَون بالوقت فقط. بعد ثلاث سنوات ونصف من الاحتكاك بالمجتمع وحضور المناسبات، سينسى فتاة مثل إيلي بسهولة.
ومهما كانت طيبة القلب، لا يمكنني أن أقبل بها سيدةً لقصر هيفنلي هيل.
إن أصلها… وضيع للغاية.”
هزّت السيدة بيلوت رأسها بحماس وهي تؤكد أنها ستفوّض زوجها تمامًا في هذا الأمر.
وبعد أن استمد ثقته من دعم زوجته ومن شعوره بمسؤوليته كربّ للأسرة، توجّه السيد بيلوت مباشرة إلى غرفة إيلي حيث كان إينجل قد أغلق على نفسه، وسحبه منها عنوة.
ثم أمره بلهجة صارمة أن يحزم حقائبه ويغادر فورًا.
لكن إينجل، كما هو متوقع، رفض الانصياع.
غير أن والده تشبث بموقفه، بل ذهب إلى حد استغلال مشاعر الذنب لدى ابنه قائلاً:
“تخيّل لو أنك التقطت عدوى مرض إيلي ومرضت من جديد.
كم ستشعر إيلي بالذنب؟ ربما ستقرر مغادرة هيفنلي هيل إلى الأبد!”
أنكر إينجل ذلك باندفاع، لكنه في أعماقه شعر أن والده على حق.
فمهما بدا متعافيًا الآن، لم يمضِ سوى عامٍ ونصف على مرضه الغامض الذي أقعده في السرير طويلًا، وكان بلا شك أضعف أفراد هذا البيت جسدًا.
وبعد تفكير طويل، لم يجد خيارًا سوى أن يذعن.
رأى أن الصبر ثلاث سنوات أفضل من أن يفقد إيلي إلى الأبد.
ومجرد تخيّل رحيلها عن هيفنلي هيل كان كافيًا لملء عينيه بالدموع.
ولأن والديه حرصا على تنفيذ القرار بسرعة، فقد رحل على عجل بعد وداع بسيط، دون ضجة أو تأخير.
وأثناء مغادرته، لم ينسَ أن يطلب من غريس أن تكتب إليه فورًا عن حال إيلي، وأن ترسل الرسائل بالبريد السريع.
على عكس ما كان إينجل يخشاه، نهضت إيلي من سريرها بعد يومين فقط من رحيله.
وربما لأن السبب في مرضها قد زال، فقد شُفيت إيلي كما لو كان ذلك سحرًا، وصارت قادرة على التجول بحرية في هيفنلي هيل.
وحتى قبل أن تصل رسالة غريس التي تخبره فيها بشفاء إيلي — فقد كانت غريس سعيدة إلى حدّ أنها نسيت أن ترسلها بالبريد السريع — كان إينجل يرسل كل يوم إلى غرفة إيلي سلالًا من الفاكهة الطازجة وبطاقات صغيرة.
كانت إيلي تحدق في تلك الهدايا بشرود، بينما تستحضر في ذهنها صورة إينجل الذي رحل فجأة.
وحين أدركت أن ذلك الشعور الذي يُنقش بألم على صدرها يشبه الحنين، انتفضت خائفة، وأسرعت بإبعاد الهدايا إلى الخارج.
كانت إيلي تخشى أن تغضب السيدة بيلوت بسبب ما حدث مع إينجل، لكن السيدة لم تنظر إليها ببرود، بل حين ظهرت إيلي أخيرًا على مائدة الطعام، قابلتها بابتسامة خفيفة.
لقد كانت السيدة بيلوت طوال حياتها إنسانة أنانية لا تفكر إلا في نفسها وعائلتها، لكنها كانت أيضًا مسيحية متدينة، ولهذا شعرت بوخز ضمير حين علمت أن فتاة صغيرة قد انهارت من وطأة الشعور بالذنب.
لكنها سرعان ما تخلّصت من ذلك الوخز بتعيين خادمة خاصة لتمريض إيلي، وبمعاملتها بقدرٍ من اللطف لم تعهده من قبل.
في الحقيقة، كانت غارقة في الحزن على ابنها أكثر مما كانت تشعر بأي ذنب تجاه إيلي.
فاتخذت قرارًا مع زوجها بأن يمنعا ابنهما من العودة إلى هيفنلي هيل خلال الأعوام الثلاثة والنصف المتبقية.
فحتى لو أرسلت إيلي بعيدًا مؤقتًا، فابنها بالتأكيد سيجوب المكان مستعيدًا ذكرياته معها.
وحين فكرت بأنها لن تراه طوال تلك السنوات، انقبض قلب السيدة بيلوت حتى كاد الألم يخنقها.
***
بعد الغداء، قررت إيلي أن تحتفل باستعادتها صحتها بالتنزه قليلًا مع غريس قرب القصر.
كانت غريس في غاية السعادة وهي تتحدث وتتشبث بذراع إيلي، التي كانت تنصت وتجيب بلطف، حتى إن غريس رأت أنه لا يوجد من يصلح لمجالستها والثرثرة مثل إيلي.
“إيلي!”
بينما كانتا تتحدثان عن شكل الممر القصير الذي يمرّ بجانب الغابة قرب القصر، سمعَتا صوتًا ينادي إيلي من بعيد.
“ماذا؟ عدت بالفعل؟ ألم تقل إنك تصلح سقف بيت عمتك؟”
ابتسم فين بخبث وقال:
“كنتِ تنتظرينني إذًا؟”
فضربته إيلي على كتفه بمزاح، فادّعى الألم بصوتٍ مبالغ فيه قائلًا:
“هربت فحسب! كانوا يعاملونني كعبدٍ بائس!”
ولم يبالِ فين بانقباض وجه غريس من فجاجة كلماته، بل مدّ يده وعبث بشعر إيلي بعنف.
كانت غريس تراقبهما بنظرة غريبة وبابتسامة متكلفة.
شعرت إيلي بالحرج، وكأنها تستبعد غريس من حديثهما، فسارعت إلى تعريف أحدهما بالآخر:
“غريس، هذا فين. إنه ابن السيد مارشال، ويتعلّم الآن العمل في الإسطبل. فين، هذه هي…”
“الآنسة غريس، أليس كذلك؟ يسعدني التعرف إليك.”
قاطعها فين محاكيًا لهجة النبلاء بتهكم واضح وهو ينحني بخفة.
تملّكت غريس رغبة في نهره بسبب سخريته المبطّنة، لكنها تمالكت نفسها وردّت التحية.
ابتسم فين ابتسامة متعالية وهو ينظر إليها من علٍ، ثم قال لإيلي فقط:
“أراك لاحقًا.”
وغادر بخطوات هادئة نحو الإسطبل.
تابعت غريس نظرها إلى ظهره المبتعد، وكادت تنفجر بانتقاداته أمام إيلي، لكنها توقفت حين فكّرت أنه ربما يكون أكثر من مجرد صديق لها.
فإيلي فتاة طيبة القلب، وإن تحدّثت غريس بسوء عن فين، فستصغي لها إيلي بأدب وتعاطف، دون أن تعارضها احترامًا لها.
لكن ذلك سيجعل غريس تبدو تافهة!
لهذا التزمت الصمت ومشت إلى جانبها في هدوء.
***
منذ رحيل إينجل، عادت الأيام إلى رتابتها المعتادة.
كانت إيلي تتلقى دروس العزف على البيانو، وتتحسّن مهارتها يومًا بعد يوم.
كما تعلّمت الفروسية مع غريس، ورسمتا المناظر الطبيعية، وتناولتا الشاي مع الأحاديث الخفيفة، وكانت إيلي أحيانًا تساعد غريس في تعديل أشرطتها ودانتيلها بنفسها.
كانت تلك أيامًا هادئة… لكن خالية من المعنى.
وحين كانت تتأمل وحدها في صمت، كانت تجد أن خيط هذا الفراغ كله يقود دائمًا إلى إينجل.
وكلما ازداد ذلك الشعور، ازداد تعلقها بصحبة فين.
كان فين يملك موهبة فطرية في جعل الناس يشعرون بالراحة.
فهو يسبّ ويطلق النكات السخيفة بلا توقف، لكن تلك الخشونة كانت تخفف التوتر الذي تعانيه إيلي في ذلك البيت النبيل الجاف الصارم.
كما كانت تجد عزاءً في كونها ليست الوحيدة ذات الأصل الوضيع في بيت بيلوت.
ويبدو أن فين أيضًا أحب صحبتها، إذ صار يصطحبها دومًا في مغامرات صغيرة ومقالب بريئة.
ذات مرة حاولا سرقة تفاحة من المطبخ، لكن الطاهية التي كانت تترقب ظهورهما خرجت تصرخ بأعلى صوتها، فاضطرا للفرار بأقصى سرعتهما.
كانت إيلي تضحك بصوت عالٍ وهي تركض ممسكة بيده، بينما يلتفت فين نحوها ضاحكًا هو الآخر.
تعلّمت إيلي بهذه الطريقة كيف تحافظ على توازنها وسط حياتها اليومية.
لكن… ما هذا الشعور بالوحدة الذي يهاجمها من حين لآخر؟
كانت تحسّ بشيء يتشقق داخل قلبها، لكنها لم تعرف كيف تُرمّم تلك الفجوة.
كل ما عرفته، هو أن تعيش كما هي… فقط بهذا الشكل.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"