8
بعد ذلك، استمرّت الرسائل في الوصول من إينجل بين الحين والآخر.
كان إينجل يكتب رسائل منفصلة إلى كلّ فرد من العائلة الذين أجابوه ما عدا إيلي. فـ إلى السيّد والسيّدة بيلوت كان يبعث برسائل منمّقة ورسمية، أمّا إلى غريس فكانت رسائله مليئة بالتفاصيل الصغيرة والمشاعر الحميمة.
وفي نهاية كلّ رسالة موجّهة إلى غريس، كان لا يفوته أن يكتب دائمًا عبارات تشبه السؤال الروتيني:
“كيف حال إيلي؟”،
“أليس لديها ما تودّ قوله لي؟”
لكن مهما رغبت غريس في نقل أخبار إيلي أو كلمات منها، لم تكن تجدها إلى جانبها.
فكلّما وصلت رسالة من إينجل، وحان وقت الردّ عليها، كانت إيلي تنهض بهدوء وتغادر إلى الخارج.
في الآونة الأخيرة، كانت إيلي تمضي وقتًا متزايدًا مع فين قرب الإسطبل، حيث نمت بينهما صداقة جديدة وغريبة في آنٍ واحد.
لذلك، وبعد بعض التفكير، كانت غريس تكتب دائمًا في ردّها:
“أخي، إيلي بخير حقًا. لا يبدو أنّ لديها شيئًا تودّ قوله لك. تبدو مشغولة جدًا هذه الأيام، حتى أنّها لم تقرأ رسالتك بالكامل ولو لمرة واحدة!”
لم يخطر ببال غريس البريئة كم كان قلب إينجل سيتقطّع ألمًا، كما لو طُعن بسكّين، عند قراءة تلك السطور.
***
مرّ الوقت سريعًا، واقتربت إقامة إينجل في المدرسة الداخلية من ستّة أشهر كاملة.
السيّدة بيلوت التي كانت قد رفضت مرارًا توسّلات ابنها لقضاء الشتاء في هيفنلي هيل، وابتلعت دموعها بصعوبة، كانت أخيرًا تشعر بالسعادة لأنّها تستطيع أن تكتب إليه رسالة تسمح له بزيارة قصيرة في الربيع.
في الحقيقة، كانت منذ البداية تنوي أن تُعيده بعد مرور نحو ستّة أشهر، معتبرة أنّ هذه المدّة كافية لتُخمد مشاعره الطائشة، وطويلة بقدر يسمح لها بالعيش من دونه.
وفضلاً عن ذلك، رأت أنّ الوقت الآن هو الأنسب تمامًا.
فإيلي كانت تؤدّي دورها كما ينبغي، في حدود ما يناسب مكانتها، وكان في ملامحها ما يدلّ بوضوح على شعورٍ بعدم الارتياح كلّما ذُكر اسم إينجل.
وبالنظر إلى ذلك، بدت وكأنها قد نسيته تمامًا، بل أنكرت وجوده أصلًا.
مقتنعةً بأنّ الوقت حان، شعرت السيّدة بيلوت بعجلة غامضة في قلبها، فأرسلت الرسالة إليه على وجه السرعة، وأمرت الخادمات بتنظيف غرفة إينجل وإعدادها لاستقباله.
لكن للأسف، كانت السيّدة بيلوت مخطئة تمامًا.
فكلّما مرّ الوقت، ازداد شوق إينجل إلى إيلي عمقًا ووجعًا.
كان عندما تصل رسائل هيفنلي هيل، يفتح أوّلًا رسالة غريس ويقلّبها بعجلة، يبحث بعينيه عن كلمة إيلي.
وحين يقرأ تفاصيل بسيطة كأنهما ذهبا لركوب الخيل معًا أو رسما لوحة، كان قلبه يخفق بعنف، وتنساب إلى ذهنه صورتها بوضوح مؤلم.
كان يفكّر فيها حتى أثناء الدروس، وتراوده نبرات صوتها حين يتعلّم الترانيم.
وكلّما نال درجاتٍ عالية، تملّكه هوسٌ بأن يُثبت لإيلي أنّه أصبح رجلًا يستحقّ الإعجاب.
كتب لها مرارًا رسائل يعترف فيها بحبّه العميق، ثمّ مزّقها في كلّ مرة.
وعندما وصلته أخيرًا رسالة والدته التي تسمح له بالقدوم إلى هيفنلي هيل، لم يتردّد لحظةً في حزم أمتعته.
وحال حصوله على إذن الإقامة الخارجية من المدرسة، أسرع إلى الصعود في عربة آل بيلروت.
***
كان اليوم المقرّر لوصول إينجل مشرقًا تمامًا دون قطرة مطر واحدة، وكان يُتوقّع أن تصل العربة دون أيّ تأخير.
السيّدة بيلوت كانت تتحرّك في أرجاء المنزل بخفّةٍ وقلق، منهمكة في إعداد كلّ شيء لاستقبال ابنها.
أمّا غريس، فقد أغلقت على نفسها الباب لتُكمل لوحةً ترسم فيها أطيان هيفنلي هيل كهدية لأخيها.
السيّد بيلوت جلس في مكتبه على غير عادته، صامتًا بوجهٍ هادئ، لكنّ قلبه كان يضجّ بالفرح والترقّب، يفكّر جديًّا في المواضيع التي قد يتناقش فيها مع ابنه المتعلّم حديثًا.
وفي خضمّ هذا الانتظار المشوب بالمحبّة من الجميع، تردّدت إيلي قليلًا ثم خرجت من المنزل.
فكلّما شعرت بالفراغ والوحدة، كانت تلجأ إلى فين كما لو أنّه ملاذها الطبيعي.
لكن فين لم يكن هناك.
وحين كانت إيلي تتجوّل قرب الإسطبل بحثًا عنه، لمحها السيّد مارشال وناداها بلطف:
“إيلي! هل تبحثين عن فين؟ يبدو أنكما صرتما صديقين مقرّبين فعلًا!”
قالت إيلي مبتسمة بخفّة:
“السيّد مارشال! فين صديقٌ جيّد فعلًا.”
ضحك مارشال قائلًا بمزاحٍ خفيف:
“أنتِ أول من يقول ذلك! رغم صِغره، فهو فتى شقيّ لا يُطاق!”
ابتسمت إيلي في خجلٍ خفيف من مزاحه، فغمز مارشال بعينه وربّت على كتفها وديًّا.
“ذهب فين اليوم إلى بيت عمّته. تخيّلي، سقف منزلها انهار فجأة، واستدعاء عمّال لإصلاحه سيكلّفها كثيرًا، فطلبت بعض المساعدة من فتى قويّ اليدين مثل فين، فأرسلته إليها على الفور. أظنّه الآن يُرمّم السقف وهو يلعنني في سرّه!”
حاولت إيلي أن تُخفي خيبة أملها وهي تسأله:
“ومتى سيعود؟”
“سيستغرق الأمر أكثر من عشرة أيام على الأرجح. بيت عمّته ليس بعيدًا كثيرًا من هنا، لكن حتى بعد أن يُصلح السقف، لا أظنّها ستدعه يعود سريعًا، فهي تُحبّه كثيرًا.”
ما إن أنهى مارشال كلامه، حتى خفَت وجه إيلي، وسقط كتفاها في استسلامٍ يائس.
فإينجل سيصل قريبًا، وسيبقى أكثر من عشرة أيام، وخلال تلك الفترة ستضطرّ إلى الانسحاب والاختباء بين ظلال العائلة، غريبةً بينهم كالعادة.
وإن لم يكن فين إلى جانبها، فقد تخنقها الوحدة حتى الجنون.
لسعها الحزن في أنفها كحرارةٍ مفاجئة، فحيّت مارشال بسرعة، واستدارت راكضةً إلى الخارج.
ولتهدئة قلبها المضطرب، تابعت إيلي السير حتى بلغت أطراف المزرعة.
جلست فوق التلّ، تُطلّ على بيوت الفلاحين البسيطة المتواضعة، وحاولت قدر ما استطاعت ألا تدع الأفكار السيّئة تسيطر على عقلها.
وحين بدأت نفس إيلي بالكاد تستعيد سكينتها، ظهرت من بعيد عربة تنطلق بسرعة نحو القصر. انتصبت إيلي واقفة دون وعيٍ منها، فداخل تلك العربة لا بدّ أن يكون إينجل.
كانت قد ابتعدت كثيرًا عن القصر، ولم يكن أمامها سوى الإسراع في السير عائدةً إليه. في رأسها راودتها صورة السيّدة بيلوت بوجهها البارد الغاضب، وخافت من أن تُوبَّخ بشدّة لأنها تلهّت في يومٍ بهذه الأهمية.
***
وبينما كانت تفكّر في آلاف الأعذار، وصلت إيلي إلى القصر عند الغروب. كان إينجل قد وصل منذ وقتٍ طويل.
تردّدت قليلًا، ثم مشت بخطواتٍ ثقيلة نحو غرفة الاستقبال، حيث كان يُسمع صوت الناس.
وأوّل ما وقعت عليه عيناها عند مدخل الغرفة كان إينجل.
وجهه قد اكتسب لونًا دافئًا وصحيًّا بعد أن لفحته الشمس قليلًا، ويبدو أنّه ازداد طولًا بعض الشيء.
كان يجلس على الأريكة مستقيم الظهر، يستمع إلى حديث والديه بوجهٍ متصلّب. بدا عليه أنّ مزاجه لم يكن على ما يرام، وكان الزوجان بيلوت يبذلان جهدًا مستميتًا لرفع معنوياته.
حتى غريس، وقد أحسّت بتوتّر الجوّ، كانت تتدلّل على شقيقها وتغمره بفيضٍ من عبارات المديح العذبة.
وقفت إيلي عند المدخل حائرة لا تدري ما تفعل. الجوّ كان كئيبًا، وفكرة أنّها تأخّرت عن الحضور جعلت أطرافها ترتجف خوفًا من أن تُغضب السيّدة بيلوت أكثر.
لكنها سرعان ما خلصت إلى أنّ الوقوف هناك هكذا حتى تُكشف سيكون أكثر حماقة.
مسحت العرق من كفّيها على فستانها، ثم تعمّدت أن تُحدث صوتًا بخطاها وهي تدخل الغرفة، محاولةً رسم ملامح الهدوء على وجهها. جلست على الأرض عند قدمَي إينجل كما اعتادت، وقالت بصوتٍ لطيف:
“أعتذر عن التأخّر. خرجت أتمشّى قليلًا، وكان الجوّ جميلًا لدرجة أنني ابتعدت أكثر مما ينبغي.”
ثم رفعت نظرها إليه معتذرةً، حاجباها مقطّبان بأسفٍ خفيف، وحين التقت عيناها بعينيه، شعرت بصدمةٍ خاطفة كوميضٍ مفاجئ.
كان وجهه المتعافي مختلفًا كليًّا عن ذاك الوجه الشاحب الذي كان ملقى على السرير. شعره الذهبي يلمع ببهاء، وعيناه الزرقاوتان خاليتان من غشاوة المرض. شفاهه الحمراء المرتجفة قليلًا وخدّاه المتورّدان كالتفاح جعلا قلبها يرتجف للحظة.
ابتسم إينجل ابتسامةً واسعة لا يستطيع كتمانها، ومدّ يده اليسرى المرتجفة قليلًا ليلمس شعرها بحذر.
انزلقت أصابعه برفق بين خصلات شعرها البنيّة الداكنة، وأخذ يمرّرها ببطءٍ كأنه يتذوّق ملمسها.
نظرت السيّدة بيلوت إلى وجه ابنها الغارق في سعادةٍ عارمة بنظرة خيبة وذهول. شعرت بأنّ كلّ آمالها التي راكمتها خلال الأشهر الماضية تتهاوى في لحظة.
أما السيّد بيلوت وغريس، اللذان كانا منشغلين فقط بفرحهما بتحسّن مزاج إينجل، فلم يدركا ما كان يدور في خاطرها.
طوال المساء، لم يفارق إينجل إيلي لحظة، يتبعها أينما ذهبت. وعندما قالت إنها ستصعد إلى غرفتها للنوم، أمسك بها متوسّلًا ألا تذهب.
كان قد أوشك على الانفجار من شدّة اليأس، إذ إن إيلي كانت تتجاهل كلّ محاولاته للحديث معها أو جذب نظراتها.
قال، متذرّعًا، إنه أخذ قسطًا من النوم في العربة ولا يشعر بالنعاس، وربما يستطيع أن ينام فقط إن غنّت له إيلي قليلًا.
كان طلبه هذا صريحًا إلى حدٍّ فاضحٍ جعل وجه السيّدة بيلوت يحمرّ من الغضب، فانتفضت صارخة:
“إيلي سيرز! اصعدي إلى غرفتك حالًا!”
نهضت إيلي كمن أصابته صاعقة، وهربت مسرعة إلى غرفتها.
أما إينجل فبقي متجمّدًا في مكانه، ينظر إلى السيّدة بيلوت بعينين مذهولتين خاليتين من الأمل.
كانت السيّدة بيلوت قد قرّرت أن يُقيم ابنها في هيفنلي هيل ما لا يقلّ عن أسبوعين، وهو الحدّ الأدنى الذي وضعته لنفسها.
وإن بدا أنّه لم يعد يهتمّ بإيلي، فقد كانت تنوي أن تطيل المدة إلى شهر.
لكن حين رأت ابنها يتبع إيلي في كلّ مكان، يستجدي اهتمامها كطفلٍ ضائع، أدركت أنّها لن تحتمل وجوده هناك لعشرة أيامٍ حتى، فضلًا عن أسبوعين.
ومع ذلك، لم تجد أيّ ذريعة مناسبة لتُعيده سريعًا إلى المدرسة.
كانت ترغب في أن تهديه إلى الطريق القويم، لكنها لم تكن تملك الشجاعة الكافية لتتحمّل كرهه لها.
وبينما كانت تدور في دوّامة الحيرة تلك، كأنّ الرب استجاب لتوسّلاتها الصامتة، وصلها خبرٌ بأنّ إيلي مريضة طريحة الفراش.
***
كان سبب مرض إيلي بسيطًا. لقد وجدت نفسها في مأزقٍ لا مخرج منه. فكلّما تجاهلت إينجل أكثر، ازداد هو تعلّقًا بها بجنون. أمّا إن هي قابلته بودّ، فإن نظرات السيّدة بيلوت القاسية كانت تجعلها تختنق.
يزيد من عذابها أنها كانت تشعر برغبة لا تقاوَم في رؤيته. كانت تشتاق إلى النظر في ملامحه المتغيّرة، وسماع صوته الذي أصبح أعمق وأكثر دفئًا.
لكن عقلها كان يكرّر بلا رحمة كلمات السيّدة بيلوت الجارحة، مذكّرًا إيّاها بأنها فتاة وضيعة لا يحقّ لها أن تطمح أو تشتهي.
لذلك، لم تجد حلًّا سوى أن تخرج للتنزّه بعيدًا كلّما غفل عنها إينجل للحظة.
كانت تمضي ساعاتٍ تمشي وحيدة، ثم تجلس على تلٍّ بعيد، تقتل الوقت بحزنٍ مرير، قبل أن تعود ببطء إلى القصر.
كانت إيلي في الأصل فتاة ضعيفة البنية، رقيقة الأعصاب. ومع ما أصابها من إرهاق نفسيّ شديد وكثرة الحركة، عجز جسدها عن التحمّل أكثر.
وحين ذهبت إحدى الخادمات لإيقاظها، وجدتها مريضة، فأسرعت لإبلاغ عائلة بيلوت بحالتها.
وما إن سمع إينجل الخبر حتى اندفع راكضًا نحو غرفة إيلي دون تردّد.
أمّا السيّدة بيلوت، فقد حاولت اللحاق به، لكن غريس أمسكت بها، مصرّة بوجهٍ قَلِق على أن تعدّ بنفسها شايًا دافئًا لتقدّمه للمسكينة إيلي.
حبست السيّدة بيلوت غضبها بصعوبة، محاوِلةً أن تبقى هادئة.
كانت تخطّط لأن تأمر إينجل في اليوم نفسه بحزم أمتعته والعودة إلى المدرسة، متذرّعة بأنّ مرض إيلي قد يكون معديًا.
ولذلك، رأت أنه لا داعي للعجلة الآن.
وبوجهٍ مفعمٍ بعطف الأمّ، أمسكت بيد غريس وذهبت معها إلى المطبخ لإعداد الشاي.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"