7
تمّت إجراءات تسجيل إينجل في الأكاديمية بسهولة بفضل رسالة واحدة من السيّد بيلوت.
وبناءً على أوامر والده، وضع خطّة سفر ليغادر قصر هيفنلي هيل في أقرب وقت ممكن.
من غرفة إينجل، كانت الحقائب تُحمَل باستمرار، بينما كانت غريس تدور في مكانها باضطراب، لا تعرف ماذا تفعل أمام شعور الفقدان الرهيب الذي بدأ يتسلّل إليها منذ الآن.
أمّا إيلي، فكانت تتجنّب إينجل عمدًا. فبما أنّ السيّدة بيلوت قد أدركت مشاعر إينجل نحوها، كان على إيلي أن تتفادى لقاءه قدر الإمكان كي لا تثير غضبها.
في البداية، لم يحاول إينجل البحث عن إيلي، غاضبًا منها بعض الشيء، لكن كلّما اقترب موعد رحيله ازداد توتّرُه، فراح يجوب المكان بحثًا عنها.
غير أنّ إيلي كانت تتفاداه بمهارة، لا تظهر إلّا وقت تناول الطعام، ثم تختفي بسرعة.
وفي يوم حفل الوداع، تحجّجت إيلي بأنّها مريضة فحبست نفسها في غرفتها.
لم يكن ذلك بسبب خوفها من مواجهته فحسب، بل لأنها كانت تشعر أنّ رؤية إينجل وهو يغادر ستربكها وتبعثر مشاعرها.
كانت تزدري نفسها لأنها تشعر بهذا الضعف.
نظرت إيلي من النافذة إلى مشهد تحميل أمتعة إينجل في العربة، وتنهدت بخفوت.
سرعان ما خرج إينجل ليودّع أفراد عائلته بالعناق، وقبل أن يصعد إلى العربة، رفع نظره فجأة نحو نافذة غرفة إيلي.
فوجئت إيلي وابتعدت بسرعة عن النافذة، ثم اجتاحها إحساس بالغباء والارتباك حتى دمعت عيناها.
***
خلال الحفل، لم يستطع إينجل إخفاء حزنه العميق، وكانت ملامحه كئيبة طوال الوقت.
لكن ما إن لمح ستارة غرفة إيلي تتحرك، حتّى شعر بدفقة قوية تهزّ قلبه.
كذب على عائلته قائلًا إنه نسي شيئًا في الغرفة، ثم اندفع مسرعًا إلى الطابق العلوي وهو يكاد يختنق من اضطراب مشاعره.
وصل إلى باب غرفتها وفتح الباب بعنف.
كانت إيلي متكئة إلى الجدار قرب النافذة، فالتفتت نحوه مذعورة.
اقترب منها إينجل محاولًا أن يطبع على شفتيها قُبلات متلاحقة في عجلةٍ منه.
لكن إيلي دفعته بحزم عن صدرها.
نظر إليها مذهولًا، ثم أخرج من جيبه عقدًا ووضعه على كفّها المرتجف، وأطبق أصابعه على يدها الصغيرة وهو يقول:
“لا تنسيني….”
اكتفت إيلي بالتحديق فيه بصمت.
رفع يدها إلى شفتيه وطبع قبلة طويلة على ظهر كفّها، ثم غادر دون أن يلتفت.
وقفت إيلي جامدة كالشبح، تُنصت إلى صوت العربة وهي تتحرك بعيدًا.
شعرت بأنّ قواها تتلاشى تمامًا.
لم تفهم لماذا كان إينجل مولعًا بها إلى هذا الحد، ولماذا بدا كمن سيموت إن لم تبادله مشاعره.
وكان يساورها إحساس كئيب بأنّه كلّما خَبِر العالم الخارجي أكثر، سيعتبر كلّ ما كان بينهما مجرّد نزقٍ طائش من أيام الطفولة.
“إيلي سيرز.”
جفلت إيلي ورفعت رأسها بسرعة عند سماع صوت يناديها.
كانت السيّدة بيلوت واقفة عند بابها، بملامح صارمة.
دون وعي، أخفت إيلي يدها التي تحمل العقد خلف ظهرها.
حدّقت فيها السيّدة بيلوت بعينين تفحصان كل حركة من حركاتها، ثم قالت بشفاه مشدودة قاسية:
“حين رأيتكِ أول مرة، أول ما أردت التأكد منه هو إن كنتِ طمّاعة أم لا.
وقيل لي إنكِ لستِ كذلك.”
حاولت إيلي أن تثبّت يديها المرتجفتين، لكنها أدركت أن ما كان يرتجف لم يكن يديها فقط، بل جسدها كله.
“إينجل ليس لكِ، وكذلك هيفنلي هيل.
من يملك هذا كله يجب أن يكون أنبل وأجمل منك، من سلالة أرستقراطية حقيقية.
أظنّكِ تعلمين ذلك جيدًا، يا إيلي سيرز.”
كانت كلماتها قاسية، تُلقى مقطّعة النبرات، فشعرت إيلي وكأنّ صدرها يُمزّق إلى أشلاء.
أرادت أن تقول لها إنّها فهمت، كي تتوقف عن الكلام، لكنّها لم تجرؤ.
تابعت السيدة بيلوت ببرود:
“فتاة مثلك، من عائلة فقيرة ووضيعة، بلا تعليم حقيقي، لا يمكنها أن تنعم بكلّ ما في هيفنلي هيل إلا بفضلي أنا.
فلا ترتكبي حماقة الجحود.
على أيّ حال، سينساكِ إينجل سريعًا أو سيشعر بالندم على كل لحظة أمضاها معكِ…”
ثم أشارت بذقنها المتعالية نحو يد إيلي المخفية خلف ظهرها.
“تلك الهدية الصغيرة، اعتبريها ذكرى تافهة… وسأتغاضى عنها هذه المرة.”
في تلك اللحظة، سقط العقد من يد إيلي إلى الأرض.
رمقتها السيدة بيلوت بنظرة احتقار طويلة، ثم استدارت وغادرت الغرفة.
جثت إيلي على الأرض، وأطلقت نحيبًا مكتومًا.
كانت كرامتها قد سُحقت بوحشية، وهي تعيد في ذهنها كلمات السيّدة بيلوت واحدةً تلو الأخرى.
تكدّست أفكارها المشوشة، وغرقت في يأسٍ عميق.
لم تعرف كيف تتعامل مع شعور الدونية الذي كان يخنقها.
كرهت السيدة بيلوت من أعماقها، ولامت السيّد بيلوت على لا مبالاته المفرطة بشؤون المنزل.
حتى غريس، التي كانت تعيش بسذاجةٍ وتنعم بكلّ شيء وكأنّه حقّ طبيعي، أصبحت تثير غيظها.
وغضبت من إينجل الذي أربك مشاعرها بمحبته السخيفة، ثم تركها تواجه الإهانة وحدها وغادر.
كرهت كل شيء في هذا العالم:
نفسها التي وُلدت هكذا، أمّها التي تخلّت عنها، وأباها الذي لم يكن جديرًا بأن يُدعى أبًا.
وبعد أن هدأت نوبتها وبكت حتى الارتياح، بدأت ترى واقعها بوضوحٍ مؤلم.
مهما حاولت، ستظلّ فتاة وضيعة لا أكثر.
ولم يعد مسموحًا لها أن تطمع بما يتجاوز ذلك.
***
بعد رحيل إينجل، عمّ الهدوء أرجاء المنزل.
خلافًا للتوقعات، تمكّنت غريس من التماسك بثبات، إذ كانت تعتقد أنّ الأمر لا يختلف كثيرًا عمّا كان عليه حين كان إينجل طريح الفراش، وبفضل حرصها على ألّا تقلق والديها، اجتهدت في التصرّف بحيوية ونشاط.
وفوق ذلك، كان إلى جانبها إيلي.
كانت غريس تعتبر إيلي صديقة طيّبة، وتشعر تجاهها بامتنانٍ عميق. فقد كانت تشاركها كلّ شيء؛ الأعمال والأفكار، حتى باتت أقرب الناس إليها. ولهذا، كانت غريس أسرع من غيرها في ملاحظة التغيّر الذي طرأ على مشاعر إيلي.
منذ رحيل شقيقها إينجل، بدت إيلي واهنة كئيبة. ظاهريًا كانت تحاول التصرّف كأنّ شيئًا لم يحدث، لكنّ طباعها الساخرة والباردة التي كانت تخفيها، أخذت تبرز بين الحين والآخر.
فكّرت غريس في أنّها تشبه شخصًا أصيب بجرحٍ عميق في قلبه.
ومع ذلك، لم تحاول أن تسألها عن السبب. كانت تنوي التريّث حتى تبادر إيلي بالكلام من تلقاء نفسها، وظنّت ببساطة أنّها تفتقد شقيقها الذي كانت تمضي معه معظم الوقت.
لكنّ غريس، رغم ما تبدو عليه من كمال، كانت تفتقر إلى البصيرة العميقة.
فلو كانت جلست لتفكّر مليًّا، لأدركت أنّ إيلي لم تبح لها يومًا بسرٍّ أو خاطرٍ من خواطرها.
غير أنّ طبيعتها المتفائلة جعلتها تترك لإيلي حرّيتها، دون أن تدري أنّ ذلك جعل إيلي تشعر أكثر فأكثر وكأنّها مجرّد دمية.
أغلقت إيلي أبواب قلبها بإحكامٍ أشدّ، وأدّت دورها بإخلاص.
كانت تلبي نداء غريس في أيّ وقت، وتعزف على البيانو كلّما جلس السيّد والسيدة بيلوت في قاعة الاستقبال حتى لا يصيبهما الملل.
تصرّفت بحذر كي لا تلفت الأنظار، وجلست دائمًا في أحد الأركان بهدوء أشبه بسكون الفأر.
ومنذ ذلك اليوم، ظلّ تعاملها مع السيدة بيلوت فاترًا، غير أنّ السيدة لم تُبدِ أيّ اكتراث.
فإيلي بالنسبة إليها لم تكن سوى عبءٍ ثقيلٍ لا تطمئنّ إلى التخلّص منه، فاحتفظت بها في أرجاء المنزل لا أكثر.
أما السيّد بيلوت، فقد أظهر في بعض الأحيان شيئًا من الإيثار تجاه الفتاة التي تبنّتها زوجته، لكن ذلك اقتصر على الجوانب الماديّة فحسب.
فحين يشتري لابنته غريس الفساتين والحُليّ، كان يشتري لإيلي مثلها معها، لا أكثر.
وهكذا، كان جميع أفراد أسرة بيلوت يُهملون إيلي، كلٌّ بطريقته الخاصة.
***
وفي خضمّ هذا السكون الذي خيّم على قصر هيفنلي هيل، وصلت إليه أخبارٌ جديدة اثنتان.
أولاها: رسالةٌ من إينجل، يُخبرهم فيها بأنّه تأقلم جيّدًا مع المدرسة ويجتهد في دراسته.
قرأ السيّد والسيدة بيلوت الرسالة وهما يجلسان متجاورَين، وبدت على وجهيهما علامات الفخر والسرور.
كانت الرسالة قصيرة ومجردة من العاطفة، لا تحتوي إلا على سردٍ باردٍ لمحتوى الدروس، لكنّ الزوجين لم يتمكّنا من إخفاء اعتزازهما به.
وسرعان ما شرعا بكتابة ردٍّ عليه، وطلبا من غريس أن تكتب له هي أيضًا، غير أنّ إيلي كانت الاستثناء الوحيد؛
إذ لوّحت السيدة بيلوت بيدها قائلةً لها إنّ الجوّ جميل، ومن الأفضل أن تخرج في نزهةٍ قصيرة.
أما الخبر الثاني، فكان أنّ السيّد مارشال، القائم على الإسطبلات، قد أحضر ابنه ليعلّمه أعمال الإسطبل.
وفيما كان الجميع منشغلين بكتابة الرسائل، كانت إيلي في نزهةٍ وحدها عندما صادفت ابن مارشال.
كان فتىً ذا شعرٍ أحمر مائل للنحاسي، يغمر وجهه النمش على أرنبة أنفه، وتعلو ملامحه مسحةُ شقاوة.
وبالفعل، بدا أنه مشاغبٌ بطبعه، إذ بادرها بالكلام كما لو كانت صديقةً قديمة له:
“يا!”
نظرت إليه إيلي بدهشة، فابتسم بخفةٍ قائلاً:
“أنتِ إيلي؟ أم إلين؟ صحيح؟”
“أنا إيلي، لكن من أنت؟”
قالت وهي تتطلّع إليه بعينٍ حذرةٍ لا تخلو من الريبة.
“أنا فين مارشال! ابن المسؤول عن الإسطبل. سمعت عنكِ من والدي.”
ارتاحت إيلي حين سمعت ذلك، وتقدّمت نحوه بخطواتٍ متردّدة.
كان فين يدور قبعته المصنوعة من القشّ بين يديه مبتسمًا بثقةٍ ومرح.
“وكيف عرفت أنني إيلي؟”
“أوه، لأنّني سمعت أنّ الآنسة غريس شقراء وجميلة جدًا، وأنتِ بوضوح لستِ كذلك. وبما أنّك في مثل سني، فلا بدّ أنك إيلي، أليس كذلك؟”
كانت تلك الكلمات لتُغضبها في السابق، لكنّها الآن بدت لها ذات طابع خفيف ومريح.
ولم تكن تدري أنّ ذلك نابعٌ من شعورها العميق بالوحدة.
تأمّلت إيلي ملامحه؛ بنطاله الفضفاض، قميصه البالي، مظهره غير المرتّب، يديه ووجهه المتّسخين، وشعره الأحمر المبعثر كيفما اتّفق…
خلُصت إلى أنّه يشبه أولاد الميتم.
كان حضوره في ذلك القصر الراقي المنضبط أشبه ببقعة صغيرة خارجة عن النظام، ومع ذلك أحسّت بأنّها تستطيع أن تشعر براحة في وجوده أكثر من أيّ شخصٍ آخر هناك.
بل شعرت بنوع من التفوّق حين قارنت مظهرها المهذّب الجميل —الذي يليق بمرافقة غريس— بمظهره الفوضوي.
“إلى أين أنتِ ذاهبة؟” سأل فين فجأة.
“كنتُ أتمشّى فحسب.”
“ولماذا؟”
“لأنّ الطقس جميل.”
“ما رأيك أن نذهب لقطف التفاح؟ التفاح هناك لذيذ جدًا.”
“لا يجوز أن نقطفه من دون إذن. تلك أشجار التفاح المفضّلة لدى الطاهية.”
هزّ فين كتفيه بلا مبالاة قائلاً: “وما المشكلة؟”
وانطلق أمامها بخطوات سريعة، فلحقت به إيلي وهي تدرك أنّها لم تخض مثل هذا الحوار الطائش منذ زمنٍ طويل.
لكنّ تلك الكلمات العفويّة التي لا يسبقها تفكير كانت بالنسبة إليها حاجةً ماسة.
لقد سئمت التوتر الدائم، وكانت تحتاج إلى شخصٍ يمكنها أن تكون معه على سجيتها دون خوف أو حساب.
تسلّق فين شجرة التفاح برشاقة خفيفة تدلّ على خبرة، وقطف تفاحتين قبل أن يقفز إلى الأرض ويقدّم إحداهما لإيلي.
تناولت التفاحة، وعضّت منها قضمةً صغيرة، فوجدتها حلوةً جدًا.
جلس الاثنان تحت ظلّ الشجرة، وتناولا التفاح في صمت.
كانت تلك أول لحظةِ سكينة حقيقية تعرفها إيلي منذ زمنٍ بعيد.
وحين فرغا من الأكل، انهمكا في حديث طويل، كان معظمه في انتقاد عائلة بيلوت.
تبادلا السخرية من إسرافهم وتفاخرهم المتعالي، وتكلّما بحرارة مشتعلة.
كان فين يحمل كراهية للأغنياء لا تقلّ عن كراهية إيلي لهم،
لكن بأسلوب مختلف؛ فهي كانت تُخفي ما في نفسها وتنتقي كلماتها بعناية،
أما هو فكان صريحًا لاذعًا في سخريته وشتائمه.
ضحكت إيلي من كلامه، ووجدت فيه شيئًا من المتعة والراحة،
وشعرت بسعادةٍ غامرةٍ لأنها باتت تملك سرًّا صغيرًا لا يعرفه أحد من آل بيلوت.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 7"