6
حين ناداها إينجل بصوت عالٍ، خيّم الصمت للحظة في القاعة، والتفت الجميع نحو إيلي. شعرت بحرارةٍ تسري في وجهها، لكنها تظاهرت باللامبالاة وسألت:
“نعم؟”
قال إينجل مبتسمًا بخفةٍ في صوته:
“هل استمتعتِ بوقتك من دوني؟”
لم تعرف إيلي ماذا تجيب، فاكتفت بالعبث بأصابعها. نظر إليها إينجل بعطف يحمل في عينيه بريقا ماكرًا، ثم قال بلطف:
“رأيتك تمتطين الخيل من النافذة. فخرجت أنا أيضًا لأنني أردت أن ألهو… أردت أن أكون معك…”
كانت نبرته مزيجًا غريبًا بين المزاح والشوق العميق.
سادت أجواءٌ من التوتر والبرودة في القاعة. هل يُعقل أنه نزل رغم مرضه لا لزيارة والديه المحبين، ولا لأخته الصغرى التي تذرف الدموع شوقًا إليه كل يوم، بل فقط من أجل رفيقة لم يعرفها إلا منذ أقل من نصف عام؟ كان أي شخص يسمع ذلك سيجده أمرًا غريبًا.
ترددت إيلي في أن تفرّ من المكان، وألقت باللوم في نفسها على إينجل لأنه نطق بما لا داعي له.
لكن السيدة بيلوت قطعت الصمت وصفّقت بيديها قائلة:
“أها! إيلي لم تتمكن من زيارة إينجل كثيرًا لأنها كانت تتعلم ركوب الخيل مع غريس، أليس كذلك؟ لا بد أن إينجل شعر بالملل كثيرًا.”
نظرت إيلي إلى السيدة بيلوت التي تحدثت بنبرة هادئة لتلطيف الموقف، وأومأت بحماس. كانت تلك المرة الأولى التي تشعر فيها بالامتنان لها. فقد تلاشى التوتر فجأة، وعاد الجميع إلى ما كانوا يفعلونه.
اعتذرت غريس بصدق لأخيها لأنها أخذت إيلي منه، بينما بقي إينجل وإيلي يتبادلان نظرات صامتة.
أما السيدة بيلوت، فكانت تراقبهما بعين باردة. وقررت أن تُفرّق بين نظراتهما فقالت:
“آه! إيلي، هل تعزفين لنا على البيانو؟ أعتقد أن إينجل سيكون سعيدًا بسماعك.”
اقتربت إيلي بصمت وجلست أمام البيانو. وبينما كانت تبحث عن نوتة مناسبة لتبدأ بها، نهض إينجل ببطء من مكانه. سحب قدميه المثقلتين بالمرض واقترب منها حتى وقف إلى جوارها.
رفعت إيلي رأسها نحوه بنظرة متسائلة، فقال متعمّدًا بنبرة خفيفة:
“ستحتاجين إلى من يقلب صفحات النوتة، أليس كذلك؟”
شعرت إيلي بأن وجهها يحمرّ دون إرادة منها.
لم يكن السبب فقط في عنايته بها، بل في العاطفة الواضحة التي لم يستطع إخفاءها، وفي نظرات الحاضرين الذين لم يحاولوا حتى التظاهر بعدم الشك.
بدأت بالعزف متظاهرة بالهدوء، وإينجل يلتزم بتقليب النوتات بدقة.
وحين انتهت من العزف، بالغ إينجل في الثناء عليها بحماس شديد جعل إيلي تبتسم بخجل وهي تنظر إلى الأرض.
غمرها شعورٌ بالرضا الكامل. كان شعورًا جميلًا أن تُثبت لإينجل أنها ليست شخصًا عديم القيمة.
لكنها سرعان ما لاحظت أن جميع أفراد العائلة يحدقون بإينجل باهتمامٍ مبالغ فيه. عندها دفعت بلطفٍ ذراعه إشارةً له بأن يتوقف، فانحنى قليلًا ونظر إلى الموضع الذي لمست فيه أصابعها جلده.
***
تمامًا كما تمنى السيد والسيدة بيلوت، بدأ إينجل يتعافى تدريجيًا. لم تحدث له أي نوبات بعد ذلك، واستعاد وجهه الوسيم لونه الطبيعي، وتمكن من حضور موائد الطعام بانتظام.
كانت السيدة بيلوت تعتقد أن ذلك كله ثمرة الخير الذي جَنَته عندما احتضنت فتاةً فقيرة.
لكن إيلي لم تكن تشاطرها الرأي.
كانت ترى أن شفاء إينجل كان أمرًا محتومًا، وأن وجودها في هيفنلي هيل لم يكن سوى صدفة تزامنت مع تعافيه. لذا كانت دائمًا تعيش في قلقٍ من أن تعود في أي لحظةٍ إلى ميتم سانت هوغن.
ورغم قسوة ذلك المكان وازدرائهم لها، فإن الحياة في هيفنلي هيل كانت أفضل بما لا يقاس.
أما السيدة بيلوت، فقد راودها بالفعل خاطرُ إعادة إيلي إلى الميتم، لكنها خافت أن ينهار كل ما بنته من فضلٍ في نظر الجميع، أو أن ينتكس مرض ابنها مجددًا، فعدلت عن الفكرة. زد على ذلك أن غريس قد تعلّقت بإيلي بشدة.
قررت السيدة بيلوت أن تراقب الوضع المريب بين إينجل وإيلي لبعض الوقت.
***
وفي تلك الأثناء، كان إينجل، وقد استعاد عافيته، يخرج من غرفته باستمرار للبحث عن غريس وإيلي.
سواء في غرفة غريس أثناء أحاديثهما السرية أو أثناء لعب الدمى، كان إينجل يقتحم الأجواء بخفة ويشاركهما اللهو.
كان دائمًا يتذرع بأنه جاء لأجل أخته، لكن تصرفاته كانت فاضحة، إذ لم يكن يفارق جانب إيلي أبدًا.
خافت إيلي أن يزعج ذلك غريس، لكن الأخيرة، الطيبة والبريئة حد السذاجة، ظنت أن شقيقها يريد أن يكوّن صداقة حقيقية مع إيلي، ففرحت كثيرًا بذلك.
حتى على مائدة الطعام، لم يكن إينجل يرفع عينيه عن إيلي، وعندما كانت تعزف على البيانو، كان يتطوع للوقوف بجوارها ليقلب النوتات.
وعندما يحين وقت القيلولة، كان يطلب من الخدم الانصراف بحجة أنه لا يستطيع النوم إلا على صوت غنائها، راغبًا في أن يكونا وحدهما. بل وبدأ يطلب منها أن تعزف في غرفته، كأنه يريد احتكار موسيقاها لنفسه.
صار يوبّخ الخدم أكثر من ذي قبل، لا سيما إن لمح منهم أي تصرفٍ فيه انتقاص أو تجاهل لإيلي.
كان يصغي إليها أكثر من أي شخصٍ آخر، ويتتبع حركاتها بعينيه، ويبدو أحيانًا وكأنه يتعذب إن لم يجد فرصةً لمحادثتها.
لقد كان إينجل تجسيدًا حيًا لفَتى وقع في الحب لأول مرة.
أما إيلي، فكانت تشعر بالحرج من اهتمامه المفرط، لكنها في الوقت نفسه لم تستطع إنكار اللذة الخفية التي يتركها ذلك في قلبها.
ظنت السيدة بيلوت أن ما يفعله ابنها سيتلاشى بمرور الوقت.
لكن مرّ عامٌ كامل، ولم تخمد نار حبه، بل ازدادت اشتعالًا.
بلغ إينجل السادسة عشرة من عمره، وغريس وصديقتها إيلي الرابعة عشرة، غير أن ولعه بإيلي كان أقوى من أي وقتٍ مضى.
كانت إيلي تُبقي نفسها متحفظةً مدركةً حدودها، لكن من يدري؟ ربما تغيّر رأيها يومًا وتقبل مشاعره.
كانت مجرّد فكرة أن تتزوج فتاةٌ متواضعة مثل إيلي من ابنها، وتصبح سيدة هيفنلي هيل الجديدة، كافية لجعل السيدة بيلوت تشعر بالاختناق والغليان من الغضب.
كانت السيدة تعتقد أن عقل إينجل بليد بعض الشيء، لكنها في الوقت نفسه رأت أنه من الطبيعي أن ينجذب فتى حُبس طويلًا في غرفته إلى الفتاة الوحيدة التي التقاها.
لذلك، ظنّت السيدة بيلوت أنه عندما يرى ابنها العالم الواسع ويلتقي بأشخاص متنوعين، سيدرك أن إيلي ليست سوى فتاة عادية، جميلة الوجه لطيفة الصوت، لا أكثر. كما توقعت أنه سيقع يومًا ما في حب امرأة أخرى نبيلة الأصل، مثقفة، وجميلة بحق.
وبعد أن أتمّت حساباتها، هرعت السيدة بيلوت إلى مكتب زوجها، وهناك بادرت بنفسها بطرح الموضوع الذي كانت قد رفضته سابقًا والدموع في عينيها.
قالت:
“أعتقد أنه من الأفضل إرسال إينجل إلى مدرسة داخلية.”
فرفع السيد بيلوت رأسه من فوق الكتاب الذي كان يقلب صفحاته متجهمًا وسألها:
“لقد كنتِ تمانعين بشدة، فما الذي غيّر رأيك الآن؟”
كان السيد بيلوت يتمنى أن يدرس إينجل، بصفته الوريث المستقبلي لعقار هيفنلي هيل وتلميذًا مخلصًا لله، أربع سنوات في مدرسة داخلية مسيحية.
لكن السيدة بيلوت، التي لم تحتمل فكرة إرسال ابنها الذي تعافى بالكاد بعيدًا عنها، كانت قد رفضت ذلك بحرقة، مما اضطر السيد بيلوت إلى التخلي عن الفكرة مؤقتًا.
قالت السيدة بيلوت:
“بعد التفكير، أرى أن هذا هو الخيار الصائب من أجل مستقبله. لقد أمضى وقتًا طويلًا طريح الفراش ولم يتمكن من الدراسة جيدًا، وقريبًا سيشارك في الحياة الاجتماعية. تخيّل يا عزيزي، كم سيكون أمرًا مخجلًا إن لم يكن ابن آل بيلوت واسع المعرفة!”
قررت السيدة ألا تُفصح لزوجها عن دوافعها الحقيقية. كانت تعتقد أن التفكير في حبيبة ابنها مسألة تخصها وحدها. ومع أنها كانت تدبّر الأمر بعقل بارد، فإنها أحست بشيء من الحنين المسبق لابنها الذي لن تراه كثيرًا في السنوات الأربع القادمة، ووجدت نفسها تلوم إيلي بلا سبب واضح.
لم يُخفِ السيد بيلوت سعادته بقرار زوجته، بل مدحها معتبرًا أنها أحسنت التفكير، ثم وضع يده على كتفها مواسيًا. أسندت السيدة رأسها إلى كتفه وأطلقت تنهيدة عميقة، وقد شعرت أخيرًا وكأن كلّ شيء سيعود إلى مكانه الصحيح.
***
لكنّ طمأنينتها كانت متسرعة، إذ أبدى إينجل مقاومة أشدّ مما توقعت. في البداية بدا عليه الذهول من كلام والديه، ثم رفض بصوت مرتفع. لم تُجْدِ محاولاتهما في إقناعه، وظلّ يهزّ رأسه بحزم.
كان بعيدًا كل البعد عن هدوئه المعتاد وابتسامته اللطيفة، بل أظهر غضبًا عارمًا في عينيه وهو يحدق بوالديه.
أما غريس، فقد انفجرت بالبكاء مطالبة بألا يُرسَل شقيقها بعيدًا. ومع توتر الأجواء، رفع السيد والسيدة بيلوت صوتيهما على غير عادتهما، فتحوّلت مائدة العشاء إلى فوضى تامة.
وفي خضمّ تلك الضوضاء، كانت إيلي الوحيدة التي التزمت الصمت وغرقت في التفكير.
كانت إيلي فتاة شديدة الملاحظة، وقد ازدادت حساسية بعد عام كامل أمضته في هيفنلي هيل، حيث كان عليها أن تتصرف بحذر دائم وسط أشخاص يراقبونها كلٌّ لأسبابه الخاصة.
لذلك، بدأت تدرك سبب رغبة السيدة بيلوت المفاجئة في إرسال إينجل بعيدًا رغم أنه تعافى بالكاد.
صحيح أن السيد بيلوت هو سيد هيفنلي هيل، لكن السلطة الحقيقية كانت في يد زوجته. وإيلي أيقنت أن السبب الوحيد الذي جعل السيدة بيلوت ترسل ابنها العزيز إلى مكان بعيد، هو استياؤها من الفتاة التي أحبّها.
شعرت إيلي بجرحٍ في كبريائها. بل واعترفت في سرّها أنه لو كانت هي أمّ إينجل، لربما لم تكن لترغب أيضًا في فتاة مثلها. عندها، شعرت بطعمٍ مرّ في فمها.
ومع ذلك، لم تستطع إنكار أنها شعرت ببعض الامتنان والارتياح أيضًا؛ إذ إن قرار السيدة بيلوت بإرسال ابنها بدلًا من إعادتها هي إلى الميتم دلّ على نية إبقائها في هذا المكان.
ومن ثمّ، رأت إيلي أنه لا بدّ أن تردّ هذا الجميل بطريقتها. فتحدّثت بنبرة هادئة قائلة:
“أخي إينجل، أظن أنه من الأفضل أن تذهب إلى تلك المدرسة.”
ساد الصمت للحظة، واتجهت الأنظار كلّها نحوها. كانت السيدة بيلوت تنظر إليها بابتسامة خفيفة تجمع بين الدهشة والسخرية.
حوّلت إيلي نظرها بتردد من السيدة إلى إينجل. كان يحدّق فيها بعينين تنضحان بالصدمة والخذلان في آنٍ واحد، وكأنه يسألها بإصرار: ‘هل تقولين هذا لأنك لا تفهمين ما أشعر به؟’
واصلت إيلي كلامها بعد أن ارتسمت على وجهها ملامح القلق المصطنع:
“لقد كنت مريضًا ولم تتمكن من الدراسة جيدًا، لكنك شخص عظيم يا أخي. بعد أربع سنوات فقط من الدراسة هناك، ستعود رجلًا رائعًا بحق.”
نظر إليها إينجل مذهولًا للحظة، ثم خفَض بصره كأنه غارق في التفكير. كانت عيناه القلقتان تبحثان عن نواياها الخفية.
أما السيد بيلوت، فكان يرمق إيلي بإعجابٍ صامت، كأنه يقول في نفسه: “أحسنتِ صنعًا.”
إيلي، وقد شعرت بشيء من الضيق من نظرته تلك، أدارت رأسها وتظاهرت بالانشغال بالطعام.
وبعد لحظات، توقفت غريس عن بكائها وبدأت، بتردد، تتابع تناول عَشائها مثل إيلي. ساد صمت ثقيل كالحجر، إلى أن قطعت السيدة بيلوت السكون قائلة بنبرة حاولت أن تكون مطمئنة:
“إينجل، ستتمكن من العودة إلى البيت من حين لآخر، لن تبقى هناك طيلة السنوات الأربع.”
عندها رفع إينجل رأسه ونظر مباشرة إلى إيلي، ثم أجاب بوجه جامد:
“حسنًا، فهمت.”
قرأت إيلي في عينيه رغبة في انتزاع وعدٍ منها. لكنها كانت تعرف تمامًا ما الذي يعنيه ذلك الوعد، ولذلك لم يكن أمامها سوى أن تتظاهر بأنها لم ترَ شيئًا.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"