5
بينما كانت إيلي تمضي أيامها بانشغالٍ دائم، كانت الأشهر الثلاثة منذ قدومها إلى قصر هيفنلي هيل قد مرّت سريعًا دون أن تشعر.
بدأت إيلي تتأقلم تدريجيًّا مع حياة عائلة بيلوت، وبالمقابل، صار الآخرون يتصرفون وكأنها كانت موجودة بينهم منذ البداية، أو كأن وجودها من الأساس لم يكن يعني شيئًا.
كانت حالة إينجل تتدهور ثم تتحسن مرارًا دون توقف، إلى أن أصبح قادرًا أخيرًا على السير بضع خطوات خارج سريره.
وفي تلك الفترة، أخذت غريس تتوسل باكية لرؤية أخيها مرارًا وتكرارًا.
كان السيد والسيدة بيلوت في قلقٍ دائم من أن تنتقل العدوى إلى غريس، ومع ذلك، كانا يسمحان بشكلٍ متناقض بدخول إيلي إلى غرفة إينجل بانتظام.
شعرت غريس بالظلم الشديد من تصرفات والديها، وكانت أحيانًا تمنع إيلي من الذهاب إلى غرفة إينجل.
حاولت إيلي تهدئتها وهي تخفي مرارتها، لكن غريس أصرّت بعنادٍ غير معتاد على أن ترافقها إن أرادت الذهاب.
تكرار هذه المواقف جعل زيارات إيلي لـ إينجل تتأخر وتتفاوت في التوقيت، بعدما كانت تصل دومًا في موعدٍ ثابت عقب وجبة الطعام.
***
كان ذلك اليوم من الأيام نفسها.
بعد أن تمكنت أخيرًا من إقناع غريس بالبقاء، هرعت إيلي مسرعة إلى غرفة إينجل وفتحت الباب على عجل، لتجده واقفًا خلف الأريكة.
“إينجل!”
نظر إليها إينجل بنظرة مملوءة باللوم.
كانت تلك النظرة غريبة إلى حدٍ جعل إيلي تشعر بالارتباك — فلم يسبق له، حتى في أسوأ أيام مرضه أو أثناء سهره الطويل بسبب الألم، أن نظر إليها بغير المودة.
قالت مترددة:
“يبدو أن حالتك تحسّنت كثيرًا… هذا مطمئن.”
كانت تعلم في داخلها أن كلماتها تلك سخيفة.
كان الأجدر بها أن تسأله عن حاله أولًا، لكنها نطقتها من شدة توترها وخوفها من هيئته في تلك اللحظة.
عضّت شفتها نادمة على اندفاعها، لكن إينجل سرعان ما خفّف من تعبيره ومدّ يده ليلمس شفتها السفلى.
احمرّ وجهه فجأة، فتراجعت إيلي بخطوةٍ واسعة، وسقطت يده المرتجفة من على شفتيها.
“لماذا تتأخرين هكذا هذه الأيام؟”
سألها بصوتٍ حادّ، فتلعثمت إيلي مترددة بين الصراحة والكتمان.
كانت تعلم جيدًا مدى قوة العلاقة بين غريس وإينجل.
فإن أخبرته بأن أخته تبكي شوقًا إليه، فربما يصرّ على رؤيتها، وهو ما سيجلب لها المتاعب لا محالة.
بينما كانت غارقة في التفكير، قال إينجل بصوتٍ ممزوج باللوم:
“كنتُ أنتظرك كل يوم. لم يمر يوم لم أنتظرك فيه.”
قالت إيلي بحذر:
“كان يمكنك أن تطلب من إحدى الخادمات أن تستدعيني…”
لكنها سرعان ما صمتت، مدركةً أنها أخطأت.
فـ إينجل كان دائمًا يفضّل لقاءها على انفراد، لذا كانت الخادمات يغادرن الغرفة طوعًا عندما يحين موعد زيارتها.
تخيلت إيلي مظهره وهو ممدد على السرير ينتظرها بلا حراك، ثم يقوم من فراشه المرهق باحثًا عنها بنفسه.
غمرها الشعور بالذنب، فقررت أن تكذب لتخفف عنه:
“كنت أتدرّب على العزف على البيانو. آسفة لجعلك تنتظر، لكني شعرت أنني على وشك إتمام إحدى المقطوعات، فلم أستطع التوقف. أردتُ أن أؤديها لك في أقرب وقت.”
لم تمنحه فرصة للرد، وسارعت نحوه لتدعمه بذراعيها.
غير أن إينجل، البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، كان طويل القامة بالنسبة لها، فتعثّرت وهي تحاول مساعدته وسقطت أرضًا بعدما اصطدمت بساقيه الطويلتين.
حاول إينجل الإمساك بها، لكن جسده الضعيف لم يتحمل، فسقط فوقها.
صرخت إيلي فزعًا، بينما رفع إينجل جسده المتعب بسرعة ليتفقدها.
رفعت رأسها نحوه بعينين دامعتين، ثم سرعان ما مالت زاويتا عينيها بخفة، وابتسمت.
قهقهت ضاحكة.
كان الموقف كله مضحكًا — سقوطها وهي تحاول أن تبدو قوية، وسقوطه معها رغم محاولته حمايتها.
استلقت على الأرض تحته وهي تضحك بصوتٍ عالٍ لم تطلقه منذ زمنٍ طويل.
لكنها لم تكن تعلم أن تلك الضحكة ستترك أثرًا لا يُمحى في أعماق إينجل.
تلك اللحظة بالذات أيقظت في قلبه رغبةً لم يعرفها من قبل — كانت بداية حبّه لها.
وكما تكون أولى المشاعر دومًا، كانت عاصفةً ومباغتةً كالهجوم.
نظر إليها مذهولًا، ثم انحنى فجأة وطبع قبلةً على شفتيها.
كانت القبلة خرقاء، لم تتعدّ احتكاكًا مرتبكًا بين الشفتين، لكنها حملت معنى واضحًا لا لبس فيه.
ورغم أن إيلي لم تتجاوز الثالثة عشرة، فقد أدركت تمامًا ما يعنيه ذلك.
غير أنها خافت أن يتصدع ما بينهما، أو أن يكتشف أحد — السيدان بيلوت أو غريس — ما حدث.
لذا، ما إن ابتعد عنها حتى زحفت خارج حضنه بخجلٍ مضطرب، ثم تصرفت بعد ذلك وكأن شيئًا لم يحدث.
كانت تغني له كعادتها، وتحكي له قصص الحياة اليومية في الخارج، وتمسح وجهه بالماء حين يطلب.
لكن إينجل تغيّر.
لم يعد ينام عندما تكون معه، بل ظل يحدق فيها بصمتٍ عميق.
وحين ضاق صدرها من نظراته، كانت تثرثر بلا ترتيب عن أي شيءٍ لتتهرب، ثم تتحجج بدرس البيانو وتغادر مسرعة.
وكان صوته يناديها من خلفها في كل مرة، لكنها لم تجرؤ على الالتفات.
***
رغم استيائها في البداية، اضطرت ليز — معلمتها — إلى الاعتراف بما لا يمكن إنكاره.
كانت إيلي تملك موهبةً استثنائية في العزف على البيانو.
لم تشهد من قبل طالبة تتعلم بهذه السرعة وتحوّل الموسيقى إلى تعبير شخصيّ بهذه الرقة.
بل إنها — وإن لم تصرح بذلك — رأت أن إيلي تفوقت على غريس التي تعزف منذ نعومة أظفارها.
لكن الموهبة لا تحتاج إلى اعترافٍ كي تُثبت وجودها؛ فسرعان ما لاحظ الجميع في منزل بيلوت أن إيلي، بعد أقل من خمسة أشهر من التدريب، أصبحت تعزف البيانو بإتقانٍ شبه كامل.
إيلي أصبحت الآن تعرف كيف تستمتع حقًّا بعزف البيانو. لم يكن الأمر لأنّ البيانو مسلٍّ بحدّ ذاته، بل لأنّها كانت تستمتع بوجود شيء واحد على الأقل تتفوّق فيه على غريس.
كانت إيلي، بدافعٍ من العناد، كلّما دخلت غريس غرفة الاستقبال لزيارتها، تعزف مقطوعات سريعة وصعبة أمامها.
لكن غريس كانت تتأثّر بإخلاصٍ أكثر من أيّ أحد، وتبادر إلى الإعجاب بها والثناء عليها. ولتمدح إيلي، لم تكن تتردّد حتّى في التقليل من نفسها.
ذلك الطبع الطيّب في غريس كان يجعل مزاج إيلي ينخفض بدل أن يسعدها.
كانت إيلي تتلقّى الدروس مع غريس من معلّمها الخاصّ، لكنها لم تكن تقترب حتى من نصف مستواها.
فغريس كانت ذكيّة، سريعة البديهة، وتملك قدرةً رائعة على التّطبيق. ومع ذلك كانت تعرف التواضع، فلم تُهِن إيلي قطّ، ولا تباهت بعلمها أمامها.
لذلك لم يكن أمام إيلي سوى تكريس نفسها أكثر لعزف البيانو، ساعيةً لإثبات مهارتها أمام غريس.
***
كانت السيّدة بيلوت راضيةً تمامًا عن تقدّم إيلي السريع في عزف البيانو، فأمرت الخدم بضبط بيانو غرفة إينجل.
وقد كان هذا في الحقيقة مريحًا لإيلي أكثر.
فبدل أن تجلس أمام إينجل تتبادل معه الأحاديث أو الأغاني في جوٍّ من الحرج، كان عزف البيانو أمامه أهون عليها بكثير.
وفي الوقت نفسه، شعرت بقدرٍ غريبٍ من الفخر والرغبة في أن تُسمعه عزفها.
أما غريس، فقد ترجّت والديها وهي تبكي أن يسمحا لها بدخول غرفة أخيها لتستمع إلى عزف إيلي هناك.
وبينما كان السيّد بيلوت مترددًا، قرّر أخيرًا أن يستخدم ورقته الأخيرة.
فأضاف نشاطًا جديدًا إلى جدول إيلي المزدحم أصلًا — وهو تعلّم ركوب الخيل.
كان اقتراحه هذا مجرّد وسيلةٍ لتحويل انتباه غريس، وقد بدا أنّه نجح.
فقد افتُتنت غريس بسرعة بالمهور الصغيرة، وصارت تخرج يوميًّا مع إيلي للتدرّب على الفروسيّة.
وهكذا استطاعت إيلي، مرتاحةَ البال، أن تقلّل من عدد زياراتها لإينجل.
بل إنّها كانت تستمتع بتخيّل نفسها تمتطي الخيل وتطوف في أرجاء ملكيّة هيفنلي هيل الشاسعة، وهو شعور منحها بهجةً وحريةً لا توصف.
كانت ملكيّة هيفنلي هيل في غاية الجمال.
امتدّت المروج الخضراء المشذّبة بعناية فوق التلال تمامًا كما في لوحات القصص الخيالية التي رأتها إيلي سابقًا في غرفة غريس.
وكانت المنازل الصغيرة وبيت القسّ مصطفّةً بجمالٍ متقنٍ كأنّها قرية يسكنها الجان.
وبجوار القصر، كان هناك غابة كثيفة تغرّد فيها طيور القبرة على الدوام، وفيها طريق مختصر يخرج من هيفنلي هيل.
ولذلك كان السيّدان بيلوت يمنعان غريس وإيلي دائمًا من دخول تلك الغابة.
لكن إيلي كانت تعتقد أنّه إن تعلّمت ركوب الخيل، فستتمكّن من التسلّل إلى هناك في نزهةٍ صغيرة دون أن ينتبه أحد.
وفوق ذلك، أعجبت إيلي بالرجل المسؤول عن الإسطبلات، السيّد مارشال.
فبسبب وضعها الغامض — لا هي خادمة ولا هي ابنة بالتبنّي — وبسبب البرود الخفيّ من سيّدة المنزل، لم يكن عمّال هيفنلي هيل مرتاحين لوجودها.
لكن السيّد مارشال، الذي كان له ابن في عمرها، لم يُهِنها قطّ.
بل كان يحترمها مثلما يحترم غريس، وأحيانًا كان يعتني بها خفيةً بطريقةٍ لا تُلفت الانتباه.
***
وفي أحد الأيام، وكما كانتا تفعلان دومًا، كانت غريس وإيلي تتنزّهان في أنحاء الملكيّة الرائعة، تمسحان العرق بعد التدرب على الفروسيّة وهما في طريقهما إلى غرفة الاستقبال.
لكن على غير العادة، كان مدخل الغرفة صاخبًا جدًّا.
كانت الخادمات يهرعن في ارتباك، يدخلن ويخرجن وهنّ يحملن المناشف والكؤوس الفضّية المملوءة بالماء على الصواني.
وحين دخلتا الغرفة متجنّبتين الخادمات المنشغلات، رأتا وجهَي السيّد والسيّدة بيلوت يشعّان بفرحٍ غامر، في حين بدى الأثاث والزينة حولهما في فوضى خفيفة.
ولم تكَد إيلي تفهم ما يجري، حتى هرعت غريس فجأة نحو الأريكة الموضوعة عند مدخل الغرفة، مطلقةً صيحة دهشةٍ وفرح.
ثمّ ارتمت في عنق الجالس عليها وهي تصيح:
“أخي!”
حينها فقط أدركت إيلي أن إينجل كان يجلس على تلك الأريكة.
رأته يحتضن غريس بقوة، ووجهه لا يُرى منها.
قالت غريس وهي متشبّثةٌ به بإصرار:
“أخي إينجل، لقد شُفيت تمامًا، أليس كذلك؟”
أخذت تكرّر سؤالها بإلحاحٍ طفولي، بينما كان إينجل يربّت على رأسها بصمت، ثمّ أدار رأسه ببطء ليتفحّص المكان من حوله.
وحين التقت عيناه بعيني إيلي، انحنت له بتحيةٍ صغيرة ثمّ خفَضت نظرها.
نطق إينجل بصوتٍ خافت: “إيلي.”
كان صوته أشبه برجاء ملحّ منها أن تقترب إليه.
تردّدت إيلي قليلاً، ثمّ مشت نحوه.
كان لا يزال يبدو مريضًا، ووجهه شاحب. بدا أنه استهلك الكثير من طاقته ليتمكّن من السير من غرفته حتى غرفة الاستقبال.
لكن السيّدة بيلوت لم تهتمّ بذلك، فقد كانت غارقة في نشوة الفرح لأنّ ابنها استطاع المشي بنفسه.
كانت تبكي دموع الامتنان وتقبّل الصليب المعلّق على عنقها وهي ترفع صلوات الشكر المتتابعة.
أما السيّد بيلوت، فمع أنّه كان منفعلاً مثلها، إلا أنّه حاول كبح انفعاله وأخذ يوجّه التعليمات إلى الخدم، غير أنّ عينيه كانتا تتلألآن بين الحين والآخر بفخرٍ عظيمٍ تجاه ابنه.
غريس، من جهتها، كانت قد التصقت بأخيها تمامًا، تسرد له كلّ ما رغبت قوله طيلة الأيام الماضية دون توقّف.
وفي وسط ذلك، بقيت إيلي واقفة في مكانها، لا تنتمي إلى أيّ منهم.
شعرت وكأنّها ضيفة غير مدعوّة.
تملّكها مزيجٌ من الغيرة والحيرة والانقباض أمام دفء تلك العائلة المفعمة بالمحبّة.
فقرّرت أن تتظاهر بأنّها تترك المكان لتعود إلى غرفتها، كما لو أنّ ذلك هو الشيء اللائق الذي ينبغي أن تفعله.
لكنّ صوت إينجل ارتفع من خلفها، يناديها بصوت عالٍ:
“إيلي!”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 5 منذ 13 ساعة
- 4 منذ 13 ساعة
- 3 2025-10-19
- 2 - الفصل الأول: هيفنلي هيل -التل السماوي- 2025-10-19
- 1 - المقدّمة 2025-10-19
التعليقات لهذا الفصل " 5"