تذكّرت إيلي ملامح وجهَي السيّد والسيّدة بيلوت الباردتين تحت ضوء الشموع الخافت ليلة أمس.
ولمحاولة كسب بعض الوقت، حاولت أن تتباطأ عمدًا، لكنّ الخادمة، التي بدا على وجهها الانزعاج، أمسكت بمعصمها وسحبتها بقوّة، فاضطرّت إيلي للخروج من الغرفة كما لو كانت تُطرد.
اقتادتها الخادمة إلى غرفة الطعام.
“ها قد جئتِ.”
حين رأت السيّدة بيلوت إيلي متردّدة تقف عند المدخل، أشارت إليها لتتقدّم.
في منتصف قاعة الطعام الواسعة كانت طاولة طويلة يجلس حولها أفراد العائلة الثلاثة، يحدّقون جميعًا بإيلي.
حتى الخادمات اللواتي كنّ يقدّمن الخدمة توقّفن عن الحركة، وأمسكن بأباريق الماء، ووجّهن أنظارهن نحوها بثبات.
ارتبكت إيلي من الأنظار المتجمّعة عليها، وتقدّمت إليهم بخطوات متردّدة.
جلست بحذر على الكرسيّ الذي سحبه أحد الخدم، وألقت نظرات سريعة نحو السيّد والسيّدة بيلوت.
“تأخّرنا في الترحيب بكِ، أليس كذلك؟ كان الأمس فوضويًّا للغاية.”
قالت السيّدة بيلوت بابتسامة هادئة، وقد استعادت مظهر السيدة النبيلة الجميلة المليئة بالحيوية، على عكس ما بدت عليه الليلة الماضية.
وكأن شيئًا لم يحدث بالأمس، كان الزوجان بيلوت يتناولان طعامهما بهدوء طبيعي.
ذلك الهدوء الغريب أشعر إيلي بخوفٍ غامض، فاكتفت بهزّ رأسها بصمت دون أن تنبس بكلمة.
“لابدّ أنكِ جائعة جدًّا، فلم تأكلي شيئًا البارحة قبل أن تنامي.”
قال السيّد بيلوت وهو يقدّم لها الطعام.
تناولت إيلي الشوكة بارتباك، وبدأت تنظر إلى الأطباق المجهولة أمامها، تفوح منها روائح شهية كالحلم.
وحين رأت لحم البقر الذي لم تذقه سوى مرة واحدة في عيد الميلاد، شعرت بجوعٍ يضطرب في معدتها.
لكنها لم ترد أن تُظهر نفسها كطفلةٍ مبهورة أمام الأطعمة الفاخرة.
فحاولت أن تقلّل من حركتها، محافظة على آداب المائدة، وبدأت الأكل بحركاتٍ متكلّفة متوترة.
راقبتها السيّدة بيلوت بابتسامة خفيفة، لكن إيلي شعرت من تلك الابتسامة بنبرة ازدراءٍ وسخريةٍ موجهة نحوها.
احمرّ وجهها خجلًا، وأخذت تدسّ الخبز في فمها بصمت، إلى أن شعرت بنظراتٍ مُلحّة من الجهة المقابلة.
رفعت عينيها بحذرٍ لترى فتاة في مثل عمرها، ذات شعر ذهبيّ كثيف مجعّد منسدل على كتفيها، تحدّق بها بابتسامة فضولية وعينين زرقاوتين لامعتين.
كانت جميلة ورقيقة، تمامًا كدمية لطالما وقفت إيلي تتأملها طويلاً خلف واجهة أحد المتاجر.
أحرجها الموقف، فخفضت رأسها بسرعة نحو صحنها، لكنّ الفتاة نظرت إلى والدها بعينين متوسلتين.
فأدرك السيد بيلوت نظرتها وسعل قليلًا قبل أن يتحدث:
“إيلي، هذه غريس.”
رفعت إيلي رأسها لتنظر إلى الفتاة التي قدّمها والدها باسم غريس.
ابتسمت غريس ابتسامة مشرقة، وجمعت شفتيها الممتلئتين فوق وجنتين ورديتين.
“وغريس، هذه إيلي. ستكونان رفيقتين لا تنفصلان من الآن فصاعدًا، لذا من الأفضل أن تتعارفا جيدًا.”
قال السيد بيلوت ذلك، فقفزت غريس بحيوية قبل أن ينهي كلامه:
“تشرفتُ بلقائكِ، إيلي!”
كانت تلك الثقة المشرقة التي لا يملكها سوى من لم يُقابل في حياته رفضًا قط.
شعرت إيلي بالانكماش من حضورها، وهمست بخجل
“تشرفتُ بلقائكِ…”
ورغم ردّها البارد، لم تفقد غريس ابتسامتها، بل مدّت يدها عبر الطاولة وأمسكت بيد إيلي بإحكام.
كانت يدها المغطاة بقفاز حريريّ ناعمة، فيما كانت يد إيلي خشنة ومتشققة من العمل، والفارق بينهما كان فادحًا حدّ الإيلام.
أرادت أن تسحب يدها فورًا، لكن غريس لم تتركها، بل واصلت النظر إليها بعينيها المتألقتين المفعمتين بالمودّة.
غير أن تلك المودّة أثقلت على إيلي، فلم تعرف كيف تتصرف.
توجّهت غريس إلى أمها بنبرةٍ حنونة:
“أمي، اليوم أريد أن ألعب مع إيلي، هل يمكن ذلك؟”
حبست إيلي تنهيدةً رغماً عنها.
كانت لا تزال متعبة من أحداث الليلة الماضية، وكل ما أرادته هو العودة إلى غرفتها لتستريح.
لكن السيّدة بيلوت ربتت برفق على رأس ابنتها وهزّت رأسها نفيًا.
“إيلي ستذهب إلى شقيقك إينجل بعد الغداء.”
تجمّد قلب إيلي في صدرها عند سماع ذلك، وكأن شيئًا ثقيلاً سقط داخله.
لكنّ الذي سقط في الواقع كان الشوكة التي كانت تمسكها.
أسرعت تبحث تحت الطاولة بخجلٍ وارتباك، لكن السيّد بيلوت أشار بيده للخدم كي يتركوها.
فتقدّم أحدهم وقدّم لها شوكة جديدة.
تورد وجه إيلي خجلًا، وأمسكت الشوكة الجديدة بخفوتٍ وخفضت رأسها.
“إيلي، أنا أتفهم أن ما حدث الليلة الماضية ربما أخافك، لكن بفضلكِ، استيقظ إينجل عند الفجر. صحيح أنه عاد للنوم بعدها بقليل، لكني أودّ أن تزوريه أحيانًا لتغنّي له تلك الأغاني الجميلة.”
أومأ السيّد بيلوت موافقًا دون أن يتكلّم، فيما رمقتهم إيلي بنظراتٍ مذهولة.
لكن الزوجين تجاهلا وجهها المذعور وواصلا تناول طعامهما كأن شيئًا لم يكن.
ساد صمتٌ ثقيل على المائدة، ولم يقطعه سوى صوت غريس المفعم بالبهجة وهي تسأل أمها بحماس إن كان شقيقها قد استيقظ حقًا.
***
بعد انتهاء الوجبة، تبعت إيلي السيّدة بيلوت مجددًا إلى تلك الغرفة.
كان الصبيّ لا يزال ممدّدًا على السرير في الوضع نفسه.
أمسكت السيّدة بيلوت بمعصم إيلي واقتادتها إلى جوار السرير، وبنظرة صامتة من الأعلى، دفعتها برفق لتجثو على ركبتيها.
كان لون وجه إينجل أفضل من الليلة الماضية.
يتنفّس بصعوبة وهو نائم، لم يعد يبدو كجثة، لكنّ صورة مظهره المخيف بالأمس لم تفارق ذهن إيلي، فشعرت بقشعريرة تسري في جسدها.
“لن أُزعجكما.”
قالت السيّدة بيلوت تلك الجملة وغادرت الغرفة مع الخادمات، تاركةً إيلي وحدها مع الصبيّ والنّسمة الباردة التي ملأت الصمت.
ترددت إيلي في النظر إليه، وفكّرت أن تكتفي بالجلوس حتى ينقضي الوقت وتغادر،
لكنّ فكرة أن السيّدة بيلوت قد تكون تستمع من خلف الباب جعلتها تقرّر أن تغنّي بضع أغنيات ثم ترحل بسرعة.
ترددت لحظة ثم رتّبت صوتها وبدأت بالغناء، دون أن ترفع نظرها عن الأرض.
كانت ترتجف في البداية، لكن بعد انتهاء الأغنية الأولى، بدأ الخوف يخفت مع اعتيادها الجوّ الكئيب.
غير أن إحساسًا غريبًا ظلّ يزحف على ذراعيها، كأن الهواء نفسه يبرد ويلامس جلدها، فبقيت أعصابها مشدودة لا تهدأ.
مدفوعة برغبة في التمسك بأيّ شيء يبعث على الطمأنينة، شبكت إيلي يديها بإحكام فوق السرير كما لو كانت تصلي.
أغمضت عينيها وبدأت تتمتم بكلمات ترنيمة باهتة تتلمّسها من ذاكرتها.
لكن فجأة، أحسّت بيدٍ تمسك بيديها بقوة. عضّت شفتيها كي تكتم صرختها، وقد تجمّد جسدها من الذعر.
حين التفت برأسها ببطء نحو السرير، رأت إينجل يدير رأسه هو الآخر وينظر إليها.
عيناه نصف المفتوحتين، الغائمتان، كانتا تحدّقان مباشرةً في إيلي.
تجمّدت حركتها كليًّا وكأن الزمن توقّف. قبض إينجل على يدها بإحكام. ارتجف جسدها وهي تقاوم رغبة عارمة في الصراخ.
ثم سرعان ما أغمض عينيه من جديد.
سحبت إيلي يدها بعنف من قبضته اللاصقة مثل العلّاقة، فسقطت يده مترهلة على السرير.
***
حين كانت إيلي، وهي ترتجف من الخوف، قد أنهت إنشاد خمس تراتيل على عجل، دخلت السيدة بيلوت الغرفة.
نهضت إيلي واقفةً من فرط ارتياحها، إذ شعرت وكأنها كانت محبوسة في غرفة مع كلب شرس.
ذلك الفتى الراقد هناك، لا أحد يعلم متى سيموت أو متى سيفتح عينيه مجددًا ليمسك يدها من جديد.
كانت تغنّي بجانبه بصوت منخفض، والرهبة تسري في أوصالها.
اقتربت السيدة بيلوت برفقة الخادمات، تنظر إلى إيلي بنظرة باردة.
ربما أبدت إيلي فرحًا مفرطًا برؤيتها، أو ربما بدا على وجهها بوضوح أنها لا تريد البقاء قرب إينجل.
قابضَةً على طرف تنورتها، تكلّمت أخيرًا بصوتٍ متردّد:
“في منتصف التراتيل، فتح السيد إينجل عينيه… وأمسك بيدي.”
تلألأت عينا السيدة بيلوت المتجمّدتان فجأة ببريق حياة. ارتسمت على شفتيها المصبوغتين بالأحمر ابتسامةٌ عريضة.
“حقًّا؟ إذًا يبدو أن الله يعيننا منذ أن أخذناك تحت جناحنا.”
ثم جلست على عجل بجانب السرير تتفقد ابنها.
مسحت وجهه بمنديل ورفعت خصلة شعر غطّت جبينه.
أما إيلي فكانت واقفة على مسافة قصيرة منها، تراقبها بارتباك وهي ترى حنان الأم يفيض منها.
قبّلت السيدة بيلوت يد ابنها مرارًا ثم التفتت إلى إحدى الخادمات قائلة:
“خذي إيلي إلى غرفة غريس. لقد بذلت مجهودًا كبيرًا اليوم.”
***
كانت إيلي واقفة بلا حراك داخل غرفة غريس، التي بادرت إليها بودّ وسحبتها لتجلس على أريكة وثيرة.
تأمّلت إيلي المكان بنظرات مذهولة.
لم يكن هناك وجه مقارنة بين هذه الغرفة وغرفتها هي — كانت هذه أشبه بقصرٍ صغير، مزخرف ومترفٍ على نحو مبهر.
تذكّرت كيف كان أربعون طفلًا من دار الأيتام ينامون متلاصقين في مساحة بحجم غرفة غريس هذه، فشعرت بغضب مكتوم وغيرة لاذعة تتصاعد داخلها.
على منضدة الزينة المقابلة كانت الجواهر والعقود الذهبية تملأ المكان، وفي الخزانة التي غطّت جدارا كاملاً تراكمت الثياب الفاخرة والحُلِيّ التي لا تخص إلا غريس وحدها.
أما على السرير والأريكة فكانت ألعابٌ أنيقة الصنع، من الواضح أنّ صانعًا ماهرًا استخدم أفخر المواد لصناعتها.
وامتزج في الجو عبق الحلوى والكعك والعطور، حتى بدا المكان يغوص في حلاوةٍ خانقة.
نهضت غريس فجأة، بعد أن لاحظت نظرات إيلي المتجولة في الغرفة، اتجهت إلى منضدة الزينة وفتحت صندوق المجوهرات دون تردد، ثم أخرجت عقدًا وقدّمته لإيلي.
“أتمنى أن تتقبّليه دون حرج. على أيّ حال، هذا العقد الغليظ لا يناسبني كثيرًا… ربما لأن عنقي قصير.
أما عنقكِ فأطول وأنحف كعنق الغزال، لذا أظنّ أنّ هذا العقد وجدَ صاحبته الحقيقية.”
حدّقت إيلي في العقد الممدود أمامها بذهول.
لم يكن عنق غريس قصيرًا أبدًا، بل أجمل وأنعم من عنقها هي.
ذلك التعاطف المصطنع، الذي يُراد منه تخفيف حرجها، أثار في إيلي شيئًا من الضيق.
غريس، التي وُلدت وفي يديها كل هذه الترفات، كانت تمنحها الآن ببساطةٍ كما لو كان الأمر عاديًا.
تلك اللامبالاة الثرية، وذلك الكرم الخفيف، كانا من الأشياء التي لم تمتلكها إيلي يومًا.
وبينما كانت إيلي تنكمش داخل نفسها من مشاعر البؤس والمهانة، استمرّت غريس في الابتسام ببراءة، غير مدركةٍ لأيّ من تلك العواصف التي تموج في صدرها.
ذلك النقاء الطفولي جعل صدر إيلي يضيق، وكأنها تختنق من الغيظ.
لكنها كانت تعلم أن رفض الهدية بدافع الكبرياء سيكون تصرفًا أحمق.
“شكرًا لكِ.”
قالتها بهدوء وهي تأخذ العقد.
ابتسمت غريس بفرحٍ واضح، وسرعان ما نهضت من جديد واتجهت بخفة إلى مكتبها،
ثم عادت تحمل كتابًا سميك الغلاف وقالت بحماس
“لا تتخيّلين كم كنت سعيدة عندما علمت من أبي أنني سأحصل على رفيقة حديث!
لذا قرّرت أن نقرأ معًا كتابي المفضل حين تأتين. هل يروقك ذلك؟”
أومأت إيلي بصمت، فجلست غريس إلى جوارها ولصقت كتفها بكتفها،
ثم فتحت الكتاب ووضعته بين ركبتيهما، مائلةً إياه لتسهّل على إيلي القراءة.
لكن حين وقعت عينا إيلي على الصفحة، لم ترَ سوى كلماتٍ تتراقص في فوضى.
الكثير من المفردات الغريبة والتراكيب المعقدة جعلت رأسها يدور.
انتظرت غريس بصبر حتى تنتهي إيلي من الصفحة، ثم تمتمت بنبرةٍ طفولية متذمّرة:
“القراءة الصامتة مملة فعلًا. هل تسمحين أن أقرأ بصوتٍ عالٍ بدلًا منكِ؟”
في تلك اللحظة، أدركت إيلي أن جهلها انكشف.
احمرّت أذناها وعيناها بحرارة الخجل والإهانة.
تظاهرت غريس بعدم الملاحظة، وأخذت الكتاب تقرأ بصوتٍ صافٍ جميل.
لكن كلماتها لم تجد طريقها إلى أذنَي إيلي؛ لم تسمع شيئًا سوى رغبتها الجامحة في مغادرة الغرفة.
ولو كانت غريس مجرد فتاة مدلّلة لا ترى أحدًا سواها،
لربما استطاعت إيلي أن تجد لنفسها عزاءً في السخرية منها.
لكن غريس كانت جميلة وذكية، لطيفة وكريمة، ومتعلمة خير تعليم.
وهذا الفارق بينهما ظلّ ينهش قلب إيلي بلا رحمة.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 3"