حاول أن يرفع جسده بقوة ليجلس، لكن إيلي أسرعت بالكلام وهي تنظر إليه
“أنا إيلي سيرز. سررت بلقائك.”
ثم أغلقت باب العربة بعنف.
لم يكن في قلب إيلي سوى الاشمئزاز.
ذلك الجهد الذي بذله لينهض كي يراها بوضوح، ومحاولته أن يتصرّف بأدب رغم مرضه، بدت لها نفاقًا ومظهرًا من مظاهر الترف، فترسّخ في داخلها شعور بالاشمئزاز.
كانت إيلي تكره ما يُسمّى بـ الذوق في سلوك الأغنياء.
كانت ترغب في تقليد أناقتهم الطبيعية واتّزانهم، لكنها كانت تغار منهم حدَّ الرفض، فكان قلبها الفقير يسخر من تصنّعهم ويحتقره.
والأسوأ أن ذلك الفتى كان في عمرها تقريبًا.
لماذا يملك هو ما لم تستطع هي امتلاكه؟
أرادت إيلي أن تهرب بسرعة من المكان، فاستدارت وركضت عائدة إلى دار الأيتام بأقصى ما تملك من سرعة.
***
قالت المديرة:
“إيلي سيرز، إنها فرصة عظيمة. قد لا تأتي مثلها مرة أخرى في حياتك. الذهاب إلى بيتٍ من بيوت النبلاء ليس كخادمة، بل لتكوني رفيقة لابنتهم! هذا شرف كبير.”
كانت إيلي تقف أمامها مترددة، ثم أومأت بخفة.
السيدة بيلوت كانت قد غادرت بعربتها الكبيرة بعد أن قالت إنها ستعود غدًا لأخذ إيلي، أما المديرة فكانت توبخها على عدم حماسها للأمر.
وبينما كانت إيلي تُصغي لتوبيخها بصمت، كانت تحدّق في فنجان الشاي الذي لم تمسّه السيدة بيلوت.
كانت متأكدة أنها لم ترفعه إلى فمها أصلًا، إذ اعتبرت ظروف دار الأيتام قذرة بطبيعتها.
قالت المديرة بحدة
“هل تسمعينني؟”
انتفضت إيلي ونظرت إليها.
المديرة غريفين كانت تجلس متجهمة، ثم أطلقت تنهيدة طويلة.
أخذت إيلي تعيد كلماتها في ذهنها بسرعة، لتشعر فجأة بالخوف.
لقد استغرقت ثلاث سنوات لتعتاد على الحياة في دار الأيتام، والآن عليها أن تغادر مجددًا؟
لتصبح رفيقة فتاة من النبلاء لا تعرفها حتى؟
كانت تعلم أن رفيقة الحديث ليست سوى خادمةٍ مكرَّسة لشخصٍ واحد.
حتى وهي في الثالثة عشرة فقط، كانت تفهم ذلك جيدًا.
لم تتلقَّ تعليمًا حقيقيًا، ولا تعرف من الأدب شيئًا، فهل ستستطيع أن تلاطف ابنة النبلاء وتتحدث معها دون أن تُهين نفسها؟
لم تكن واثقة من ذلك، وكانت متأكدة أنها ستكون موضع سخرية هناك.
راودها خاطر أن تتوسّل للمديرة كي ترسل فتاة أخرى بدلًا منها، لكنّها نظرت إليها بعين باردة ثم لوّحت بيدها قائلة:
“اخرجي. حضّري أمتعتك وغادري غدًا.”
استدارت إيلي وغادرت بخطوات سريعة.
الطاعة للمديرة غريفن كانت عادةً منقوشة في عظامها.
عادت إلى غرفة النوم المشتركة وهي تحمل في قلبها الغضب، وبدأت تضع القليل الذي تملكه في حقيبتها.
كان كل ما تملكه هو مشطٌ مكسور أخذته من منزلها القديم، وثوبٌ صغير بالٍ كانت ترتديه يوم جاءت إلى دار القديس هوغن، ودمية قماشية رديئة الصنع.
***
في اليوم التالي، أُقيمت حفلة وداع بسيطة لإيلي.
لم يكن أحد في الحقيقة يرغب في تهنئتها، لكنهم أدّوا الطقوس على مضض احترامًا لاسم عائلة بيلوت.
حملت إيلي حقيبتها الصغيرة وصعدت إلى العربة.
قيل لها إن السيدة بيلوت لم تستطع المجيء لأنها منشغلة بتمريض ابنها، وشعرت إيلي بالارتياح.
لو اضطرت لقضاء الرحلة كلها وحدها مع تلك السيدة، لكانت جنّت من التوتر.
قال السائق إنه سيتوجه مباشرة إلى مقاطعة بيلوت، أرض هيفنلي هيل، ونصحها أن تغفو قليلًا في الطريق، ثم صعد إلى مقعد القيادة.
جلست إيلي مستقيمة الظهر وهي واعية أنها تركب عربة لأول مرة في حياتها.
رغم أنه لا أحد يراقبها، كانت تتصرف وكأن أحدًا قد يكتشف ذلك، فكانت تضبط جلستها بعناية.
بدأت العربة تهتزّ وتتحرك.
اهتزّ جسد إيلي بعنف، لكنها شدّت عضلات ساقيها كي لا تسقط.
شعرت بألم في ظهرها، فأسندت جسدها بحذر إلى المقعد المبطّن، لتجتاحها موجة من الإرهاق.
أغمضت عينيها بإحكام.
كان قلبها يعتصرها قلقًا من المجهول، ورأسها يضجّ بالتوتر حتى شعرت أنه فارغ تمامًا.
أسندت وجهها إلى جدار العربة ببطء، وكانت تشعر بضربات قلبها المضطربة عند كل نفسٍ تأخذه.
***
فجأة فتحت عينيها.
كان المساء قد حلّ، وسمعت أصوات الناس يتحدثون خارج العربة التي توقفت.
لابد أنها غفت دون أن تشعر.
وقبل أن تقرر ما إذا كانت ستنزل، فُتح الباب بقوة.
رجلٌ في منتصف العمر، ذو بنية قوية، كان يقف ممسكًا بمصباح يدوي.
قال وهو يسلّط الضوء على وجهها:
“هل أنتِ إيلي سيرز؟”
أومأت إيلي بخوفٍ، وقد انكمش كتفاها.
مدّ الرجل يده ليساعدها على النزول من العربة.
“مرحبًا بكِ.”
رفعت إيلي رأسها لتنظر حولها.
خدمٌ شاحبون، والسائق يقف بجانب العربة بوجهٍ متوتر، والرجل صاحب المصباح يتحدث بجدٍّ مع الخدم بوجهٍ متجهم.
وخلفهم جميعًا، كان قصر هيفنلي هيل يقف شامخًا، يطلّ عليهم بهيبته الساحقة.
تركها الجميع أمام العربة بينما واصلوا حديثهم القصير، ثم لوّح الرجل بيده واقترب منها.
قال بنبرةٍ مرهقة:
“آسف يا إيلي إن لم نُحسن استقبالك. إينجل في حالة حرجة مجددًا. يبدو أن رحلة الأمس كانت مرهقةً له كثيرًا. لم يكن عليّ أن أصطحبه معي… السيدة الآن تلازمه في غرفته، وغريس ترفع الدعاء له بإخلاص.”
كان يتحدث بسرعة بصوتٍ شارد، وهو يمسح جبينه بيده.
كانت إيلي تراقبه بقلق، آملةً أن يخبرها بما سيحدث لها الآن.
ثم لاحظت سترته المخملية، وأزرارها المذهّبة بنقوشٍ دقيقة، وبشرته الممتلئة التي توحي بحياة الرفاه.
حينها فقط أدركت أن هذا الرجل هو السيد بيلوت نفسه، ربّ قصر هيفنلي هيل.
وقف لحظة صامتًا، ثم تقدّم بخطواتٍ ثابتة نحو القصر، فتبعته إيلي مترددة وهي تضم حقيبتها الصغيرة إلى صدرها.
كلّما تقدّمت إيلي أكثر داخل القصر، لم تستطع أن تمنع فمها من الانفتاح ذهولًا.
كان البهو الواسع أكبر حجمًا من جميع مرافق ميتم سانت هوغن مجتمعة، وكانت الأثاثات الفخمة ذات الطراز القديم مصطفّة في كلّ مكان، تبدو ثمينة ومهيبة.
الشموع كانت تحترق بسخاء دون اكتراث لكلفتها، والخدم ذوو الوجوه الجامدة يرتدون زيًّا نظيفًا وأنيقًا بينما يسيرون بخطوات منضبطة، حاملين صواني فضية فوقها أقمشة كتانٍ بيضاء وماء صافٍ.
كانت إيلي مأخوذة بجمال القصر المهيب حين توقّف السيد بيلوت فجأة، فتلعثمت وتوقفت هي أيضًا بخطواتٍ مرتبكة.
كان السيد بيلوت يحدّق بتوتر في الباب الضخم أمامه، ويتمتم بكلماتٍ غير واضحة، وحين أصغت إيلي بانتباه أدركت أنها آية من الكتاب المقدّس.
رفع السيد بيلوت يده ببطء، أمسك بمقبض الباب وفتحه.
اندفع هواء مشبع برائحة الأعشاب الطبية نحو وجهها، ومع بضع شموعٍ مضاءة فقط، ظهر أمامهما مشهد الغرفة الخافتة.
كان على السرير الكبير – الذي يسع ثلاثة أطفال بسهولة – يرقد صبيّ واحد فقط.
حول السرير جلست زوجة بيلوت وعدة خادمات على الأرض راكعاتٍ على ركبهنّ، والدخان الناتج عن احتراق الأعشاب تماوج في الهواء.
أما الطبيب، فكان واقفًا قرب النافذة بعينين شاردتين ونظرة يائسة.
“يا إلهي، يا عزيزي!”
قالت السيدة بيلوت وهي تمسح دموعها بمنديلها وتتقدّم نحوهما. كان وجهها يمتلئ بالدموع والعرق.
بدأت تشرح لزوجها الموقف بلهجةٍ مرتبكة، ثم فجأة التفتت إلى الفتاة الصغيرة الواقفة خلفه.
وما إن أدركت من تكون حتى تغيّرت نظراتها على نحوٍ غريب.
ظنّت إيلي أنّ السيدة بيلوت ستلقي عليها تحيّةً على الأقل، غير أنّ الأخيرة أمسكت بكتفي إيلي بعنفٍ غير متوقّع، وجذبتها نحو السرير كأنها سلحفاة تسحب رقبتها إلى الداخل.
حاولت إيلي المقاومة وهي تُجرّ، فألقت بنظرة استغاثة نحو السيد بيلوت، لكنه وقف جامدًا بوجهٍ باردٍ يراقبها دون أن يتحرّك.
دفعت السيدة بيلوت إيلي لتجثو على ركبتيها بجانب السرير.
الصبي الذي رأته في العربة بالأمس كان ممدّدًا هناك بوجهٍ شاحبٍ بلا أنفاس.
بدت ملامحه خالية من الحياة، وكأنّ روحه قد غادرت جسده، كجسدٍ ميتٍ حديث الوفاة.
ارتعد جسد إيلي من رأسها حتى قدميها.
صرخت غريزيًا محاولةً الهرب، لكن السيدة بيلوت والخادمات كبحنها وضغطن جسدها إلى الأسفل، وكلّما قاومت أكثر اقتربت من السرير أكثر.
كانت رائحة الموت تفوح من الصبي، وظلال الشموع تتراقص على وجهه رغم سكون الهواء.
انفجرت إيلي بالبكاء وأدارت وجهها بعيدًا حتى لا ترى ملامحه، فقد بدت لها كوجه شيطانٍ مرعبٍ يقود البشر إلى الهلاك.
لكن يد السيدة بيلوت الباردة أمسكت بذقنها وأجبرتها على النظر إليه.
“غنّي لابننا إينجل.”
خرج صوت السيدة بيلوت من بين أسنانها مرتجفًا لكنه آمر، فهزّت إيلي رأسها رافضة وهي تتلوّى.
انحنت خادمة أخرى وأمسكت بكاحليها، فيما ضغطت يدٌ أخرى على مؤخرة رأسها لتقريب وجهها من الصبي أكثر.
“غنّي له الأغنية نفسها التي غنيتِها لي أمس… عن نعمة الرب.”
حاولت السيدة بيلوت أن تبدو متماسكة، لكن صوتها كان يرتجف بيأسٍ واضح.
كانت امرأةً تتشبّث بأيّ خرافة قد تعيد الحياة لابنها المحتضر.
إيلي المذعورة تمسّكت بملاءة السرير، محاولةً الابتعاد قدر الإمكان.
لكنّ حدسًا خافتًا أخبرها أن كلّ هذا لن ينتهي إلا إذا فعلت ما يريدونه منها.
رفعت السيدة بيلوت يد إيلي الموضوعة على الملاءة، ووضعتها فوق يد الصبي.
كانت يده باردة ورطبة، فخطر ببال إيلي مشهد يد جدّها الميت الغارقة في جدول الماء، فصرخت محاولةً سحب يدها، لكن السيدة بيلوت ضغطت كفها فوقها لتمنعها من الفرار.
“تابعي الغناء.”
أمرت السيدة بيلوت بنبرةٍ صارمة، فيما كانت إيلي ترتجف حتى كادت تفقد الوعي.
بعد أن جعلتها تغني عدّة ترانيمٍ أخرى عن الرب، أطلقتها أخيرًا.
سقطت إيلي على الأرض منهارة، ترتجف بلا قوّة، بينما استدعت السيدة بيلوت إحدى الخادمات لتأخذها دون أن تنظر إليها حتى.
سارت إيلي بخطواتٍ متعثّرة خلف الخادمة نحو غرفتها المخصّصة في الجناح الغربي.
غسلت وجهها بالماء الذي جُلب لها بصعوبة، ثم ارتمت على السرير وغرقت في نومٍ عميق كالمغمى عليها.
***
استفاقت إيلي على صوت طرقٍ على الباب.
راودها أملٌ بأن ما حدث كان مجرد حلم، لكنّ الأمل تحطّم ما إن فتحت عينيها على المشهد المألوف.
جلست في سريرها ببطء، وعاد الطرق المتوتّر والمنتظم يتردّد من جديد، فنهضت بسرعة لتتفقد مظهرها.
كانت ترتدي الفستان القديم الوحيد الذي تملكه، مجعّدًا من أثر نومها فيه، وشعرها فوضوي من شدّ الأيدي عليه بالأمس.
تكرّر الطرق بصبرٍ مرتين، ثم انفتح الباب فجأة.
دخلت خادمة بوجهٍ بارد، تحمل ثيابًا نظيفة ووعاء ماء.
“كنتِ مستيقظة إذن.”
قالت بنبرةٍ تحمل توبيخًا خفيًا، فخفضت إيلي رأسها بخضوع.
نظرت إليها الخادمة قليلًا، ثم ساعدتها على ترتيب هيئتها.
بينما كانت تلمس جسد إيلي بخفّةٍ وهي تلبسها الثياب البيضاء الناعمة، كانت إيلي مذهولة مما يجري حولها – المكان الغريب، الأشخاص الغرباء، وأحداث الليلة الماضية التي بدت ككابوسٍ حقيقي.
نظرت إلى ذيل الفستان الجديد الذي انساب بغزارة حول قدميها، وغمرها شعورٌ غريب.
لم ترتدِ مثل هذا الثوب طوال حياتها، ولم تتخيل يومًا أنها قد ترتديه.
بدأت الخادمة تمشط شعرها وتجدله بإحكام.
شعرت إيلي برغبةٍ في النظر إلى المرآة، لكن خوفها من نظرات الخادمة جعلها تكتفي بنظرةٍ خاطفة في اتجاهها.
وبينما كانت الخادمة تتفقد مظهرها قالت بهدوء
“السيد والسيدة ينتظرانك مع الآنسة لتناول الغداء معًا.”
رفعت إيلي رأسها بسرعة، مذهولةً من كلامها.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
التعليقات لهذا الفصل " 2"