راقب إينجل نظرات إيلي مباشرة.
ابتسمت إيلي ابتسامة خفيفة نحو غريس التي كانت تبحث عن موافقتها قائلةً: “أليس كذلك؟”، ثم تابعت تناول طعامها بصمت.
ظنّت السيدة بيلوت أن ملامح الارتباك على وجه ابنها ما هي إلا خجل، فضحكت بسرور وقالت:
“إذن يمكننا دعوة أسرة أوستر أيضًا.”
“دعوتهم؟”
سأل إينجل بوجهٍ بليد، فهزّت غريس رأسها بحماس وهي تشرح له بعينين يملؤهما الترقّب
“والدي سيقيم مأدبة صغيرة احتفالاً بعودتك إلى المنزل، وكنا نتحدث عن دعوة أصدقائك من المدرسة إليها.”
نظر إينجل مجددًا إلى والديه. كان يبدو أن كليهما يتشاركان الترقّب ذاته.
وبالأخص السيدة بيلوت، التي راحت تستعيد ذكريات صديقاتٍ قديماتٍ انقطعت صلتهن بها أثناء فترة تمريضها لابنها، فبدت في مزاجٍ مبتهج.
لقد مرّ وقتٌ طويل منذ فُتحت قاعة الرقص الضخمة والمهيبة في قصر هيفنلي هيل.
كانت السيدة بيلوت متحمسة وهي تتخيل أصدقاء إينجل النبلاء، وربما حتى رؤية روزاليند — الفتاة التي قد تكون شريكته المثالية في المستقبل.
لكن إينجل ظلّ متوتّر الملامح، وصوته يشي بشيءٍ من الكآبة حين تساءل دون وعي منه
“وماذا عن إيلي؟”
راود إينجل قلقٌ مفاجئ من فكرة أن تلتقي إيلي بعددٍ كبير من الرجال في الحفل.
كان من شبه المستحيل ألا يوجد بينهم من يُعجب بها أو من تُبدي هي نحوه شيئًا من الاهتمام.
وفجأة شعر بأن إيلي، التي كانت ترفع الشوكة إلى فمها، قد توقفت ونظرت نحوه.
ارتجفت شفتاها وكأنها جُرحت، ثم أطرقت ببصرها نحو الأسفل وقد غمر وجهها شعورٌ بالخيانة.
تمكّن إينجل في لحظةٍ من قراءة ما في قلبها — كانت تعتقد أنه يرسم بينها وبينه حدًّا فاصلاً.
تردّد إينجل محاولاً أن يبرّر نفسه، ثم تراجع. لم يكن بوسعه أن يخاطر.
رفع نظره برجاءٍ نحو والده.
لكن السيد بيلوت قال بلهجةٍ حاسمة وواثقة:
“إيلي ستحضر الحفل معنا.”
تطلع إينجل إلى السيدة بيلوت، لكنها بدورها أومأت برفق.
لقد رأت العائلة أن الوقت قد حان لتُقدَّم إيلي إلى الآخرين بصفتها صديقة غريس،
ولم يكن هناك مكان أنسب لذلك من قصر بيلوت نفسه، حيث سيُقام الحفل.
وفضلاً عن ذلك، فكّرت السيدة بيلوت بأن إيلي ستغادر هيفنلي هيل يومًا ما لتكوّن أسرتها الخاصة، وربما يكون هذا الحفل فرصةً لتتعرف على الرجل المناسب.
قالت غريس بفرحٍ غامر وهي تمسك بيد إيلي:
“إذن ستكون هذه أولى حفلاتك في المجتمع الراقي، أليس كذلك؟”
كانت السيدة بيلوت على وشك أن تقول إن استخدام كلمة ظهور اجتماعي مبالغٌ فيه،
لكنها لم ترد أن تُفسد الأجواء، فاكتفت بهزّ رأسها بالموافقة.
صرخت غريس مبتهجة وهي تعانق ذراع إيلي برقة ودلال، فاكتفت إيلي بابتسامةٍ متكلّفة.
أما إينجل، فقد حاول إخفاء ارتباكه بينما يُفكّر في طريقةٍ يتصرّف بها.
وبعد لحظةٍ خطرت له فكرة، فعدل جلسته وقال:
“إذن، هل يمكنني أن أرافق إيلي في الحفل؟”
تجمّد الجميع، بمن فيهم إيلي، ونظروا إليه بدهشة.
مرّت لحظة من الشكّ على وجهَي السيد والسيدة بيلوت.
تابع إينجل ببرودٍ وهو يقطع عظم السمان المشوي بسكينه:
“سيكون الحفل الأول بالنسبة لإيلي، وقد يكون مرهقًا لها.
ثم إن هايدن أوستر لا يكفّ عن التفاخر بأنه رافق شقيقته في أول ظهورٍ اجتماعي لها… أنا أموت من الغيرة.
لكن غريس، للأسف، ظهرت لأول مرة من دوني…”
أرخى كتفيه ويده الممسكة بالسكين، ثم أضاف:
“كما تعلمان، لم أستطع العودة إلى المنزل طوال ثلاث سنوات.”
قالها بمهارةٍ تُثير إحساسًا بالذنب لدى والديه.
“إيلي بالنسبة إليّ كأخت صغيرة، لذا إن قبلت أن أرافقها، فسأكون ممتنًا لذلك.”
ساد الصمت للحظةٍ بعد كلماته.
نظرت إيلي إليه بوجهٍ مرتبك، غير قادرةٍ على فهم سبب تصرّفه، فالتفت هو بدوره نحوها، وبدا في عينيه الجادتين طلبٌ ضمنيٌّ للموافقة.
لكن إيلي تجاهلت نظرته وحوّلت بصرها نحو السيد والسيدة بيلوت.
كانا يفكّران في كلام ابنهما مليًّا.
ثم خطرت لهما فكرة —
ربما كان إينجل قد خلط بين المودة الأخوية ومشاعر الحب في وقتٍ ما.
فهو ما زال صغير، مراهق، يفتقر إلى النضج في أحكامه، وفوق ذلك لم تكن هناك فتيات حوله آنذاك، فليس غريبًا أن يكون قد التبس عليه الأمر.
بل شعرا بالارتياح لأنه أدرك الحقيقة الآن،
فتبادلا النظرات وهزّا رأسيهما موافقَين.
قال السيد بيلوت:
“فكرة جيدة. رافقها أنت يا إينجل.”
وكما هو الحال دائمًا، لم يُؤخذ برأي إيلي مطلقًا.
في الماضي، كان إينجل سينزعج من هذا الموقف، ويسأل عن رأيها بنفسه، أما الآن فقد بدا مرتاحًا وهو يعيد تناول طعامه بوجهٍ راضٍ.
أما إيلي، التي شعرت وكأنهم يعاملونها كدميةٍ بلا مشاعر ولا رأي، فوضعت شوكتها على الطاولة بامتعاض.
غمزتها غريس وهمست وهي تدغدغها بمرفقها:
“إيلي، إنه أول حفل نشارك فيه سويًّا! أنتِ متحمسة جدًا، أليس كذلك؟ بعد ظهوركِ الاجتماعي ستصبحين راشدة بحقّ، وهذا يعني أنكِ قد تلتقين برجلٍ رائع، وتتزوجين، وتنجبين أطفالاً…”
ثم ضحكت غريس بخفّةٍ وهي تهمس تلك الكلمات بمزاحٍ طفولي.
يبدو أنّ الشخص الوحيد الذي لم يكن في مزاجٍ جيّد هو إيلي.
***
ما إن تقرّر إقامة الحفل حتى شرع السيد والسيدة بيلوت في كتابة بطاقات الدعوة على عجل.
وقاما غريس وإينجل أيضًا بتحديد الأشخاص الذين سيُدعون وتسليم القائمة إلى والديهما.
أدرج إينجل اسم هايدن أوستر في قائمة الدعوات، لكنه تمنى في قرارة نفسه ألّا يُحضر شقيقته معه.
فروزاليند، التي كانت تصغر غريس وإيلي بعامٍ واحد، لم تكن تكفّ عن الدوران حوله بشكلٍ مزعج.
كانت روزاليند واحدة من الفتيات اللواتي يُعجبن بإينجل، وبفضل كون شقيقها أقرب أصدقائه، استطاعت التعبير عن إعجابها نحوه دون حرج.
وفوق ذلك، كان هايدن يستمتع بإحراج إينجل، ويمازحه علنًا متمنيًا أن تتوطّد علاقته بأخته روزاليند.
قطّب إينجل جبينه بملامح منزعجة، وقرّر أن يُبعد عن رأسه تلك الأفكار.
بعد خروجه من غرفته، اقترح على الفتاتين اللتين كانتا تقتلان الوقت في غرفة غريس أن يذهبوا جميعًا لركوب الخيل.
قال إن الجوّ جميل، وإنه سيكون من الرائع القيام بجولة حتى بيت القسّ.
تحمّست غريس للفكرة وبدأت تتحضّر على الفور.
وقف إينجل عند النافذة ينتظر، فتحها وأطلّ برأسه ليرى الإسطبل.
ثم حرّك نظره ببطء نحو سقف بيت القس أحمر اللون.
كان يخطّط لرؤية فين، ابن القيّم على إسطبل بيت القس، في الوقت نفسه.
وبعد أن انتهت إيلي من استعدادها، خرج الثلاثة من القصر متوجهين نحو الإسطبل.
تعلّقت غريس بذراع إينجل كما جرت العادة، بينما كانت إيلي تمشي خلفهما بخطًى بطيئة.
عندها أبطأ الاثنان سرعتهما حتى تلحق بهما، فحاولت إيلي أن تتقدّم لتسير بجوار غريس.
لكن إينجل قال بصوتٍ واضح موجّهٍ إليها:
“إيلي، تعالي إلى هذا الجانب.”
ومدّ ذراعه الخالية نحوها بشكلٍ صريح، فاضطرّت إيلي إلى تشبيك ذراعها بذراعه والسير إلى جانبه.
راح إينجل يتحدث بمرحٍ عن جمال الطقس وغير ذلك من الأحاديث العشوائية،
بينما كانت إيلي تردّ عليه بهدوء، محاوِلةً ألّا تُفكر في يدها التي تمسك بذراعه.
بسبب سير إينجل البطيء جدًا، وصل الثلاثة إلى الإسطبل أبطأ من المعتاد.
وحين شعر القيّم على الإسطبل، السيد مارشال، بقدومهم، هرع لاستقبال إينجل وهو يصيح بفرح:
“يا سيدي الشاب! يا لها من مدة طويلة! أصبحت أكثر وسامة وصحةً!”
صافحه إينجل — وكان قد فكّ ذراعه من غريس ليصافحه —
وردّ عليه بنبرةٍ ودودة وهو يسأله عن أحواله.
ضحك الجميع وتبادلوا الأحاديث بمرحٍ صاخب.
وفجأة فُتح باب الإسطبل بصوتٍ مفاجئ.
“من هناك؟”
خرج فين من الداخل بوجهٍ يوحي أنه استيقظ لتوّه من النوم، وتثاءب بوقاحة وهو ينظر إليهم.
تنهدت إيلي بخفة وهزّت رأسها وهي تراه بهذا الشكل، لكن إينجل، الذي لاحظ في تصرّفها هذا نوعًا من الألفة مع فين، شعر بالغليان في داخله.
تظاهر إينجل بالهدوء وسلّم على فين بتحيةٍ لطيفة.
كان فين يحدّق به بوجهٍ خالٍ من التعبير، ثم خفّض نظره فجأة ليرى يد إيلي ما زالت متشابكة بذراع إينجل.
قال فين بلباقة هذه المرّة:
“مرحبًا، أنا فين مارشال. أتعلم أعمال الإسطبل تحت إشراف والدي.”
كانت طريقته مختلفة تمامًا عمّا اعتادته غريس، مهذّبة وعادية، وهذا لم يُرضِ غريس بل جعلها تنفر منه أكثر.
انتهت التحية، وعمّ صمتٌ غريب.
تبادل الثلاثة — غريس، وإينجل، وفين — نظراتٍ حذرة دون أن ينطق أحدهم بكلمة.
كانت مواجهة صامتة مشحونة بالتوتّر.
شعرت إيلي بثقل الجوّ، فسحبت ذراعها من ذراع إينجل وقالت موجّهة كلامها إلى فين:
“سنركب الخيل إلى بيت القس.”
كانت محاولتها لتخفيف التوتر ناجحة جزئيًا،
فقد ارتسمت على وجه فين الجامد ابتسامةٌ ماكرة شيئًا فشيئًا وهو يقول:
“أحقًا؟ لو خيّرتني بين مرافقتكم إلى بيت القس أو القفز في النهر، لاخترت النهر!
تأكلين ثلاث قطع من فطائرهم هناك في كل مرة، ولهذا تزدادين وزنًا.”
احمرّ وجه إيلي غضبًا، ولكزته بقبضتها على ذراعه بضربة مسموعة.
كانت تعلم أن مزاحه لا يعرف وقتًا ولا مكانًا،
لكنها لم تتخيل قط أنه سيسخر منها بهذا الشكل أمام الآخرين.
نظرَت إليه بحدة وهي تلهث من الغضب، بينما هو يضحك بخفةٍ دون أن يشعر بالحرج.
رفع السيد مارشال كتفيه مبرّرًا بارتباك:
“إنهما مقربان جدًا من بعضهما، كما ترون.”
كاد إينجل يفقد أعصابه تمامًا من شدة الغيظ والغيرة، ولولا أن إيلي قالت بهدوء دون أن تلتفت نحوه:
“لننطلق الآن.”
لكان على الأرجح قد ضرب فين من فوره دون وعي.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"