في اليوم الذي عاد فيه إينجل، كان الجميع في قصر هيفنلي هيل يهرعون بانشغالٍ شديد.
الخدم حملوا أغطية السرير النظيفة والمجففة بعناية إلى غرفة إينجل، وراحوا يلمّعون الأثاث والأرضيات حتى تتلألأ، أو يسارعون إلى المطبخ المزدحم للمساعدة في الأعمال هناك.
كانت السيدة بيلوت تجوب القصر كمن يملك جسدين، تُصدر الأوامر وتتابع كل تفصيل. أما غريس والسيد بيلوت، فقد قادا العربة بأنفسهما للذهاب إلى المدرسة وإحضار إينجل.
أما إيلي، فكانت تجلس أمام البيانو بعقلٍ مشغولٍ وقلقٍ واضح، تعزف المفاتيح باضطراب.
فقد أمرتها السيدة بأن تعزف لحنًا جميلاً حين يعود إينجل، واعتبرت معلمة البيانو ليز أن هذه فرصة مناسبة لتُثبت مهارتها، فاختارت عمدًا مقطوعة صعبة ومعقدة لـ إيلي.
وعلى الرغم من أن مستوى إيلي تحسّن كثيرًا، إلا أنّ تلك المقطوعة كانت صعبة حتى على العازفين المتمرسين. لذلك، بدأت تتدرب عليها بشراسة مع ليز قبل شهرٍ من عودته، ولم تصل إلا مؤخرًا إلى مرحلة تستطيع فيها العزف دون تعثرٍ كبير.
كان هدفها أن تُخفي أخطاءها قدر المستطاع، لا أكثر.
وبينما الجميع يتحركون بنشاطٍ في كل مكان، شعرت إيلي بنظرات الخدم المصوَّبة نحوها.
كانوا ينظرون إليها بعدم رضا، وكأنهم لا يحتملون رؤيتها تقضي وقتها في العزف بينما هم منهمكون في العمل.
اعتادت إيلي تلك النظرات، فانكمشت على نفسها بخجل، محاوِلة أن تجعل جسدها أصغر ما يمكن.
لكنها سرعان ما نسيت أمر تلك النظرات والخواطر، حين أدركت أن عزفها في حالةٍ يرثى لها.
كان سيئًا لدرجةٍ جعلتها تشعر باليأس.
لذا قررت أن تكرّس كل ما تبقى من وقتها للتدرب بإصرارٍ أشد.
***
عندما استيقظت إيلي من تركيزها العميق أخيرًا، كانت السيدة بيلوت تناديها من مدخل غرفة الاستقبال بصوتٍ مرتفعٍ مستعجل.
أسرعت إيلي إليها، فاقتربت منها السيدة بوجهٍ متوردٍ من الانفعال، وأمسكت بيدها لتقودها نحو المدخل الرئيسي.
في البهو الواسع، كان الخدم مصطفّين في صفٍ مستقيم، وملامح الترقّب والفضول مرتسمة على وجوههم.
قالت السيدة ببساطة وهي تنظر نحو الباب
“سيصل إينجل قريبًا.”
ثم أمسكت إيلي ووقفت معها في مقدمة الصف.
أخذت تعدّل من ملابسها وتتنفس بعمق، بينما كانت إيلي تنظر حولها بحيرة، وتتحقق بسرعة من مظهرها.
انقبض صدرها بتوترٍ شديد، وبدأ قلبها يخفق بعنف.
لم تكن تدري هل هذا بسبب شوقها لرؤية إينجل مجددًا، أم بسبب خجلها من تصرفاتها السابقة معه.
راحت كفّاها تتعرّقان، وكلما مر الوقت ازداد توترها.
ثم ساد الاضطراب خارج المدخل، وسمع الجميع صوت السيد بيلوت يعلو بمرحٍ غير معتاد، يليه ضحك غريس.
نظرت السيدة بيلوت نحو الباب بعينين تلمعان ترقّبًا.
فتح كبير الخدم الباب، ودخل الثلاثة إلى الداخل.
كانت إيلي تحدّق بالأرض بشرود، ثم رفعت رأسها لتلتقي عيناها بعيني إينجل.
شعرت بالارتباك، فحوّلت نظرها بسرعة.
أما هو، فبدا غير مكترث، وتوجّه أولاً ليحيّي والدته.
قال مبتسمًا
“كيف حالكِ يا أمّاه؟”
فأجابته السيدة بانفعالٍ شديد
“أوه، بخيرٍ طبعًا، بخير… لكن، لم يمرّ يومٌ لم أشتقّ إليك فيه. لا تتصور كم حزنتُ حين غادرتَ بتلك السرعة في المرة الماضية. مرحبًا بك مجددًا، يا عزيزي. هل كان الطريق متعبًا؟ تبدو شاحبًا قليلاً…”
تحدثت السيدة بيلوت بوجهٍ يفيض حبًا وقلقًا، وكلماتها تخرج مرتبكة من شدّة التأثر.
ابتسم إينجل، ممسكًا بيديها بلطفٍ وهو يهزّ رأسه.
“أنا بخير يا أمّاه. فقط، أذناي ما زالتا تؤلماني قليلاً لأن غريس لم تتوقف عن الكلام طوال الطريق.”
ألقى إينجل نظرة مازحة نحو غريس الواقفة خلفه، فأطلقت الأخيرة ضحكة مرحة وهي تقول بصوتٍ عالٍ:
“لكن كان لديّ الكثير لأقوله!”
أما السيد بيلوت، فكان يراقب أبناءه بابتسامةٍ راضية.
بعد أن قبّل إينجل يد أمه، التفت إلى إيلي التي كانت تقف بجانبه.
انحنت إيلي قليلاً تحيةً له.
تحدث بنبرةٍ لطيفة:
“كيف حالك يا إيلي؟”
فأجابت بأدب وهي تحاول أن تُبقي صوتها هادئًا:
“بفضل الرب، أنا بأحسن حال.”
لكنها ما إن أنهت عبارتها حتى أدركت أنها بدت وكأنها تسخر، فشعرت بالحرج الشديد.
وبحركةٍ لا إرادية، رفعت رأسها بسرعة لتقرأ تعبير وجهه.
كان أطول منها برأسٍ كامل على الأقل.
بدت الدهشة على وجه إينجل حين التقت عيناه بعينيها، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه، وردّ بابتسامةٍ ودودة:
“حقًا؟ هذا جيد. يسعدني أنكِ بخير. لقد أصبحتِ جميلة فعلاً، أنتِ وغريس كلتاكما.”
أومأت إيلي إيماءة خفيفة، ثم التفتت نحو السيدة بيلوت لتقرأ ملامحها.
غير أن السيدة لم تُظهر أي شكوكٍ أو انزعاجٍ بينهما كما في الماضي، بل كان وجهها مليئًا فقط بالفرح لرؤية ابنها.
حين أدركت إيلي ذلك، شعرت بالاطمئنان، وأعادت نظرها إلى إينجل وابتسمت له بأدب.
وفي تلك اللحظة، ومضت في عينيه نظرة حادة ومألوفة، تشبه تلك التي كانت تحملها عيناه في الماضي… ثم اختفت سريعًا.
ارتبكت إيلي، ثم حاولت إقناع نفسها بأنها توهّمت ما رأته، وأطاعت بعد ذلك السيدة حين طلبت منها الذهاب إلى غرفة الاستقبال.
اجتمع أفراد العائلة في الصالون، وراحوا يلحّون على إينجل ليحدثهم عن أمور المدرسة.
فابتسم راضيًا، وبدأ بسرد القصص والأحداث التي مرّ بها هناك.
وكان أفراد العائلة يطلقون بين الحين والآخر تعابير الدهشة أو التنهد، متفاعلين مع كل كلمة يقولها.
أما إيلي، الجالسة في آخر مقعد على الأريكة، فكانت تحاول الإصغاء جيدًا، لكن عقلها كان مشغولاً بالكامل بالبيانو.
‘لو أخطأت الآن، فسأموت خجلاً…’
ارتجفت من الخوف.
وفجأة، توقّف إينجل عن الكلام واستدعى إحدى الخادمات، طالبًا منها إحضار الشاي للسيدات.
ارتشفت إيلي من الشاي الدافئ محاولة تهدئة نفسها قليلاً.
وحين انتهى إينجل من حديثه الطويل، حان أخيرًا الوقت الذي كانت إيلي تتمنى لو لم يأتِ أبدًا.
قالت السيدة بيلوت بنبرةٍ مليئة بالفخر:
“إيلي أعدّت عرضًا موسيقيًا على البيانو من أجلك. معلمة بارعة درّبتها، لذا سيكون أداؤها رائعًا بلا شك.”
تألّق وجه إينجل فجأة وسأل متحمسًا:
“حقًا؟ من أجلي؟”
ضحكت إيلي بخجلٍ مصطنع، ونهضت لتتجه إلى مقعد البيانو وتجلس.
كانت أطراف أصابعها ترتجف بخفة.
لو أخطأت أمام الجميع، فلن يكون هناك خزيٌ أشدّ من ذلك.
كانت السيدة بيلوت بالتأكيد تريد أن تُظهر للجميع نتيجة ما أنفقته من مال،
أما إيلي، فلم تكن تريد أن تُري إينجل سوى وجهها المتقن والراقي في العزف.
قبضت بيدها بخفة، ثم بسطتها، ووضعت أصابعها على المفاتيح.
كانت بداية المقطوعة سهلة نسبيًا، لكنها أخطأت من اللحظة الأولى بسبب ثقل التوتر.
ارتبكت وضغطت المفاتيح عشوائيًا دون تحكم.
ومنذ تلك اللحظة، انهار كل ما تبقّى من تركيزها.
تداخلت أصابعها، وتحول الجزء الأوسط من العزف إلى فوضى عارمة.
ثم توقفت في النهاية، رافعة يديها عن المفاتيح عاجزة عن الاستمرار.
ساد الصمت الخانق الغرفة،
وشعرت بثقل نظرات الجميع يحدّقون فيها دون أن ينطق أحد بكلمة.
لم تستطع رفع رأسها، أغمضت عينيها بإحكام، وقبضت كفيها من الخجل.
قال إينجل، كاسرًا الصمت وهو ينهض من مكانه:
“لم يكن هناك أحد ليقلب لك النوتة في هذه المقطوعة السريعة والصعبة، أليس كذلك؟”
اقترب بخطوات هادئة نحوها، دون أن يبدو عليه الانزعاج، ووقف بجانبها كما كان يفعل في الماضي، وهمس بصوتٍ منخفض:
“لا بأس. عزفك جميل مهما كان.”
لكن كلمات إينجل اللطيفة لم تواسيها، بل جرحَت كبرياءها.
فالعزف الذي قدّمته لم يكن يعكس مستواها الحقيقي؛
ورغم صعوبة المقطوعة، لم تكن يومًا لتخطئ بهذا الشكل المريع.
عضّت إيلي شفتيها بإصرار، وبدأت العزف مجددًا.
لم يكن الأداء مثاليًا، لكنه جرى دون أخطاء واضحة.
وعندما أنهت المقطوعة، رفعت رأسها ونظرت إلى إينجل بعينين مفعمتين بالثقة.
كان واقفًا خلفها، يمدّ يده لقلب النوتات، لكنه كان يحدّق بها بعينين متقدتين.
نظره لم يهرب حين التقت عيناه بعينيها؛
كانت نظرة مملوءة بالعاطفة، مشبعة بالحرارة والرغبة.
بدت عيناه وكأنهما تقولان بوضوح
‘إيلي، لم أنتهِ بعد.’
تجمّدت إيلي في مكانها، عاجزة عن إخفاء اضطرابها، تحدّق به بدهشةٍ صامتة.
ثم ما لبثت العائلة أن بدأت بالتصفيق، فاستدار إينجل إليهم مستبدلاً ملامحه ببرودٍ طبيعي، وشاركهم التصفيق بيديه.
خفق قلب إيلي بسرعةٍ مضطربة ومنخفضة الإيقاع.
أقنعت نفسها بأنه مستحيل، وأن ما ظنّته مجرد وهمٍ منها.
وفي تلك اللحظة، سمعت الخادمة تعلن أن العشاء جاهز، بصوتٍ بدا كأنه يأتي من بعيد عبر ضبابٍ كثيف.
***
أدرك إينجل أنه يحتاج إلى التصرف بذكاء هذه المرة كي لا يُبعَد مجددًا عن إيلي.
فكبح نظراته، وأجبر نفسه على كتمان مشاعره،
وكان عليه أن يُقنع والديه بأنه لم يعد يكنّ لها أي عاطفة.
وفي الوقت نفسه، خطط لأن يقترب منها خفيةً، بعيدًا عن أعينهم،
حتى يكسب اهتمامها ومحبتها من جديد.
وحين تقع هي أيضًا في حبه، لن يكون هناك سبب لإخفاء شيء بعد ذلك.
‘لأننا سنتزوج في النهاية.’
فكّر بذلك بينما كان يتأمل إيلي الجالسة مقابله على مائدة العشاء.
كانت لا تزال جميلة إلى حدّ الجنون، تشعّ جاذبية آسرة.
صحيح أن معاملتها له كانت باردة أحيانًا، لكنها كانت كافية لإشعال مشاعره حتى من خلال كلماتٍ مهذبة قصيرة.
كان عليه أن يقاوم الرغبة الشديدة في أن يأخذها فورًا إلى غرفته ويغمرها بالقبلات.
وخصوصًا عندما ابتسمت له، كاد يفقد صوابه.
كانت إيلي في عينيه فاتنة لدرجة يستحيل معها ألا يراها جميلة، لكنها في نظر الآخرين أيضًا أصبحت شابةً آسرة الجمال، وذلك ما جعله يشعر بتوترٍ خانق.
إن كان ثمة شيء واحد يفخر به، فهو أنه استطاع منعها من دخول المجتمع الراقي والاختلاط برجاله.
وفجأة، تذكّر فين مارشال، فعبس وجهه فورًا.
ثم قرر أنه سيلتقي هذا الرجل غدًا، أيًّا يكن الثمن.
قال السيد بيلوت:
“إينجل، ما رأيك أنت؟”
انتشله صوته من أفكاره، فانتبه إينجل معتذرًا بابتسامة
“آه، عذرًا يا أبي، كنتُ شاردًا قليلاً ولم أسمع سؤالك.”
فقالت غريس بنبرةٍ مازحة
“هل كنت تفكر بتلك الفتاة، روزاليند؟”
تجمّد إينجل متفاجئًا وسألها
“عن أي كلام تتحدثين؟”
ضحكت غريس قائلة:
“لقد سمعنا كل شيء يا أخي! الرسالة التي كتبتَ فيها أن الآنسة روزاليند أوستر لطيفة وجميلة جدًا!
أمي قرأتها لنا أثناء العشاء.”
تصلّب وجه إينجل بالإحباط.
لم يكن يخطر بباله قط أن القصة التي اختلقها ليُبعد شك والديه قد قُرِئت أمام إيلي.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"