في النهاية، لم تستطع إيلي مقاومة فضولها، فترددت قليلاً قبل أن تقترب منهم.
نظر إليها الخدم جميعًا بنظرات باردة في وقت واحد.
تراجعت إيلي خطوة إلى الوراء وقد دبّ الخوف في نفسها، ثم تمكنت أخيرًا من فتح فمها قائلة:
“هل حدث أمر ما؟”
ظلّوا متحفظين تجاهها كما كانوا دائمًا، لكن يبدو أن فرحهم اليوم كان كبيرًا إلى درجة لم تترك لهم وقتًا لمعاداتها، إذ أجابها أحدهم على نحو غير متوقع من اللطف:
“السيد الشاب مرّ ببلدة مجاورة لـ هيفنلي هيل في شأن من شؤونه، ويبدو أنه يحتاج إلى بعض الوثائق، لذا سيتوقف هنا قليلاً. سيستلم الأوراق ثم يعود فورًا، لكننا متحمسون جميعًا لرؤيته بعد سنوات طويلة.”
ما إن سمعت إيلي ذلك حتى شعرت بالدم يتدفق إلى وجهها، وبقلبها يخفق بسرعة جنونية.
إينجل قادم إلى هنا… سأراه!
اختلطت مشاعرها حتى أربكتها، فهربت من دون أن تردّ على أحدهم ودخلت غرفتها مسرعة.
وضعت يدها على صدرها وأخذت أنفاسًا عميقة.
كانت مشاعر كثيرة ومتناقضة تتصارع في داخلها — اشتياق، فضول، سعادة، حنق، فراغ، غيرة، خيبة، وغضب تائه لا يجد مأوى.
راحت تمشي في الغرفة بقلق شديد وهي لا تفهم نفسها.
ماذا أصبحتُ بالنسبة لإينجل الآن، بعدما وجد فتاة يحبّها؟
هل أنا شبح من الماضي، نسيه في زاوية من بيته القديم؟ أم مجرد نزوة طفولية؟
شعرت إيلي بألم خانق في صدرها، واضطرت إلى الاعتراف بأنها لا تزال تمزّقها مشاعر الحنين والعتب في آنٍ واحد.
كان إحساسها بالمهانة يزداد — كدمية ملّ صاحبها اللعب بها.
جلست أمام مكتبها، ثم نهضت فجأة واتجهت نحو السرير، واستلقت عليه ودفنت وجهها تحت الوسادة.
تنفّست بعمق محاولة تهدئة نفسها، لكن قلبها كان يخفق بجنون تحت صدرها.
وبعد نحو ساعة، دوّى في الخارج صوت حوافر الخيول وعجلات عربة تقترب، ثم سمعت صوت الباب الرئيسي الثقيل وهو يُفتح.
وترددت في الأرجاء نبرة السيدة بيلوت المفعمة بالفرح
“إينجل!”
التفتت إيلي بسرعة إلى الجهة الأخرى، وكأنها تهرب من الصوت، فوقع نظرها على القلادة الذهبية التي كان إينجل قد أهداها لها قبل زمن بعيد.
حدّقت فيها طويلاً ثم نهضت، وفي لحظة اندفاع عاطفي أمسكت القلادة وعلّقتها حول عنقها.
أرادت — في دواخلها — أن يرى إينجل تلك القلادة ويتذكر حماقته الماضية، فيشعر بالخزي والندم.
عضّت شفتيها، وخرجت من الغرفة بخطوات متوترة.
كانت تسير بوجه متصلّب، حين سمعت صوت السيدة بيلوت في البهو تقول
“ابقَ هنا قليلاً يا إينجل، أنتنّ اتبعنني.”
ثم سمعت وقع خطواتها وهي تبتعد مع الخادمات.
وفي مكان ما داخلها، تولّدت شجاعة غامضة، فتابعت السير بخطى ثابتة.
ارتدّ صوت كعب حذائها واضحًا في الردهة الهادئة المقابلة للسلالم المؤدية إلى البهو.
كان قلبها يخفق بعنف يثبت أنها ما تزال على قيد الحياة، بينما بدأ عقلها يفرغ من كلّ وعي.
رفعت أطراف ثوبها الذي كاد يعيقها، وتقدّمت حتى وصلت إلى أعلى الدرج المقابل للمدخل الكبير.
توقفت، وأمسكت بدرابزين الدرج، وألقت نظرة صامتة إلى الأسفل.
هناك، كان رجل يقف بلا حراك، يداه متشابكتان، يتنفس بعمق وبملامح لا تُقرأ.
وفجأة، وكأنه شعر بوجودها، رفع رأسه ببطء، والتقت عيناه بعينيها وهي تقف في أعلى الدرج.
***
لم يكن إينجل غبيًا.
مع مرور الوقت، بدأ يدرك الحقيقة.
فهم لماذا كانت إيلي تتصرّف بذلك البرود نحوه، ولماذا استعجل والداه إرساله إلى المدرسة، ومنعاه بشتى الأعذار من العودة إلى هيفنلي هيل حتى تخرّجه.
وحين توصّل إلى أن والديه يرفضان علاقته بإيلي، أدرك أن أيّ بادرة حبّ منه قد تعني حرمانه منها إلى الأبد.
لكنه كان يشتاق إليها إلى حدّ الألم.
كان يتمنى لو يحتفظ بشيء واحد فقط يحمل أثرها، ولو ورقة بخط يدها، حلم بسيط ألهب قلبه وأثقل عليه أيامه.
كتب مرارًا رسائل يتوسّل فيها ردًّا منها، ثم مزّقها خوفًا من أن يفتحها والداه، فيتسبب لها بالمشاكل ويفقدها نهائيًا.
لم يكن مستعدًا للمخاطرة لمجرد نزوة عاطفية.
لذلك، كتب إلى غريس.
وبعد تبادل عشرات الرسائل مع شقيقته، تأكد أن والديه لا يفتحون بريدها.
وحين اطمأن، دسّ في إحدى رسائله إليها طلبًا صغيرًا — أن توصله برسالة من إيلي.
رسالة واحدة فقط، بخطّ يدها، كتبتها وهي تفكر بي أنا وحدي…
ظنّ أنه بذلك يستطيع احتمال ثلاث سنوات أخرى من البعد.
لكن الردّ الذي وصله لم يكن من إيلي، بل من غريس — وكان محتواه صادمًا.
كتبت تقول إن إيلي تبدو على علاقة خاصة مع فتى آخر.
“فين مارشال…”
تمتم إينجل باسم غريب وهو يقرأه بذهول.
اشتعلت في صدره غيرة عارمة، وتملّكه جنون جعله يتمنى لو يركض فورًا إلى هيفنلي هيل ليضرب ذلك الفتى المسمّى فين مارشال.
لكنّه كان مقيدًا هناك، وكلّ ما استطاع فعله هو قراءة رسالة غريس مرارًا وتكرارًا، يصلي في كل مرة ألا تكون إيلي أكثر من صديقة لذلك الشاب.
بدأ يحضر الحفلات الاجتماعية ويكتب لوالديه تقارير مفصلة عن كل ما يحدث، ليبدّد شكوكهم، ولعلّه أيضًا لينتقم من شعوره بالخيانة.
صحيح أن إيلي لم تعِده بشيء، ولم تُظهر له حبّها يومًا صراحة، لكن غيرته الطفولية وجرحه جعلاه يفقد التمييز بين الصواب والخطأ.
“أنا حبيس هنا منذ أكثر من ثلاث سنوات لأحبّك بلا عائق… وأنتِ تضحكين مع رجلٍ آخر…”
عضّ على أسنانه غيظًا وهو يتخيلها مع ذلك الفتى، ومع ذلك، كانت إيلي تتجاهله تمامًا، لا تردّ على أي رسالة طلبها عبر غريس.
كان محاطًا بالناس، لكن فكره لا يعرف سوى إيلي.
كان يتمنى في كل لحظة أن تكون أي فتاة إلى جواره هي إيلي نفسها.
حين يأكل طعامًا لذيذًا، يفكر بها أولاً، وحين يرى مشهدًا جميلاً أو شيئًا ممتعًا، يتمنى أن تشاركه رؤيته.
وكان يعذبه أكثر من أي شيء آخر إدراكه بأنها تعيش حياتها وهي تفكر برجل آخر.
لهذا السبب، اختلق ذريعة تافهة — وثائق ضرورية — ليزور هيفنلي هيل فقط ليراها ولو من بعيد.
كان واثقًا أن شكوك والديه قد زالت أخيرًا، ودافعه الأكبر كان الشوق العميق الذي لم يعد قادرًا على كبته.
ولهذا، دخل القصر بثبات، كما لو أنه لم يعد يخشى شيئًا في العالم سوى ألا يراها.
لكن عندما سمع أن غريس قد ذهبت لزيارة صديقتها، تبِعَ ذلك في ذهنه احتمالُ أن تكون إيلي قد ذهبت معها أيضًا.
شعر بخيبة أمل كادت تقتله. حقًّا، كان الإحباط يخنق عنقه كأنّه حبل مشدود. وبينما كان واقفًا هناك في ذهول، سمع صوت حركة من الأعلى.
رفع رأسه ونظر نحو الدرج المقابل، وفي تلك اللحظة توقّف قلبه عن الخفقان.
امرأةٌ تضع يديها على الدرابزين، تحدّق به بنظرة باردة. كان شعرها البني مرفوعًا للأعلى، ترتدي فستانًا يُبرز تفاصيل جسدها، وقد تحوّلت إلى سيّدة مكتملة الأنوثة… إيلي.
تجمّد أينجل في مكانه محدّقًا بها في ذهول، كأنّه يرى ملكة لا يمكنه بلوغها.
كانت تنظر إليه بصمت، دون أن تنطق بكلمة.
بدا الوقت بينهما وكأنه توقّف تمامًا.
أراد أن يصعد الدرج ويقترب منها فورًا، لكنّ قدميه لم تستجيبا من شدّة الصدمة.
ثمّ سمع ضجيج خفيف، إذ عادت السيدة بيلوت مع الخادمات إلى المدخل، وكنّ يحملن في أيديهن الطعام والملابس النظيفة.
شعر وكأن السحر الذي غلّفه قد انحلّ فجأة. رفع بصره بسرعة نحو أعلى الدرج مجددًا، لكن إيلي كانت قد اختفت من هناك.
***
طوال الطريق عائدًا إلى المدرسة في العربة، كان قلب أينجل يخفق بجنون.
ظلّ يرسم صورة إيلي في ذهنه مرارًا وتكرارًا.
كان يتأمل ملامحها من الرأس إلى أخمص القدمين كما لو كان يتذوّقها بعينيه، حتى شعر بلهيب حارق يشتعل في داخله.
أسند رأسه إلى جدار العربة وأخذ نفسًا عميقًا، لكن النار لم تنطفئ، ولم يُبدِ قلبه أيّ نية للتوقّف.
وصل إلى السكن الجامعي مترنّحًا، يقطع الساحة بخطوات واسعة.
كان هايدن يُعدّ الشاي حين رأى مظهر أينجل فصاح من الدهشة
“ما الأمر؟ ماذا حصل لك؟”
لكن أينجل تجاهله، ودخل غرفته كالشبح، أغلق الباب واستلقى على السرير.
قلبه كان لا يزال ينبض بقوة مؤلمة.
غطّى رأسه بالبطانية محاولاً النوم، لكن رأسه كان يدور، ووعيه يعود دومًا إلى إيلي.
شعر بجسده يشتعل كما لو لامسته النار.
في النهاية، نهض مجددًا، وأخرج زجاجة الخمر من رفوف مكتبته.
شربها كأنّها ماء، ثم عاد واستلقى على الفراش.
وفي تلك الليلة، أدرك في حلمه ما كانت تلك النار التي تلفّ جسده.
في الحلم، كانت إيلي مستلقية على سريره مرتديةً ثوب نوم فقط.
ابتسمت له ابتسامة غامضة وهي تنظر إليه بثبات.
وفي النهاية، لم يستطع مقاومة اندفاعه، فألقى بنفسه في أحضانها.
قبّلها كما يشاء، وعضّ برفق عنقها الذي تتدلّى عليه القلادة التي كان قد أهداها لها، فقهقهت ضاحكة.
رفع رأسه ونظر إلى وجهها. كانت وجنتاها متوردتين، وعيناها تلمعان بمرح وهي تنظر إليه.
جلس أينجل فوقها، خالعًا ثوب نومه بعجلة، وممزقًا ثوب نومها دون تفكير.
انكشفت بشرتها البيضاء الناصعة، وفي تلك اللحظة اشتعلت النيران مجددًا في جسده بأكمله…
وفي فجر ذلك اليوم، استيقظ فجأة.
حدّق في السقف بعينين فارغتين وهو يفكر.
لقد بات الآن لا يشعر تجاه إيلي بالحب فحسب، بل بالرغبة أيضًا.
وأدرك حدسه أن الأشهر الستة المتبقية ستكون أشد بطئًا من السنوات الثلاث التي مضت.
***
كانت إيلي، هي الأخرى، غارقة في الارتباك.
فقد عادت تتذكّر ملامح أينجل وقد أصبح شابًّا مكتمل الرجولة في التاسعة عشرة من عمره.
كان أفراد عائلة بيلوت طوال القامة عادةً، لكنها كانت تعتقد أنّ أينجل استثناء، لأنه عانى من مرض شديد في طفولته.
غير أنّ قامته الآن تجاوزت أغلب الرجال.
كان شعره الأشقر مبتلاً بالعرق وقد أزاحه جانبًا بيده، بينما نظر إليها بعينين مدهوشتين.
لم يكن ذاك الطفل الضعيف الذي كان طريح الفراش فيما مضى.
وجهه المنحوت الجميل، كتمثال ملاك، جعلها تفهم لماذا يحظى بكل تلك الشعبية.
شعرت إيلي بالغباء والخجل من نفسها.
لقد بلغ أينجل مرتبة لا يمكنها الوصول إليها.
كان من الطبيعي تمامًا أن يقع في حبّ امرأة أخرى راقية ومثالية.
حتى أنه لَأمر مدهش أن يتذكّر وجودها أصلاً.
ومع ذلك، ها هي ترتكب تصرّفًا أحمق فقط لتثير إعجابه!
نزعت القلادة بعنف، كما لو كانت تزيح عنها حشرة، واشتعل في صدرها الغضب من حماقتها.
رمت القلادة في صندوق المجوهرات فوق المكتب بلا مبالاة، ثم جلست على السرير ودفنت وجهها بين ركبتيها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"