في ذلك الوقت تقريبًا، كان الحديث قد بدأ يدور حول وجوب دخول إيلي وغريس إلى المجتمع المخملي، تمامًا كما فعل إينجل من قبل.
كانتا تقتربان من السابعة عشرة من العمر، وفي أوج ازدهار جمالهما.
ازدادت كثافة شعر إيلي البني الغامق وأصبح لامعًا، وكانت الندبة الصغيرة التي تظهر عند ابتسامتها، مع وجنتيها الورديتين اللتين ترتفعان كتلّين دائريين عندما تضحك، تجعلها تبدو فتاة محبوبة بكل المقاييس.
وإضافة إلى ذلك، فإن عادة إيلي في رفع نظرها بعينيها البنيتين الشفافتين إلى الآخرين وهي تبتسم ابتسامة غامضة، كانت تمنحها سحرًا فريدًا.
أما جسدها النحيل سابقًا، فقد اكتسب بعض الامتلاء بفضل الوجبات المتوازنة في منزل بيلوت، كما ازداد طولها قليلاً.
ولو أن الناس نظروا إلى إيلي وحدها، لقالوا إنها فتاة جميلة للغاية.
لكن، وكما هو الحال دائمًا، لم تكن تحظى بأي اهتمام، وكان السبب كما هو دائمًا: غريس.
كانت غريس تنمو لتصبح جمالاً ساحرًا بكل معنى الكلمة.
شعرها الأشقر المتموّج، ورموشها الكثيفة، وعيناها الزرقاوتان اللامعتان، وشفاهها الممتلئة، وبشرتها البيضاء النقيّة الخالية من أي شائبة، وسلوكها الأنثوي الرصين، وساقاها الطويلتان المتناسقتان اللتان ورثتهما عن والدتها… كل ذلك بدا وكأنه وُجد خصيصًا لتسليط الضوء على وجودها دون غيرها.
في الحقيقة، كان ظهورها المرتقب في المجتمع الراقي مُعدًّا من أجلها وحدها.
انقسمت الآراء في منزل بيلوت حول هذه المسألة إلى فريقين:
فقد رأى السيد بيلوت أنّ غريس ينبغي أن تخرج إلى المجتمع برفقة إيلي.
فهما تمضيان وقتًا طويلاً معًا، والناس يعلمون أن لإيلي مكانة كرفيقة لغريس، لذلك سيبدو غريبًا لو لم تظهر إيلي معها.
كما أضاف السيد بيلوت أن ابنته بحاجة إلى من يراقبها في الحفلات لئلّا تأتي بتصرفات طائشة.
أما السيدة بيلوت فعارضت بشدة، قائلة إن مراقبة غريس يمكن أن تتولاها هي شخصيًا أو المعلمة الخاصة، وأنه من غير اللائق أن تُقدَّم مجرد “رفيقة حديث” — ليست حتى ابنة بالتبنّي — في وسط النبلاء وكأنها من علية القوم.
ولأنّ كلا الرأيين كان له وجاهته، فقد نشبت بينهما نقاشات متكررة.
أما إيلي، التي كانت سبب الجدل، فجلست في مكانها بارتباك وشعور بالذنب، غير قادرة على الانحياز إلى أيّ طرف.
رأت أن الأفضل أن تنتظر بهدوء حتى يُصدر أحدهم أمره.
من أعماقها، لم تكن إيلي تبالي كثيرًا بالأمر، لكن جزءًا منها كان يرغب في حضور حفلة راقية كتلك، فقط ليختبر أجواءها.
فهي رغم كرهها للأثرياء، كانت في الوقت نفسه مفتونة بحياتهم المترفة.
لكن جزءًا آخر منها كان يخشى الذهاب، لأنها كانت متأكدة من أنها ستصبح موضع سخرية هناك، ففضّلت البقاء في غرفتها وقراءة كتاب بهدوء.
أما غريس، فلم تكن تعرف هي الأخرى ما هو القرار الصائب.
كانت تفكر كثيرًا في إيلي، وتريد اصطحابها، لكنها كانت تخشى أن تتعرض صديقتها للسخرية أو الإهانة فتنكسر روحها.
لذا، قررت استشارة شقيقها الحكيم إينجل، وروت له ما يجري في المنزل طالبة رأيه.
جاء ردّ إينجل سريعًا، مؤكّدًا أن قرار الأم هو القرار الصائب.
وبذلك، تقرّر رسميًا أن تظهر غريس لأول مرة في المجتمع برفقة والدتها فقط.
حاولت إيلي أن تُخفي شعورها بالحزن وخيبة الأمل، وواصلت مساعدة غريس في تحضيراتها للحفل بكل إخلاص.
***
في الليلة التي سبقت الرحيل إلى قاعة الحفل، جرّبت غريس فستانها الأبيض الذي سترتديه في الحفلة.
رفعت إيلي رأسها عن الكتاب الذي كانت تقرأه، وحدّقت فيها مذهولة، وقد انقطع نفسها أمام بريق القماش الذي بدا وكأنه يحتجز ضوء العالم كله بين طيّاته.
ابتسمت غريس باعتذار خفيف، ثم تناولت العقد الذي ستضعه في الحفل وقرّبته من عنق إيلي قائلة:
“انظري يا إيلي، أظنه يليق بك أكثر…”
لكن، وقبل أن تُكمل كلماتها، نزعت إيلي العقد بعنف دون وعي منها.
نظرت إليها غريس بدهشة، بينما حاولت إيلي التقاط أنفاسها وقالت بتلعثم:
“أنا… لا يليق بي شيء كهذا…”
احمرّ وجه إيلي بشدّة، وغمرها إحساس بالخجل والغباء حتى لم تعد تحتمل البقاء.
استدارت فجأة وغادرت غرفة غريس راكضة.
كانت تتساءل في ألمٍ: لماذا تختلف عن غريس في كل شيء من الرأس إلى أخمص القدمين؟
وشعرت بغصّة من الغيرة والاحتقار لذاتها كأنّها حبل يلتفّ حول عنقها.
في تلك الليلة، أرسلت غريس إلى غرفة إيلي كتالوجًا يمكن من خلاله طلب عقد جديد — في قمّة اللطف والرحمة — لكن ذلك لم يزد إيلي إلا شعورًا بالانكسار والعار.
وضعت الكتالوج داخل درج خزانتها، وأغلقته بالمفتاح، ثم ألقت المفتاح من النافذة، وكأنها تحاول دفن تلك المشاعر المؤلمة، لكنها لم تفعل سوى أن غرقت أكثر في الإحباط وازدراء الذات.
وفي فجر اليوم التالي، بينما لم تكن إيلي قد أغلقت جفنًا، غادرت غريس قصر هيفنلي هيل وسط الهتافات والتمنيات الحارة من الجميع.
***
قضت إيلي وقتها الممل في غياب غريس برفقة فين.
كان فين قد كبر هو الآخر، وتحول من فتى إلى شاب، لكن شعره الأحمر ونمش وجهه وطبعه المرح ظلّ كما هو.
جلس الاثنان على التلّ، يراقبان القصر الممتدّ أمامهما، بينما كان فين يثرثر بأحاديث لا طائل منها، حتى أدرك فجأة أن إيلي لم تكن تردّ عليه إطلاقًا.
فعقد حاجبيه وضرب كتفها بخفّة قائلاً:
“لا تقولي إنك محبطة لأنك لم تحضري اجتماع أولئك المتغطرسين؟”
ضحكت إيلي ضحكة قصيرة عند سماعها الكلمة. المتغطرسون… كانت مندهشة من جرأة فين في وصف النبلاء بهذه البساطة، وشعرت بأن كلماته تبعث في نفسها بعض العزاء.
وبعد أن خفّ عنها الضيق قليلاً، رمقته إيلي بنظرة مازحة وقالت
“ماذا تظنّني؟”
فأجاب وهو يمضغ تفاحته
“أجل، لا مكان لك في مثل تلك الأماكن أصلاً.”
كلماته أعادت الحزن إلى قلبها، فضمّت ركبتيها بذراعيها بصمت.
لم تكن إيلي تفهم بالضبط سبب كآبتها.
هل لأنها لم تُدعَ إلى المجتمع الراقي؟
أم لأن إينجل رفض إدخالها إلى عالمه؟
أم بسبب المسافة التي لا تنتهي بينها وبين غريس؟
قال فين فجأة وهو يرمي التفاحة التي كان يأكلها أسفل التلّ
“المكان الذي تنتمين إليه هو هنا، على الأرض!”
ثم نهض واقفًا مبتسمًا، ونظر إليها من علٍ، وما إن حدّقت فيه إيلي بوجه مذهول، حتى صرخ وضحك ثم رفعها فجأة عن الأرض كما لو كانت كيسًا من القماش، وحملها على كتفه.
صرخت إيلي وحاولت التملّص، لكن فين تجاهلها ممسكًا بها بإحكام من أسفل ظهرها، وركض بها هابطًا التلّ بسرعة.
وصدى صراخ إيلي الذي دوّى في أرجاء هيفنلي هيل تحوّل تدريجيًا إلى ضحك عالٍ.
“إن أسقطتني، سأقتلك أيها الأحمق!”
صرخت إيلي مهددة بنبرة لطيفة، فضحك فين بأعلى صوته، وزاد من سرعته وهو يركض.
وبينما كانت الريح تصفع وجهها، بدت كلّ هموم إيلي وكأنها تتطاير بعيدًا عنها.
***
بعد عشرة أيام، عادت غريس وقد امتلأ وجهها بالحيوية والنضارة.
كانت قد عاشت في الحفلة تجارب ممتعة لا تُعدّ ولا تُحصى.
وبفضل مكانتها النبيلة، وأصلها الكريم، وجمالها الباهر، وطباعها اللطيفة والمرحة، لم تكن بحاجة إلى أي جهد حتى يتقرب منها الناس.
بل إن أصدقاء إينجل المعروفين في المجتمع كانوا قد سمعوا عنها، ورغبوا بلقائها، فكانت محاطة بالناس من كل جانب.
كانت غريس الفتاة التي تلقت أكبر عدد من طلبات الرقص، ونالت أكثر كلمات الإطراء، حتى غدت أشبه بملكة الحفل.
كان ما اختبرته غريس ثمينًا ورائعًا إلى درجة أنها لم تستطع الصبر حتى تخبر إيلي بكل شيء.
وفي أعماقها، كانت تشعر بالأسف لأنها لم تتمكن من مشاركة تلك التجربة مع إيلي.
وبعد ظهورها في المجتمع، بدأت غريس تتلقى دعوات كثيرة من بيوت مرموقة.
أرادت في البداية أن ترفضها وفاءً لإيلي، لكن إيلي هي من شجعتها قائلة إنه لا داعي للرفض، وإن عليها أن تذهب.
غير أن إيلي كانت ترى في ذلك التعاطف نوعًا من الترف الذي يمنحه المنتصر للمهزوم، فتعتبره رياءً مقنّعًا.
كما أن غريس — مهما اعتبرت إيلي صديقتها المقربة — لم تكن كذلك حقًا من وجهة نظر إيلي.
فإيلي لم تكن يومًا صديقتها، بل مجرد رفيقة عمل، أشبه بخادمة أو موظفة لديها.
ولذلك لم تشعر بأي غيرة عندما بدأت غريس تبني صداقات جديدة.
***
وهكذا، بلغت كلّ واحدة منهما السابعة عشرة بطريقتها الخاصة — إحداهما دون أي تغيير، والأخرى عند مفترق حاسم في حياتها.
كان إينجل سيعود إلى المنزل بعد ستة أشهر، فور تخرّجه من المدرسة.
شعرت السيدة بيلوت أحيانًا بالكآبة وهي تفكر بأنها باتت تتقدم في العمر، لكنها كانت تمتلئ امتنانًا وشوقًا عندما تتذكر أن ابنها سيعود قريبًا.
وبابتسامة راضية، طلبت من إيلي أن تعزف على البيانو عند عودته.
بدت إيلي متعجبة من مرور ثلاث سنوات كاملة دون أن تراه.
صورة وجهه الطفولي كانت تطفو على أطراف ذاكرتها ثم تختفي سريعًا، وأحست بشيء من الحنين، لكنها قاومته وتجاهلته.
أما غريس، فقد حصلت على إذن والديها لزيارة أسرة راسل التي ازدادت قربًا منها مؤخرًا.
رفضت إيلي مرافقتها متذرعة بالتعب، وبقيت وحيدة تشعر بالملل.
حتى فين اختفى ولم يظهر منذ الصباح، فلا مجال للخروج معه.
فقد صار مؤخرًا يختلط بالخدم الآخرين ويشرب الخمر سرًا، وربما خرج اليوم لنفس السبب.
اضطرت إيلي للبقاء في غرفتها، تقلب صفحات الكتب في ضجر قاتم.
لكنها سمعت فجأة ضجيجًا بالخارج، فوضعَت الكتاب جانبًا وخرجت لتتأكد مما يحدث.
رأت في الممر مجموعة من الخدم متحلّقين وهم يتحدثون بحماسة.
وكانت وجوههم، التي طالما تجمدت تحت وطأة التعب وأوامر السيدة بيلوت القاسية، تعلوها هذه المرة علامات الدهشة والفرح، في مظهر بدا غريبًا عليهم.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"